السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

«أُمِرْتُ أنْ أَسجُدَ على سبعةِ أَعْظُمٍ؛ على الجَبهة، وأشارَ بيدهِ على أنفهِ، واليدينِ والرُّكبتينِ، وأطرافِ القدمينِ، ولا نَكْفِتَ الثِّيابَ والشَّعرَ».


رواه البخاري برقم: (812)، ومسلم برقم: (490)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«أَعْظُمٍ»:
(جمع عَظْم) أي: أعْضَاء، فسمَّى كل عضو عَظْمًا، وإنْ كان فيه عِظام كثيرة. المنهاج، للنووي (4/ 208).
«الجَبْهَةِ»:
هي مُستَوَى ما بين الحاجِبَيْنِ إلى النَّاصية، والأَجْبَهُ: العَريضُ الجَبْهةِ. العين، للخليل (3/ 395).
«نَكْفِتَ»:
بكسر الفاء، أي: نَضُمّ. اللامع الصبيح، للبرماوي (4/ 180).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
الكَفْتُ: الضَّمُّ، تقول: كَفَتُّ الشيءَ أَكْفِتُه كَفْتًا: إذا ضَمَمْتَه إلى نفسك، والكَفُّ: مِن كَفِّ الثوب وهو خياطته وعَطْفُه، المعنى: لا يعطف ثوبه ويجمعه. الشافي (1/ 616).


شرح الحديث


قوله: «أُمِرْتُ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أُمِرْتُ» بالبناء للمفعول، والآمر هو الله تعالى. فيض القدير (2/ 191).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
يدل عُرْفًا على أنَّ الله أمره؛ وذلك يقتضي وجوب وضع هذه الأعضاء في السجود. تحفة الأبرار (1/ 296).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا البيضاوي:
وفيه نظر؛ لأنَّه ليس فيه صيغة افْعَلْ. فتح الباري (2/ 296).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا ابن حجر:
هذا النظر غير صحيح، بل الحق أنَّ الأمر هنا للوجوب؛ لأنه لا فرق بين قوله: افعل كذا، وبين قوله: أَمَرْتُك أنْ تفعل كذا. البحر المحيط الثجاج (11/ 237).

قوله: «أنْ أَسجدَ»:
قال الفاكهاني -رحمه الله-:
الأصل: أُمرتُ بأنْ أسجد، ولكن حذف حرف الجر من «أنْ» و«أنَّ» قياس مطرد، وليس هذا من باب قوله: أمرتك الخير، البيت (يعني: البيت الشعري) فاعرفه. رياض الأفهام (2/ 200).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
السجود في اللغة: الخضوع، وهو في الشرع: عبارة عن هيئة مخصوصة على ما هو معرف في الصلاة، وهو على الحقيقة خضوع، تقول: سجد يسجد سجودًا، والاسم السِّجدة -بالكسرة-، فأما بالفتح فهو المرة الواحدة من السجود. الشافي (1/ 616).

قوله: «على سبعةِ أَعْظُمٍ»:
قال النووي -رحمه الله-:
«أعظم» أي: أعضاء. المنهاج (4/ 208).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
سُمِّي كل واحد من هذه الأعضاء عَظْمًا باعتبار الجملة، وإنْ اشتمل كل واحد منها على عظام.
ويحتمل: أنْ يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها. إحكام الأحكام (1/ 239).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: أُمرتُ أنْ أضع هذه الأعضاء السبعة على الأرض إذا سجدتُ. المفاتيح (2/ 148).

قوله: «على الجبهة»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«على الجبهة» هو بدل من «على سبعة»، أو حال متعلقة بمحذوف، أي: حاصلًا، والأولى متعلقة بـ«أمرت». اللامع الصبيح (4/ 179).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
قوله: «على الجبهة» إلى آخره، هو من بدل التقسيم، كقولك: مررتُ برجال: زيد وعمرو وبكر. رياض الأفهام (2/ 201).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
وقدَّمها (أي الجبهة) لكونها أشرف الأعضاء المذكورة، أو أشهرها في تحصيل هذا الركن. مرعاة المفاتيح (3/ 203).

قوله: «وأَشارَ بيدهِ على أنفِهِ»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قلتُ: «وأشار بيده على أنفه» جملة معترضة بين المعطوف عليه وهو «على الجبهة»، والمعطوف وهو اليدين، والغرض منهما: أنهما عضو واحد؛ إذ الجبهة هي العَظْم الذي فيها عظم الأنف متشعبًا منه.
أو بيان الأنف من توابع الجبهة وتتمتها عند إرادة كمال السجود. الكواكب الدراري (5/ 168).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
إنهما كالعضو الواحد، وإلا لزم أنَّ الأعضاء ثمانية. اللامع الصبيح (4/ 179).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
إشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى الأنف دون الجبهة بعد ذكرها، يحتمل أنَّ معناه: أنهما جُعِلَا كعضو واحد، فنبَّه بالإِشارة إلى ذلك وعيَّنها بالذِّكْر؛ ليتبين أنهما المردان من الوجه دون سائره.
وهذا المعنى يقوي قول مَن يوجب السجود على الأنف مع الجبهة، كما ستعلمه، لكن في بعض طُرق هذا الحديث: «الجبهة والأنف معًا» واصل العطف للمغايرة؛ وذلك يضعف دليل الوجوب. الإعلام (3/ 82-83).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله:
إذا جُعِلَا كعضو واحد أمكن أنْ تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، فتُطَابِقُ الإشارة العبارة. إحكام الأحكام (1/ 240).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذا يدل على أنَّ الجبهة الأصل في السجود، وأنَّ الأنف تبع. المفهم (2/ 94).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
احتج الطحاوي بهذا الحديث في جواز السجود على كَوْرِ العمامة، قال: لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُمرتُ أنْ أسجد على سبعة أعظم» ولو سجد على باقي الأعضاء وهي مستورة جاز فكذا الجبهة، وهو عجيب، فالفرق لائح. التوضيح (7/ 234).

قوله: «واليَدَيْنِ»:
قال ابن العطار -رحمه الله-:
المراد بالكفين: الراحة، والأصابع، من غير اشتراط جمعها، بل يكفي أحدهما، فلو سجد على ظهر الكف لم يكفه، هكذا ذكره بعض أصحاب الشافعي المصنِّفين. العدة في شرح العمدة (1/ 467).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
إذا أُطلقت اليد فهي الكف، وإنْ قُيدت فبما قُيدت به. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 116).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
هو من باب تسمية الجملة ببعضها؛ إذ لو لم يحمل على ذلك، للزم منه ارتكاب ما نُهي عنه من افتراش الكلب أو السَّبُع. رياض الأفهام (2/ 201).

قوله: «والرُّكْبَتَيْنِ»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«والركبتين» تثنية رُكبة بالضم، وهي ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق، وهما: الرابع والخامس من أعضاء السجود. كشف اللثام (2/ 351).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
لم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب، وكذلك القدمان، أما الأول: فلِمَا يُحذَر فيه من كشف العورة، وأما الثاني -وهو عدم كشف القدمين-: فعليه دليل لطيف جدًّا؛ لأن الشارع وقَّتَ المسح على الخُفِّ بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخفين، وانتقضت الطهارة، وبطلت الصلاة، وهذا باطل، ومَن نازَعَ في انتقاض الطهارة بنزع الخف، فيُدَلُّ عليه بحديث صفوان الذي فيه «أَمَرَنَا ألا ننزع خِفَافنا» إلى آخره.
فتقول: لو وجب كشف القدمين لناقضه إباحة عدم النزع في هذه المدة التي دل عليها لفظة «أَمَرَنَا» المحمولة على الإباحة. إحكام الأحكام (1/ 241).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا ابن دقيق العيد:
فيه نظر، فللمخالف أن يقول: يُخصُّ لابس الخفِّ لأجل الرخصة. فتح الباري (2/ 297).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد حقق الإمام ابن دقيق العيد هذه المسألة، وأجاد فيها، وحاصل ما دلّ عليه تحقيقه: أنه لا يجب كشف أعضاء السجود الجبهة أو غيرها، كما دل عليه ظاهر حديث الباب، ولا نص يخالفه ويدل على الوجوب.
والحاصل: أن المصلي مأمور بوضع هذه الأعضاء سواء كانت مكشوفة أو غير مكشوفة، فإذا تحقق وضعه لها فقد أدى ما وجب عليه، فتبصَّر، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (11/ 245).

قوله: «وأطرافِ القدمينِ»:
قال السفاريني -رحمه الله-:
«وأطراف» جمع طرف، وهو منتهى «القدمين» تثنية قَدَم، وهي مؤنثة، وهما السادس والسابع من أعضاء السجود. كشف اللثام (2/ 351).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وأطراف القدمين» هو تفسير للمراد؛ وذلك بأنْ يَجعل قدمين قائمتين على بطون أصابعهما، وعَقِبَاه مرتفعان، فيستقبل بظهور قدميه القِبلة. البحر المحيط الثجاج (11/ 241).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
الاعتبار في اليدين بباطن الكفين، سواء الأصابع والراحة، وفي الرِّجلين ببطون الأصابع، ولا يجب كشف شيء منها إلا الجبهة. إرشاد الساري (2/ 120).
وقال النووي -رحمه الله-:
المعتبر في القدمين بطون الأصابع، وقيل: يكفي ظهر القدم، وفي الكفين بطنهما، ويقال: يشترط بطن الراحة. التحقيق (ص: 210).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فلو أخلَّ المصلي بواحدة من السبعة بطلت صلاته قطعًا في الجبهة، وعلى الأصح في البقية عند الشافعية، وهو مذهب أحمد، ويكفي وضع جزء من كل منها. فيض القدير (2/ 191).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
دل الحديث بمفهومه أنه لا يجوز للمصلي أن يرفع عضوًا من أعضائه حال سجوده، كاليد والرِّجل أو الأنف، ونحو ذلك، فإنْ فعل لم يصح سجوده؛ لأنه لم يسجد على هذا العضو الذي رفعه، وبه يتبين خطأ من يسجد على جبهته، ويرفع أنفه، أو يرفع قدميه، أو أحدهما، أو يضع أحدهما على الأخرى.
وهذا إن كان الرفع من ابتداء السجدة إلى آخرها، فإنْ رفع العضو ثم وضعه في أثناء السجدة فقد أدى الركن، لكن لا ينبغي له ذلك، لأن الأصل أن تبقى الأعضاء على الأرض مدة السجود. منحة العلام (ص: 85).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
لو أنه أصيب بحكَّة في إحدى رِجليه، ثم رفع الأخرى وحكَّ بها التي أصابتها الحكة، ثم عاد عن قُرب، هل يصح سجوده أو لا يصح؟
الظاهر لي أنه يصح؛ لأن هذه حاجة؛ ولأن الزمن يسير. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 118).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
لا بأس بالسجود على حائل سوى أعضاء السجود، فإنه يحرم أن يضع جبهته على يديه أثناء ذلك؛ لأن يديه من الأعضاء المتصلة بالسجود، ويُكره السجود على ما اتصل به من ثوب وعمامة إلا مع حاجة، كالحَرِّ والبَرْدِ والشوك وخشونة الأرض، فلا يُكره حينذاك، ولا يُكره السجود أيضًا على حائل غير متصل به، كسجادة ونحوها. تيسير العلام (ص: 154).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
بعض الناس إذا سجد وضع رِجله على الرِّجل الأخرى، هل يجزئ أو لا؟ لا يجزئ كما قلنا في اليد. فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 118).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحكمة من السجود على هذه الأعضاء: لأجل أن يشمل السجود أعالي الجسد وأسافله، وأعضاء كَسْبِهِ وسَعْيِهِ، فيكمل ذل العبد وعبادته لله -عز وجل-؛ لأن السجود عليها إذلال لها لله رب العالمين. منحة العلام (ص: 85).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قد سوى في هذا الحديث في الأمر بكيفية السجود بين الوجه واليدين والركبتين والقدمين، فدل هذا الظاهر على أنَّ من أخلَّ بعضو من تلك الأعضاء، مع تمكُّنه من ذلك لم يفعل المأمور به. المفهم (2/ 94).
قال النووي -رحمه الله-:
أعضاء السجود سبعة، وينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا.
فأما الجبهة، فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفي وضع بعضها، وأمّا الأنف، فهو مستحب، فلو تركه جاز، لكن لو اقتصر عليه وترك الجبهة، لم يجز. وهذا هو مذهب الشافعي ومالك -رحمهما الله تعالى-، وأكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-، وابن القاسم من أصحاب مالك: له أن يقتصر على أيهما شاء.
وقال أحمد -رحمه الله تعالى-، وابن حبيب من أصحاب مالك -رضي الله عنهما-: يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعًا، لظاهر الحديث.
قال الأكثرون: بل ظاهر الحديث يدل على أنهما في حكم عضو واحد، لأنه قال في الحديث: "سبعة"، فإن جُعِلا عضوين صارت ثمانية، وذِكرُ الأنف للاستحباب.
وأما اليدان والركبتان والقدمان، فهل يجب السجود عليها؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى:
أحدهما: لا يجب، ولكن يستحب استحبابًا متأكدًا.
الثاني: يجب، وهو الأصح، وهو الذي رجحه الشافعي -رحمه الله تعالى-، فلو أخلَّ بعضوٍ منها، لم تصح صلاته.
وإذا أوجبنا السجود عليها، لم يجب كشف القدمين والركبتين، وفي الكفين قولان للشافعي رحمه الله تعالى:
أحدهما: يجب كشفهما كالجبهة.
أصحهما: لا يجب، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة أعظم" أي: أعضاء، فسمّى كل عضو عظمًا، وإن كان فيه عظام كثيرة. شرح صحيح مسلم(4/٢٠٨)
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: بيان وجوب السجود على الجبهة، والأنف تبع له؛ لأن بيان وجوب الجبهة إنما وقع بصريح اللفظ، والإشارة باليد إلى الأنف تدل على الاستحباب له، فلو اقتصر الساجد بالسجود على أنفه دون الجبهة لم يجزئه، وكذلك لو سجد على كَوْرِ عمامته فلم تمس جبهته موضع السجود لم يجزئه. أعلام الحديث (1/ 536).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
استدل بهذا مَن يقول: أنَّه يجب السجود على الأنف مع الجبهة، وهو قول مالك وأحمد في رواية عنهما، وإسحاق، وأختار هذه الرواية عن أحمد أبو بكر عبد العزيز وغيره من أصحابنا، وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة، وحكي قولًا للشافعي، رجحه بعض المتأخرين من أصحابه، إلا أنه خصه بحال الذكر...
ولو اقتصر على السجود على أنفه دون جبهته لم يجزئه عند أحد من العلماء ممن أوجب السجود على الأنف، غير أبي حنيفة، وهي رواية عن الثوري، رواها عنه حسان بن إبراهيم...
وقال كثير من العلماء: السجود على الأنف مستحب غير واجب، وروي عن الحسن والشعبي والقاسم وسالم، وهو قول الشافعي وسفيان وأحمد في الرواية الثانية عنهما.
وحَمَلَ مَن قال بذلك حديث ابن عباس على الاستحباب دون الوجوب، قالوا: لأنه عدَّ الأعضاء المأمور بالسجود عليها سبعًا، ولو كان الأنف معها لكانت ثمانيًا...
وأيضًا فقد قال: «سبعة أعظم» وطرفُ الأنف المسجود عليه ليس عظمًا، فعُلم أنه تابع لعظْمِ الجبهة، وليس عضوًا مستقلًا، فلو تعذَّر السجود على الجبهة لعُذْرٍ وقَدَرَ على السجود على أنفه فهل يلزمه عند من لا يوجب السجود عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، وينتقل الفرض إليه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي.
والثاني: لا ينتقل الفرض إليه، بل يومي بجبهته، ولا يلزمه السجود على أنفه، وهو قول مالك وأصحابنا، كما لا ينتقل فرض غسل اليدين والرِّجلين في الوضوء إلى موضع الحِلْيَةِ إذا قَدَرَ على غسله، وعجز عن غسل اليدين والرِّجلين. فتح الباري (7/256- 258-260).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
الراجح عندي: هو وجوب السجود على مجموع الجبهة والأنف، والله تعالى أعلم. تحفة الأحوذي (2/ 126).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
واختَلف قوله (يعني: الشافعي) في اليدين والركبتين والقدمين: وهذا الحديث يدل للوجوب، وقد رجح بعض أصحابه عدم الوجوب، ولم أرهم عارضوا هذا بدليل قوي أقوى من دلالته، فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث رفاعة: «ثم يسجد فيمكِّن جبهته» وهذا غايته: أن تكون دلالته دلالة مفهوم، وهو مفهوم لقب، أو غاية، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم، كما مر لنا في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «جعلتُ لي الأرض مسجدًا وطهورًا» من قوله: «جُعِلَتْ لنا الأرض مسجدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طهورًا»؛ فإنه ثمة يعمل بذلك العموم من وجه، إذا قدمنا دلالة المفهوم، وها هنا إذا قدمنا دلالة المفهوم أسقطنا الدليل الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء -أعني: اليدين والركبتين والقدمين- مع تناول اللفظ لها بخصوصها.
وأضعف من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «سجد وجهي للذي خلقه» قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه. وأضعف من هذا: الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى، فلا تترك.
وأضعف من هذا: المعارضة بقياس شبهي، ليس بقوي، مثل أنْ يُقال: أعضاء لا يجب كشفها، فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء، سوى الجبهة، وقد رجح المحاملي من أصحاب الشافعي القول بالوجوب، وهو أحسن عندنا من قول من رجح عدم الوجوب، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن سجد على الأنف وحده كَفَاهُ، وهو قول في مذهب مالك وأصحابه، وذهب بعض العلماء إلى أن الواجب السجود على الجبهة والأنف معًا، وهو قول في مذهب مالك أيضًا، ويحتج لهذا المذهب بحديث ابن عباس هذا، فإن في بعض طرقه: «الجبهة والأنف معًا» وفي هذه الطريق التي ذكرها المصنف (يعني: المقدسي) «الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه» فقيل: معنى ذلك: أنهما جُعِلَا كالعضو الواحد ويكون الأنف كالتبع للجبهة...، والحق: أن مثل هذا لا يعارِض التصريح بذكر الجبهة والأنف، لكونهما داخِلَين تحت الأمر، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد من حيث العدد المذكور، فذلك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر، وأيضًا: فإن الإشارة قد لا تُعَيِّن المشار إليه، فإنها إنما تتعلق بالجبهة، فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يتعين المشار إليه يقينًا، وأما اللفظ فإنه معيِّن لما وضع له، فتقديمه أولى. إحكام الأحكام (1/ 239-240).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد أجاد الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله- في تحقيق هذه المسألة وأفاد، وحاصل ما حققه: أنَّ السجود على هذه الأعضاء المذكورة في الحديث واجب؛ لأنها وردت بصيغة الأمر، والأمر للوجوب، وأما التفريق بين أجزائها فيجب السجود على بعضها دون بعض، كما يقول الشافعي -رحمه الله- في الجبهة، والحنفية في الجبهة أو الأنف، وكذا في سائر الأعضاء، فمخالف للنصوص، فلا يُلتفت إليه، فتبصَّر بالإنصاف. البحر المحيط الثجاج (11/ 247).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
اختلفوا في الواجب من ذلك.
فقالت طائفة: يجب السجود على جميعها، وهو أحد القولين للشافعي، ورجحه كثير من أصحابه، والصحيح المشهور عن أحمد وعليه أصحابه، وأكثرهم لم يحكِ عنه فيه خلافًا، وهو قول مالك وإسحاق وزفر، وحكي عن طاوس.
ويدل على هذا القول: هذه الأحاديث الصحيحة بالأمر بالسجود على هذه الأعضاء كلها، والأمر للوجوب.
وقالت طائفة: إنما يجب بالجبهة فقط، ولا يجب بغيرها، وهو القول الثاني للشافعي، وحكي رواية عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه. فتح الباري (7/ 252).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
أقل السجود: مباشرة بعض جبهته مصلاه مع الطمأنينة، والتحامل على موضع سجوده، وارتفاع الأسافل على الأعالي. الإعلام (3/ 87-88).
قوله: «ولا نَكْفِتَ الثِّيابَ والشَّعْرَ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا نَكْفِتَ» بالنصب، أي: نُهينا أن نضم «الثياب والشَّعْر» ونجمعهما عند الانتشار باليدين. شرح المصابيح (2/ 13).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الكَفُّ: جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود. التحبير (5/ 369).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
معناه: أن يرسل الثوبَ والشَّعر ولا يضمهما إلى نفسه؛ وقاية لهما من التراب. تحفة الأبرار (1/ 297).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
المراد بالشَّعر: شعر الرأس. نيل الأوطار (2/ 299).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
كَفُّ الشَّعر: كناية عن عَقْصِهِ، فإنَّ شُعور العرب كانت مرسَلة على أكتافهم؛ ولذلك لما رأى أبو رافع -مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقد عَقَصَ شَعْرَهُ في قفاه حَلَّهُ، وقال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ذلك كِفْلُ الشيطان» أي: مَعْقِدَه. الشافي (1/ 617-618).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
ولا يدخل في ذلك كفُّ الغترة حول العنق يمينًا أو شمالًا؛ لأنها تُلبس على هذه الصفة، والله أعلم. منحة العلام (ص: 87).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
نهى عن ذلك -عليه السلام- في الثياب والشَّعر، ظاهره الكراهة بكل حال إلا للضرورة، وذهب الداودي إلى أن ذلك لمن فعله للصلاة، ودليل الآثار وفعل الصحابة يخالفه. إكمال المعلم (2/ 405).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
هذا النهي عن كف الثوب في الصلاة محمول على غير حالة الاضطرار، فإنَّ مَن ضمَّ إليه ثوبه إذا خاف تكشُّف عورته لا يدخل تحت هذا النهي، بل هو من فعل الواجبات، فتنبه، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (11/ 244).
وقال النووي -رحمه الله-:
اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمَّر أو كُمَّه أو نحوه، أو رأسه معقوص، أو مردود شَعره تحت عمامته أو نحو ذلك، فكل هذا منهي عنه باتفاق العلماء، وهو كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك فقد أساء وصحت صلاته، واحتج في ذلك أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإجماع العلماء. المنهاج (4/ 209).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
بهذا (يعني: الكراهة) قول أكثر العلم غير الحسن البصري، فإنه قال: عليه إعادة تلك الصلاة. الإشراف (2/ 34).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
وذلك (أي النهي) إذا صَنَعَ ذلك من أجل الصلاة، فأما إذا فَعَله لشغلٍ فحضرت الصلاة فلا بأس أنْ يصلي كذلك، وقال أبو جعفر (الطبري): إذا كان ينوي أن يعود لعمله. التوضيح (7/ 233).
وقال النووي -رحمه الله-:
مذهب الجمهور أنَّ النهي مطلقًا لمن صلى كذلك، سواء تعمَّده للصلاة أم كان قبلها كذلك لا لها، بل لمعنى آخر.
وقال الداودي: يختص النهي بمن فعل ذلك للصلاة، والمختار الصحيح هو الأول، وهو ظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم، ويدل عليه فعل ابن عباس المذكور هنا. المنهاج (4/ 209).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قد ذكر التجنُّب عن كفِّ الثوب في جملة الخشوع في الصلاة في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 2، وقد جَمَعَ في الحديث بعضًا من الفرض والسُّنة والأدب؛ تلويحًا إلى إرادة الكل. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 1022).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أنَّ الشَّعر يسجد معه. المنهاج (4/ 209).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
أو أنَّه إذا ضمهما بأنْ رفعهما عن الأرض أشبه المتكبِّر. منحة الباري (2/ 526).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ومن حكمته أيضًا: منافاة ذلك للخشوع إنْ فعله في الصلاة، أو لهيئة الخاشع إن لم يفعله فيها. مرقاة المفاتيح (2/ 718).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
في الحديث: وجوب السجود على الجبهة، فلا يجوز على كَوْرِ العمامة. اللامع الصبيح (4/ 180).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
لا خلاف في أنَّ السجود على هذه الأعضاء هو السجود الكامل. فتح الباري (7/ 252).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث فوائد:
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب السجود على الركبتين جميعًا، فلو رفع إحداهما لم يتم السجود.
وفيه أيضًا وجوب السجود على أطراف القدمين، وهي الأصابع، وظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن تكون الأصابع موجَّهة إلى القِبلة، أو أن نسجد على ظهور الأصابع، فإنه يدخل في قوله: «أطراف القدمين». فتح ذي الجلال والإكرام (2/ 117).


ابلاغ عن خطا