«يا أبا بَكْرٍ ثلاثٌ كلُّهنَّ حقٌّ: ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عنها للَّهِ -عزَّ وجلَّ- إلَّا أَعَزَّ اللهُ بها نَصْرَهُ، وما فتح رجلٌ بابَ عطية يريد بها صِلَةً إلَّا زادَهُ اللهُ بها كثرةٍ، وما فتح رجلٌ بابَ مسألةٍ يُرِيدُ بها كثرة إلَّا زَادَهُ الله -عزَّ وجلَّ- بها قِلَّة».
رواه أحمد برقم: (9624)، والبيهقي في الكبرى برقم: (21096)، والطبراني في الأوسط برقم: (7239)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (5646)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2231).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بمَظْلَمَة»
بكسر اللام. قال شيخنا: فيه قصور ظاهر، وقد نقل التثليث فيه صاحب التوشيح في كتاب المظالم، والفتح حكاه ابن مالك، وصرح به ابن سيده وابن القطاع، والضم أنكره جماعة، ولكن نقله الحافظ مغلطاي عن الفراء. قلت: وهكذا ضُبط بالتثليث في نسخ الصحاح. تاج العروس(33/٣٥)
«فَيُغْضِي»:
مِن الإِغْضَاء بالغين والضاد المعجمتين، وهو إدناء الجُفُون بمعنى: الإغماض، والمراد منه هنا: الإعراض، وفي نسخة: «فيُعْفِي» بالعين المهملة من الإعفاء، وهو لغةً في العفو، والمعنى: فيُسامح. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3186).
شرح الحديث
قوله: «يا أبا بكرٍ، ثلاثٌ كلهنَّ حقٌّ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يا أبا بكر، ثلاثٌ» أي: خصال، «كلهنَّ حقٌّ» أي: ثابت وصدق. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
قوله: «ما مِن عبدٍ ظلم بمظلمة فَيُغْضِي عنها للَّه -عزَّ وجلَّ- إلَّا أَعَزَّ الله بها نَصْرَهُ»:
قال الساعاتي -رحمه الله-:
«فيُغْضِي عنها» المعنى: أنَّه لم يُقَابِل المظلمة بمثلها، بل يعفو عمَّن ظَلَمَهُ. الفتح الرباني (19/ 82).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فيُغضي»... وفي نسخة: «فيُعْفِي» بالعين المهملة من الإِعفاء، وهو لغة في العفو، والمعنى: فيُسامِح «عنها» أي: عن تلك المظلمة، ويترك جوابها، أو المطالبة بها في الدنيا، أو مطلقًا «لله -عز وجل-» أي: لا لفخر ولا سُمعة ورياء. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إلا أعزَّ الله بها» أي: بمقابلة تلك المظلمة والإهانة، أو بسبب تلك الخصلة الْمُعَانَةِ «نَصْرَهُ» أي: إعانته في الدنيا والآخرة. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
قوله: «وما فتح رجلٌ باب عطية يريد بها صلة إلَّا زَادَهُ اللهُ بها كثرة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وما فَتَحَ رَجُلٌ بابَ عطيَّةٍ» أي: صدقة «يريد بها صِلَةً» أي: صلةً للرحم والقرابة، أو وصلة للقُربة، وفي رواية: «باب عطية» بصدقة أو صلة. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إلا زاده الله تعالى بها كثرة» في ماله؛ بأنْ يُبارك له فيه. فيض القدير (5/ 458).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إلا زاده الله بها كثرة» في ماله {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} سبأ: 39، «ما نَقَصَ مالٌ مِن صَدَقَةٍ». التنوير (9/ 421).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إلا زاد الله بها كثرة» أي: بركة صُوْرِيَّة ومعنوية. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
قوله: «وما فَتَحَ رجلٌ بابَ مسألةٍ يُرِيدُ بها كَثْرَةً إلَّا زَادَهُ اللهُ -عَزَّ وجلَّ- بها قِلَّة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وما فَتَحَ رجلٌ باب مسألةٍ» أي: سؤال من مخلوق. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وما فتح رجلٌ باب مسألةٍ» يطلب من العباد أموالهم. التنوير (9/ 421).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يريد بها كثرةً» أي: لا دَفْعَ حاجةٍ ضرورية تُلْجِئُه. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يريد بها كثرةً» أي: تَكَثُّرًا في ماله لا لحاجة، فهذا مقيِّد لإطلاق غيره من أحاديث المنع عن المسألة، إلا أنه قد فَسَّرَ إجمالَ هذا التقييد حديث أنَّها «لا تَحِلُّ المسألة إلا لذي فقر مُدْقِعٍ (يعني: شديد)، أو دمٍ مُوْجِعٍ (مؤلم، أي: أنه تحمل دية فيسعى لأدائها)، أو حمَالةٍ (أي: غرامة عن شخص) يحملها». التنوير (9/ 421).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إلا زاد الله بها قلَّة» أي: حسيَّة أو حقيقية. مرقاة المفاتيح (8/ 3186).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إلا زاده الله تعالى بها قِلَّة» بأنْ يمحق البركة منه، ويُحْوِجَه حقيقة، يعني: من وسَّع صدْرَه عند سؤال الخلق عند حاجته، وأنزل فقره وحاجته بهم، ولم ينزلهما بالله، زاده الله فقرًا في قلبه إلى غيره، وهو الفقر الذي قال فيه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-: «كاد الفقر أن يكون كفرًا». فيض القدير (5/ 458).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إلا زاده الله تعالى بها قِلَّة» يمحق بركة ما لديه، ويُحْوِجه حقيقة، ويجعل فقره بين عينيه. التنوير (9/ 421).
وفي مجلة البحوث:
ويشهد له ما خرّجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا».
فإن دعا على من ظلمه بالعدل جاز، وكان مستوفيًا لبعض حقّه منه، وإن اعتدى عليه في دعائه لم يجز.
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} النساء: 148، قال: لا يحبّ الله أن يدعو أحدٌ على أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد رُخِّص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، ومن صبر فهو خير.مجلة البحوث الإسلامية(16/٢٧٠)
وقال ابن حمزة الحسيني -رحمه الله-:
سببه: أخرج أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا شتم أبا بكر، والنبي جالس، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعجب ويبتسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام، فلحقه أبو بكر، وقال: يا رسول الله، كان يشتمني وإنك جالس، فلمّا رددتُ عليه بعض قوله غضبتَ وقمتَ، قال: «إنه كان معك مَلَكٌ يردُّ عنك، فلمّا رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر...» الحديث. البيان والتعريف (2/ 16).