«إنَّ رجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللَّه بغيرِ حقٍّ، فلهُمُ النارُ يومَ القيامةِ».
رواه البخاري برقم: (3118)، من حديث خَولَة الأنصارية -رضي الله عنها-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يَتَخوَّضُون»:
أصل الخوض: المشي في الماء وتحريكه، ثم استُعمل في التلبس بالأمر، والتصرف فيه، أي: رُبَّ متصرِّفٍ في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله، والتَّخَوُّض: تفعُّل منه، وقيل: هو التخليط في تحصيله من غير وجهه كيف أمكن. النهاية، لابن الأثير(2/ 88).
وقال الراغب -رحمه الله-:
الخوض: هو الشروع في الماء، والمرور فيه، ويُستعار في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه، نحو قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} التوبة: 65. المفردات (ص: 302).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ رجالًا»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إنَّ رجالًا» رجال هذه نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق، لا تدل على العموم، فكأنه قال: إنَّ من الرجال؛ لأن النكرة في سياق الإثبات تدل على الإطلاق إلا في موضع واحد: إذا كانت في سياق الإثبات على وجه الامتنان، فإنَّها تكون للعموم (كقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الرحمن: 68، فتَعُمّ جميع أنواع الفواكه والنخل والرمان). فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنَّ رجالًا»: أي: مِن العُمال وغيرهم. مرقاة المفاتيح (6/ 2433).
قوله: «يَتَخَوَّضُون في مالِ اللهِ»:
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «يَتَخَوَّضُون في مال الله» أي: يَخْلِطُون فيه ويُلبسون في أمره، ويكون بمعنى: الخوض في وجوه تحصيله من غير وجهه، وكيفما أمكن من غير ورع، ولا تحفُّظ، مع الاستكثار منه. مطالع الأنوار (2/ 482).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في التفعُّل مبالغة، والمعنى: يُسرعون ويدخلون ويتصرفون. مرقاة المفاتيح (6/ 2433).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
الخَوْضُ: أصله الدخول في الماء، واشتُهر في الباطل، يريد هؤلاء الظلمة الذين لم يجعلوا الفيء والغنيمة في مصرفه. الكوثر الجاري (6/ 105).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ رجالًا يتخوضون» أي: يُسرعون ويتصرفون في مال بيت المال أو الزكاة أو الغنيمة أو الفيء بغير إذن الإمام، ويأخذون منه أكثر من أجرة عملهم. المفاتيح (4/ 317).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «يتخَوَّضُون» بالمعجمتين «في مال الله بغير حق» أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، وهو أعم من أنْ يكون بالقسمة وبغيرها. فتح الباري (6/ 219).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
التخَوُّضُ: ... هو التصرُّف والتقلُّب، يتصرَّفون في مال الله بما لا يرضاه، وهو شامل لكل متصرف بالمال في وجوه مَغَاضِب الله. التنوير (3/ 615).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
في قوله: «يتخوَّضون» دلالة على أنَّه يقبح توسُّعهم منه زيادة على ما يحتاجون، فإن كانوا من ولاة الأموال أبيح لهم قدر ما يحتاجونه لأنفسهم من غير زيادة. سبل السلام (2/ 668).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يتخوَّضُون» هذه من الخَوض، والخوض هو: الشيء الباطل الذي يَتصرف فيه الإنسان تصرفًا أَهْوَجَ، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} الطور: 12، والتخَوُّض في المال نوعان: سابق ولاحق، فأما التخوض السابق فمعناه: أنْ يكتسب الإنسان المال من أي وجه كان حلالًا أو حرامًا، المهم أنْ يجمع المال، هذا تخوض، نقول: إنه تخوض سابق على كسب المال، والتخوض اللاحق: هو الذي يكون بعد كسب المال، لا يُحسن التصرُّف فيه، يتخوض فيه يمينًا وشمالًا بالملاهي والملذات وغيرها من الأشياء التي لا تنفع، بل هي إضاعة للمال. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
في قوله: «يتخوضون» دليلٌ على أنهم يتصرَّفُون تصرُّفًا طائشًا غير مبني على أصول شرعية، فيفسدون الأموال ببذلها فيما يضر، مثل من يبذل أمواله في الدخان أو في المخدرات أو في شرب الخمور، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضًا يتخوضون فيها بالسرقات والغصب، وما أشبه ذلك، وكذلك يتخوضون فيها بالدعاوى الباطلة؛ كأنْ يدّعي ما ليس له وهو كاذب، وما أشبه ذلك. شرح رياض الصالحين (2/ 538).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «في مال الله» مُظْهَرٌ أُقِيم مقام المضْمَر، إشعارًا بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله، والتصرف فيه بمجرد التَّشَهِّي. فتح الباري (6/ 219).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«في مال الله» الذي جعله لمصالح المسلمين من نحو فَيْءٍ وغنيمة. فيض القدير (2/ 450).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في مال الله» أي: ما في بيت المال من الزكاة والخَرَاجِ والجزية والغنيمة وغيرها. مرقاة المفاتيح (6/ 2433).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد بمال الله: بالمال الذي لا يستحقه العبد، وهو حق لغيره تحت يده كالزكوات ونحوها من بيوت الأموال وغيرها. التنوير (3/ 615).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «في مال الله» قد يقول قائل: إنَّ المراد به التخوض في الأموال الشرعية كالزكاة والغنيمة والفيء والخَراج وما كان في بيت المال، نقول: هذا احتمال وارد لا شك، والتخوض في هذه الأموال أشد من التخوض في مال الفرد الحرِّ؛ لأن التخوض في مال الفرد الحر يمكن للإنسان أن يبرأ منه بطلب المسامحة أو المعاوضة، أو ما أشبه ذلك، لكن المشكل أنْ يتخوض في مال عام كأموال الزكاة والغنيمة والفيء.
أقول: إنَّ هذا وارد أنْ يكون قوله: «في مال الله» أي: الأموال الشرعية، ويحتمل: أنه عام، كما في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} النور: 33، وهذا ليس المراد به الأموال الشرعية، وعلى هذا فيكون قوله: «في مال الله» يشمل جميع الأموال الشرعية والمكتَسبة. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373).
قوله: «بغيرِ حقٍّ»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «بغير حق» أي: بغير قِسْمَةٍ حَقَّةٍ، واللفظ وإن كان أعم من ذلك، لكن خصَّصناه بالقسمة لتفهم منه الترجمة صريحًا (وهي باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أُحلت لكم الغنائم»). الكواكب الدراري (13/ 93).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«بغير حق» أي: بغير إذْنِ الإمام، فيأخذون منه أكثر من أُجرة عملهم. شرح المصابيح (4/ 279).
وقال ابن الملك -رحمه الله- أيضًا:
«بغير حق» أي: بغير أمر الله ورسوله. شرح المصابيح (4/ 435).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بغير حق» بل بالباطل، بلا تأويل صحيح. التيسير (1/ 319).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «بغير حق» الظاهر أنها صفة كاشفة، وليست صفة مقيِّدة، أي: تُبيِّن أنَّ كلَّ خوض في المال فإنه بغير حق، وليست صفة مقيِّدة؛ لأنها لو كانت صفة مقيِّدة لكان الخوض ينقسم إلى قسمين: حق وباطل، وهذا ليس بوارد، التخوض كله باطل، فعلى هذا يكون قوله: «بغير حق» صفة كاشفة، والصفة الكاشفة لا تفيد التقييد، وإنما تفيد التعليل، مثال ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} البقرة: 21، لو جعلنا {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} صفة مقيِّدة لكان لنا ربان: أحدهما في قوله: (ربكم) والثاني: (الذي خلقنا والذين من قبلنا، ولكنها صفة كاشفة، أي: مُبيِّنة للواقع، وتفيد التعليل، أي: من أجل كونه هو الخالق يجب أن تتقوه. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373).
قوله: «فلهم النَّارُ يومَ القيامةِ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فلهم النار» خبر «إنَّ»، وأَدْخَلَ الفاء لأن اسمها نكرة موصوفة. الكاشف عن حقائق السنن (8/ 2603).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حكمٌ مرتَّبٌ على الوصف المناسب وهو الخوض في مال الله، ففيه إشعار بالعلية. فتح الباري (6/ 219).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«فلهم النار يوم القيامة» أي: يستحقون ذلك، إلا أنْ يغفر الله لهم. الكوثر الجاري (6/ 105).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فلهم النار» أي: أبدًا إنْ استحلُّوا، وإلا فمدة شاءها الله تعالى. مرقاة المفاتيح (6/ 2581).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فلهم النار» أي: يستحقُّون دخولها «يوم القيامة». التيسير (1/ 319).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «فلهم النار يوم القيامة» وهذا وعيدٌ، والجملة هنا مربوطة بالفاء. فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373).
وقال الشيخ -رحمه الله-:
فالمهم أنَّ كُل من يتصرف تصرفًا غير شرعي في المال - سواء في ماله أو مال غيره - فإن له النار والعياذ بالله يوم القيامة، إلا أنْ يتوب، فيردَّ المظالم إلى أهلها، ويتوب مما يبذل ماله فيه من الحرام، كالدخان والخمر، وما أشبه ذلك، فإنَّه ممن تاب الله عليه؛ لقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر: 53.
شرح رياض الصالحين(/٥٣٨).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يوم القيامة» فيه إشارة إلى سُرعة دخولهم النار قبل انقضاء ذلك اليوم، ويمكن أنْ يُراد به مطلق الدار الآخرة، والله تعالى أعلم. مرقاة المفاتيح (6/ 2581).
وقال المناوي -رحمه الله-:
القصد بالحديث: ذم الولاة المتصرفين في مال بيت المال بغير حق، وتوعدهم بالنار. التيسير (1/ 319).
وقال ابن باز -رحمه الله-:
هذا وعيد عظيم فيمن يخوض في الأموال بغير حق، فمَن كان أميرًا أو ملكًا يجب عليه أنْ يتقيد بشرع الله. الحلل الإبريزية (3/ 8).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: زجرٌ ومنعٌ بالغ، مشوف باللُّطف، وهو زجر الكل بإيهام اللفظ، وإرادة عين البعض، وفيه أنواع من الحِكَم، وهو من جوامع الكلمات. الأزهار مخطوط لوح (346).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على أنه يحرم على مَن لم يستحق شيئًا من مال الله تعالى -بألا يكون من المصارف التي عَيَّنَ سبحانه وتعالى- أن يأخذه ويتملكه، وأن ذلك من المعاصي الموجِبة للنار، ويدخل في هذا النوع من كان بيده مال الله تعالى من إمام أو والٍ وصَرَفَهُ في غير مصارفه؛ اتِّباعًا لتشهِّيه واختياره. البدر التمام (10/ 294).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يُستفاد من هذه الأحاديث: أنَّ بين الاسم والمُسمّى به مناسبة، لكن لا يلزم اطِّراد ذلك.
وأنَّ مَن أخذ من الغنائم شيئًا بغير قَسم الإمام كان عاصيًا.
وفيه: ردع الولاة أنْ يأخذوا من المال شيئًا بغير حقه، أو يمنعوه من أهله. فتح الباري (6/ 219).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
فيه: إشعار بأنه لا ينبغي الخوض في مال الله ورسوله والتصرف فيه بمجرد التشهي. السراج المنير (2/ 92).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
فيه: أنَّ التصرف في بيت المال لا يجوز بمجرد التشهي، وفي رواية الترمذي من حديث خولة بنت قيس بن قَهْد: «إنَّ هذا المال خضرة حلوة، مَن أصابه بحقه بُورك له فيه، ورُبَّ متخوِّض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار». تطريز رياض الصالحين (ص: 172).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد:
أولًا: تحريم التخوُّض في المال، وأنَّ ذلك من الكبائر، وجه الدلالة: أنه توعد عليه بالنار.
يتفرع من هذه الفائدة: أنه يجب على الإنسان حماية ماله من التخوض فيه، وهذا بمعنى النهي عن إضاعة المال.
ومن فوائده: أنه يحرم على الإنسان أنْ يكتسب المال إلا من وجهٍ حلال بحق، بناء على ما قلنا: إنَّ التخوض يكون سابقًا ولاحقًا، وهو كذلك، فالواجب على الإنسان أنْ يحتاط احتياطًا تامًّا فيما يكتسبه من المال، وألا يأخذ كل ما هَبَّ ودَبَّ، بل يتقي الشبهات.
ومن فوائد الحديث: إضافة ما بأيدينا إلى ربنا -عزَّ وجلَّ-؛ لقوله: «من مال الله»، فإذا قال قائل: أليست الأموال لنا؟ فالجواب: بلى، أضافها الله -عزَّ وجلَّ- إلينا: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} النساء: 5، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} البقرة: 188، لكن إضافتها إلينا إضافة تصرُّف، لا إضافة خلق وإيجاد، يعني: الذي أوجدها وخلقها هو الله -عزَّ وجلَّ-، ثم إنَّ تصرُّفنا فيه مقيَّد بما أَذِنَ الله فيه، فليس لنا أنْ نعمل كما شِئنا، إذًا: وجه الإضافة ظاهر: أنَّ الله هو الذي خلقها، وهو الذي رزقنا إياها، وهو الذي شرع لنا أنْ نتصرف فيها كما شاء.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا ذَكَرَ الحُكم أنْ يذكر العلة؛ لاطمئنان النفس؛ لقوله: «بغير حق».
ومن فوائد الحديث: إثبات النار، وإثبات يوم القيامة؛ لقوله: «فلهم النار يوم القيامة». فتح ذي الجلال والإكرام (6/ 373-374).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أيضًا:
هذا (يعني: الحديث) أيضًا مما يدل على تحريم الظلم في الأموال الذي هو خلاف العدل...
وفي هذا الحديث: تحذير من بذل المال في غير ما ينفع والتخوض فيه؛ لأن المال جعله الله قيامًا للناس تقوم به مصالح دِينهم ودنياهم، فإذا بذله في غير مصلحة كان من المتخوِّضين في مال الله بغير حق. شرح رياض الصالحين (2/ 538-539).