السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

«تُنْكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها ولِحَسَبِها وجمالِها ولدِينها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يداكَ».


رواه البخاري برقم: (5090) ومسلم برقم: (1466)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لِحَسبِها»:
بفتح الحاء والسين المهملتين، ثم موحدة، أي: لِشَرَفِهَا، والحَسَبُ في الأصل: الشَّرف بالآباء وبالأقارب، مأخوذ من الحِسَاب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدُّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره. إرشاد الساري، للقسطلاني (8/ 21).
قال الفيروز أبادي -رحمه الله-:
الحَسَب: ما تعدُّه مِن مفاخر آبائك أو المال أو الدِّين أو الكرم أو الشرف في الفعل، أو الفعال الصالح، أو الشرف الثابت في الآباء، أو البال (أي: الشأن)، أو الحَسَب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء، والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم. القاموس المحيط (ص: 74).

«فاظفَر»:
أي: فُزْ بنكاحها. مرقاة المفاتيح، للقاري (5/ 2043).
يُقال: ظَفِرَ ظَفَرًا مِن باب تَعِبَ، وأصله بالفوز والفلاح. المصباح المنير، للفيومي (2/ 385).

«تَرِبَتْ»:
أي: افْتَقَرت. دليل الفالحين، لابن علان (3/ 227).
قال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وقد ذكر أبو عبيد في قوله: «تَرِبَتْ يداك» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّ «تَرِبَتْ» بمعنى: افْتَقَرَتْ، وأنها كلمة تقولها العرب ولا تقصد الدعاء على الشخص، كقولهم: عَقْرَى، حَلْقَى.
والثاني: أنَّ المعنى: نزل بك الفقر؛ عقوبة أنْ تعدَّيتَ ذات الدِّين إلى ذات الجمال والمال.
والثالث: أنَّ «تَرِبَتْ» بمعنى: استَغْنَت، من الغِنى، واختار القول الأول وخطَّأ الأخير، والذي اختاره هو الصحيح، والذي خطَّأه كما قال، فإنه لا يُعرف تَرِبَ بمعنى: استغنى، إنما يقال: أَتْرَبَ: إذا استغنى. كشف المشكل (3/ 25).


شرح الحديث


قوله: «تُنكح المرأةُ لأربعٍ»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«تُنكح المرأة لأربعٍ» بضم التاء على بناء المجهول. الكوثر الجاري (8/ 440).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«تُنكح المرأة» ببناء الفعل للمجهول، و«المرأة» نائب فاعل، والأصل: يِنْكِح الناكح المرأة. فتح المنعم (6/ 35).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«تُنكح» خبر، وليست أمرًا، يعني: أنَّ أغراض الناس في النكاح تتنوع، والغالب أنها تكون لهذه الأغراض الأربعة: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدِينها. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 433).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«تُنكح المرأة لأربع» أي: يبعث على نكاحها وخِطبتها في عادة الناس أحد أربع، بيَّنها بقوله: «لمالها...». التنوير (5/ 100).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
هذا إخبار على مقاصد الناس في النكاح سواء كان قصدًا حسنًا أو لا؛ ولذلك أشار إلى المختار بقوله: «فاظْفَرْ بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك». الكوثر الجاري (8/ 440).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«لأربعٍ» إذا حُذف تمييز العدد كما هنا جاز في العدد التذكير والتأنيث، التذكير إذا قدِّر المعدود مؤنثًا، والتأنيث إذا قُدِّر مذكرًا، والتقدير هنا: لأربع خصال. فتح المنعم (6/ 35).

قوله: «لمالِهَا»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
«لمالها» بدل من «أربع» بإعادة العامل. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2258).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قدَّمه؛ لأن حب المال هو الغالب على النفوس. التنوير (5/ 100).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لمالها» لأنها إذا كانت صاحبة مال لا تُلزم زوجها بما لا يطيق، ولا تُكَلِّفه في الإنفاق وغيره. عمدة القاري (20/ 86).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «تُنكح المرأة لمالها» يدل على أن للزوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يُفدنا قوله: «تنكح المرأة لمالها» فائدة، ولتساوت الغنيَّة والفقيرة في قلِّة الرغبة فيها. شرح صحيح البخاري (7/ 186-187).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
قال المهلب: وفي قوله: «تُنكح المرأة لمالها» دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، وأنه يُقصد لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلال، وإن منعَته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق. شرح صحيح البخاري (7/ 186).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا للمهلب:
وتُعقِّب بأنَّ هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر قصد نكاح المرأة لأجل مالها في استمتاع الزوج، بل قد يقصد تزويج ذات الغنى؛ لما عساه يحصل له منها من ولد، فيعود إليه ذلك المال بطريق الإرث إن وقع، أو لكونها تستغني بمالها عن كثرة مطالبته بما يحتاج إليه النساء، ونحو ذلك.
وأَعْجَبُ منه استدلال بعض المالكية به على أنَّ للرَّجُل أن يحجُر على امرأته في مالها، قال: لأنه إنما تزوَّج لأجل المال، فليس لها تفويته عليه، ولا يخفى وجه الرد عليه، والله أعلم. فتح الباري (9/ 136).

قوله: «ولحَسبِهَا»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«لحَسَبها» بإعادة الجار أيضًا، وفتح الحاء والسين المهملتين، ثم موحدة، أي لِشَرفها. إرشاد الساري (8/ 21).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولحسبها» هو إخباره عن عادة الناس في ذلك. عمدة القاري (20/ 86).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولحسبها»... أي: شرفها بالآباء والأمهات والأقارب، مِن الحساب؛ لأنهم كانوا إذ تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدُّه على غيره، وقيل: أراد بالحَسب هنا: فعالها الجميلة الحسنة. التنوير (5/ 100).
وقال المازري -رحمه الله-:
قوله: «لحَسَبها» قال الهروي: احتاج أهل العلم إلى معرفة الحسب؛ لأنه مما يُعتبر به مهر مثل المرأة، قال شمر: الحَسَب: الفعال الحسنة للرَّجل وآبائه. المعلم (2/ 180).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ولحسبها» وهذه في القبائل، معروف أنَّ القبائل بعضها يختلف عن بعض في الشرف والخِسَّة، فيأتي إنسان وضيع من حيث الحسب فيتزوج من قبيلة رفيعة؛ من أجل أن يرفع نفسه وذريته؛ لأنه إذا تحدّث الناس، وقالوا: فلان تزوج من آل فلان ارتفع قدره وأولاده أيضًا ترتفع أقدارهم؛ لأنه يقال: هؤلاء أخوالهم بنو فلان. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 433).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: قد جاء في الحديث: «الحسب هو المال» فكيف جعله هنا من مقابلة المال؟
قلتُ: أجاب ابن الأثير: بأنَّ ذلك بالنظر إلى زعم أرباب الأموال، لا في نفس الأمر. الكوثر الجاري (8/ 440).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقيل (الحسَب): المال، وهو مردود؛ لذكر المال قبله، وذكره معطوفًا عليه. فتح الباري (9/ 135).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: قد جاء في حديث آخر: «حَسَبُ المرء خُلُقَه ودِينه وكرمه»، وقد جعل الحسب هنا في مقابلة الدِّين؟
قلتُ: ذلك تحقيق لما هو اللائق بأنْ يُسمى حَسَبًا، وهذا نظرًا إلى المتعارف. الكوثر الجاري (8/ 440).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه: «إنَّ أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال» فيحتمل أن يكون المراد أنه حَسَبُ من لا حَسَبَ له، فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة رفعه: «الحسب المال، والكرم التقوى» أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم. فتح الباري (9/ 135).

قوله: «وجمالها»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وجمالها» لأن الجمال مطلوب في كل شيء، ولا سيما في المرأة التي تكون قرينته وضَجِيعته. عمدة القاري (20/ 86).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولجمالها» هو تناسبُ اللون والشكل، وقيل: هو مما يُدرك ولا يوصف. التنوير (5/ 100).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لجمالها» يعني: لأنَّ المرأة (الـ)ـجميلة (التي) ليست ذات مال، ولا ذات حسب، لكن جميلة، فيتزوجها لجمالها، حتى لو لم تكن ذات حسب. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 433).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
يلحق بالجمال في الذات الجمال في الصفات. نيل الأوطار (6/ 126).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قد جاء اللام مكررًا في الخصال الأربع في صحيح مسلم، وليس في صحيح البخاري اللام في «جمالها». الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2258).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
حَذَف اللام من «جمالها» مع أنه أَثْبَتَها فيما قبله وما بعده لمخالفته لهما جنسًا؛ إذ منشؤه ذات المرأة، ومنشؤهما خارج عنها، مع أنَّ داعية الشخص إلى جمال الزوجة أميل غالبًا منها إلى غيره، فلا تحتاج إلى تأكيد بزيادة اللام. منحة الباري (8/ 341-342).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وجمالها» بدون اللام، وعليها حذف اللام الجارة، قد يكون للإشارة إلى أن صفة الجمال قد لا تُقصد لذاتها، بل تقصد تابعة لغيرها. فتح المنعم (6/ 35).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وجمالها» يؤخذ منه: استحباب تزوُّج الجميلة إلا إن تعارض الجميلة الغير دَيِّنَة، والغير جميلة الدِّيِّنة، نعم لو تساوتا في الدِّين فالجميلة أولى، ويلتحق بالحسنة الذات الحسنة الصفات، ومن ذلك أن تكون خفيفة الصداق. فتح الباري (9/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا ابن حجر:
أَخْذُ استحباب تزويج الجميلة من هذا الحديث محل نظر؛ إذ الصحيح أن الحديث خبر عن واقع الناس الجاري بينهم فيما يتعلَّق بشأن النكاح، لا أنه أمر بذلك حتى يُستفاد منه ما ذُكر، فتبصَّر، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (25/ 796).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
ليس زجرًا عن رعاية الجمال، بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض...، فإنَّ الجمال وحده إذا كان النظر مقصورًا عليه في غالب الأمر يرغِّب في النكاح، ويوهِّن في أمر الدِّين، وأما إذا اجتمع الجمال مع الدِّين فهو الزَّبَد بالنِّرْسِيَان (الزبد خلاصة السمن، والنرسيان نوع من التمر الجيد)، ويدل على الالتفات إلى معنى الجمال: أنَّ الألفة والمودة تحصل به غالبًا. إتحاف السادة المتقين (5/ 343).

قوله: «ولدينها»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«ولدِينها» أي: لاتصافها به. التنوير (5/ 100).
وقال الفاكهاني -رحمه الله-:
«لدِينها» أي: اللائق بذي الدِّين والمروءة أنْ يكون الدِّين مطمَح نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته. إيقاظ الأفهام (6/ 23).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ولدِينها» لأنه به يحصل خير الدنيا والآخرة...؛ ولذلك اختاره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بآكد وجه وأبلغه، فأمر بالظَّفَر الذي هو غاية البُغية، فلذلك قال: «فاظْفَرْ بذات الدِّين» فإنَّ بها تُكتسب منافع الدارين. عمدة القاري (20/ 86).
قال الطيبي -رحمه الله-:
اللامات المكرَّرة مؤْذِنة بأنَّ كلًّا منهن مستقلة في الغرض. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2259).

قوله: «فاظفر بذات الدين»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فاظفرْ» جزاء شرط محذوف، أي: إذا تحقق ما فصَّلْتُ لك تفصيلًا بيِّنًا، فاظفر أيها المسترشد بذات الدِّين؛ فإنها تُكسِبُك منافع الدارين. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2259).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فاظفر بذات الدِّين» حيث تبلغ؛ لأن الظَّفَر لا يقال إلا في مطلوب نفيس. التنوير (5/ 100).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «بذات الدِّين» بالألف واللام، يعني: به الدِّين المعروف، وأنْ تكون مشهورة به. الإفصاح (6/ 276).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فاظفرْ» أيها المؤمن، أي: فاطلب وتزوج امرأة صالحة، ولا تطلب امرأة لها مال وجمال، وأبٌ شريف، ولم يكن لها صلاح، فإن اجتمع مع الصلاح الخصال الباقية أو بعضها فتلك نعمة على نعمة، وإن لم يكن لذات المال والجمال والحسب صلاح فاتركها. المفاتيح (4/ 9).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فاظفر بذات الدِّين» في حديث جابر: «فعليك بذات الدين»... فأمَره النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل صاحبة الدِّين الذي هو غاية البُغية، وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه رفعه: «لا تَزَوَّجوا النساء لحُسنهن؛ فعسى حُسنهن أن يُرْدِيْهِنَّ -أي: يُهلكهن-، ولا تَزَوَّجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أنْ تُطْغِيهن، ولكن تزوَّجُوهن على الدِّين، ولَأَمَة سوداء ذات دِين أفضل». فتح الباري (9/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا ابن حجر:
الحديث (يعني: «لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن») في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وقد ضعفه الأكثرون، ووثقه أحمد بن صالح المصري وغيره، ويشهد لحديثه هذا حديث الباب، فالظاهر أنَّ الحديث لا ينزل عن درجة الحَسَن، فتأمل، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (25/ 796).
وقال المناوي -رحمه الله-:
ختم به (يعني: الدِّين) إشارة إلى أنها وإن كانت تُنكح لتلك الأغراض، لكن اللائق الضرب عنها صفحًا، وجعلها تبعًا، وجعل الدِّين هو المقصود بالذات، فمن ثَمَّ قال: «فاظفر بذات الدِّين» أي: اخترها وقرِّبها من بين سائر النساء، ولا تنظر إلى غير ذلك. فيض القدير (3/ 270).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يُراد بالدِّين: الإسلام والعدالة، وهذا يدل على مراعاة الكفاءة، وأنَّ الدِّين أَولى ما اعتُبر فيها. شرح المصابيح (3/ 538).

قوله: «تَرِبَت يَدَاكَ»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«تَرِبَتْ يداك» الجملة جواب شرط مقدَّر، أي: إنْ خالفتَ ما أَمَرْتُك به افْتَقَرْتَ. فتح المنعم (6/ 36).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«تَرِبَتْ يداك» دعاء في أصله، إلا أنَّ العرب تستعملها للإنكار والتعجب والتعظيم، والحث على الشيء، وهذا هو المراد به ها هنا...
وقيل: قصده بها وقوعه؛ لتَعَدِّيه ذوات الدِّين إلى ذوات المال ونحوها، أي: تَرِبَتْ يداك إن لم تفعل ما أُمرتَ به. الكواكب الدراري (19/ 72-73).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «تَرِبَتْ يداك»... قال الأصمعي في تفسير الحديث: لم يُرد النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء عليه بالفقر، وإنما أراد به الاستحثاث كما يقول الرَّجل: انْجُ ثَكِلَتْكَ أمُّك، إذا استعجلتَه وأنت لا تريد أنْ تَثْكَلَه أمَّه. شرح صحيح البخاري (7/ 187).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «تربت يداك» أي: لصقتا بالتراب، وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى: الدعاء؛ لكن لا يراد به: حقيقته، وبهذا جزم صاحب العمدة، زاد غيره أن صدور ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق مسلم لا يستجاب لشرطه ذلك على ربه...فتح الباري(9/135 ـ 135)
وقال الخطابي -رحمه الله-:
زعم بعض أهل العلم أنَّ القصد به في هذا الحديث: وقوع الأمر، وتحقيق الدعاء، وأخبرني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري أحسبه رواه عن الزهري أنه قال: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- له ذلك؛ لأنه رأى أنَّ الفقر خير من الغنى. معالم السنن(3/ 180).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«تَرِبَتْ يداك» قيل: معناه: صِرْتَ محرومًا من الخيرات (إنْ) لم تفعل ما أَمَرْتُك به، وتعدَّيت ذات الدِّين إلى ذات الجمال. شرح المصابيح (3/ 538).
وقال البغوي -رحمه الله-:
قوله: «تَرِبَتْ يداك» معناه: الحث والتحريض...، ولم يكن قصده به وقوع الأمر (ثم ذَكَرَ بقية الأقوال وقال) والأوَّل أَوْلى. شرح السنة (9/ 8).
وقال الطيبي -رحمه الله- معلقًا على كلام البغوي:
أقول: إنما كان الأول أَوْجَه لأنه من باب العكس تعجُّبًا؛ وذلك أنهم إذا رأوا مِقْدامًا أبلى في الحرب بلاء حسنًا، يقولون: قاتله الله، ما أشجعه! إنما يريدون به ما تزيد به قوَّته وشجاعته ونصرته، وكذلك ما نحن فيه...، أي: عليك بذات الدِّين يُغنك الله، فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النور: 32، والصالح هو صاحب الدِّين. الكاشف عن حقائق السنن (7/ 2258-2259).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
وقيل: إنها على تقدير شرط محذوف تقديره: تَرِبَتْ يداك إن لم تظفر بها، فعلى هذا المعنى الثاني تكون جملة دعائية، أي: أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا على مَن لم يَظفر بذات الدِّين بهذا الدعاء، أما على الأول فهي جملة إغرائية، يعنى: يراد بها إغراء المرء على هذا الأمر، ومثلها قول النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: «ثَكِلَتْكَ أمُّك يا معاذ، وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم... » إلخ «ثَكِلَتْكَ» يعني: فَقَدَتْكَ، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يدعو على المرء بأن تَفْقِدَهُ أمه لكنها جملة إغرائية.
وقيل: إنها جملة دعائية على تقدير محذوف، أي: إن لم تفهم على كل حال تَرِبَتْ يداك، أي: الْتَصَقَتْ بالتراب، أو امتلأتْ به، أو عَلِقَ بها التراب، وهو كناية عن الفقر. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 434).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
قوله: «إن المرأة تُنكح لمالها، ولحسبها، وجمالها، ودِينها» فإنه لم يأمر أن تُنكح المرأة لمالها فحسب، غير أن هذا إخبار منه أنه قد يقصد، ولكن ليس بالجيد ولا بالأفضل، فلما وصل بذات الدِّين أمر، ثم حض وسماه ظَفَرًا، والظَّفَر لا يشتمل إلا عند كشف شِدَّة، وإدراك مطلب سَنِيٍّ. الإفصاح (6/ 276).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
فإن كان عَقْدُ النكاح لأجل المال وكان أقوى الدواعي إليه، فالمال إذًا هو المنكُوح، فإنْ اقترن بذلك أحد الأسباب الباعثة على الائتلاف جاز أن يلبث العقد، وتدوم الألفة، فإنْ تجرد عن غيره من الأسباب وعُرِّيَ عما سِواه من المواد، فأَخْلِق بالعقد أن ينْحَلَّ، وبالألفة أن تزول، لا سيما إذا غَلَبَ الطمع وقلَّ الوفاء؛ لأن المال إن وصل إليه فقد ينقضي سبب الألفة به...
فإن كان العقد رغبة في الجمال فذلك أدوم للألفة من المال؛ لأن الجمال صفة لازمة، والمال صفة زائلة؛ ولذلك قيل: حُسن الصورة أول السعادة. أدب الدنيا والدين (ص: 155).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
هذه الأربع الخصال هي المرغِّبة في نكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرجال من النساء، فهو خبر عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمر بذلك، وظاهره إباحة النكاح لقصد مجموع هذه الخصال أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أَولى وأهم؛ ولذلك قال: «فاظْفَر بذات الدِّين تَرِبَتْ يمينك». المفهم (4/ 215).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
من مفهوم هذا الحديث: أنَّ المرأة إذا نُكِحَت لمالها كان ذلك قدحًا في معنى المروءة، من جهة أن الله تعالى جعل الرَّجُل هو المنفِق على المرأة؛ فقال تعالى: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} النساء: 34، فمَن تزوج المرأة لمالها فكأنه قَلَبَ ما خُلق له إلى المرأة، ورضي بالمقام الأدنى.
فأما التي تُنكح لجمالها، فإن الجمال بانفراده من غير دِين يكون مجسِّرًا لها على الصَّلَف، فلا يفيد إلا أن يضم إليه الدِّين، بل يكون بليَّة.
وكذلك الحسب، فإنها تفتخر عليه وتتطاول كما جرى، لا سيما بنت الجَوْنِ الكندية في قولها للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «وهل تَهَبُ المرأة نفسها للسَّوْقَةِ (أي الواحد من الرعية)؟!» فشقيت بذلك، فلا يسعد الرجل بذلك إلا بصحبة ذات الدِّين. الإفصاح (6/ 276-277).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
إنما اقتصر الحديث على هذه الأربعة؛ لأنها أهم ما أُلِفَ اعتباره عند جمهرة الناس، على أنَّ الكثير من غيرها يمكن ردُّه إليها، ولا يتعارض هذا الحديث مع ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعًا: «لا تتزوجوا النساء لحسنهن؛ فعسى حسنهن أن يُرْدِيْهِنَّ -أي يُهلكهن ويوقعهن في الفساد والرذيلة- ولا تتزوجوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن تُطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدِّين، ولأَمَة سوداء ذات دِين أفضل»؛ لأن المراد به النهي عن مراعاة الجمال أو المال مجردًا عن الدين، فلا يتنافى استحباب ذلك في المرأة إذا رُوعي الدِّين، بدليل أمره -صلى الله عليه وسلم- من يريد التزوج أن ينظر إلى المخطوبة، وهو لا يفيد معرفة الدين، وإنما يعرف به الجمال أو القُبح، فإذا اختصت كل واحدة بخصلة أو أكثر من هذه الخصال قدم أكثرهن تقوى.
وأما التفاضل بين المسلمة والكتابية: فإن كانتا متساويتين في بعض الصفات دون بعض قُدمت المسلمة قطعًا، وإذا اجتمعت جميع خصال الكمال في الكتابية، وكانت المسلمة على النقيض منها كان للنظر في الترجيح مجال. فتح المنعم (6/ 40).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وبهذا الحديث تمسَّك من اعتبر الكفاءة بالمال...، أو أنَّ من شأن أهل الدنيا رفعة من كان كثير المال، ولو كان وضيعًا، وضعة من كان مُقِلًّا ولو كان رفيع النسب، كما هو موجود مشاهَد، فعلى الاحتمال الأول يمكن أنْ يؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال...، لا على الثاني؛ لكونه سيق في الإنكار على من يفعل ذلك. فتح الباري (9/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا:
الحق أنه لا اعتبار في الكفاءة إلا بالدِّين، وما عدا ذلك من النسب والمال والحِرْفَةِ وغير ذلك، وإن قال به جُلُّ الفقهاء، فلا دليل يؤيده، فتنبَّه، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (25/ 795).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث: تفضيل ذات الدِّين من النساء على غيرها. الإفصاح (6/ 276).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شيء؛ لأن صاحِبَهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم، وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. المنهاج (10/ 52).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يُؤخَذ منه: أنَّ الشريف النسيب يُستحب له أن يتزوج نسيبة إلا إن تعارض نَسِيبةٌ غير ديِّنَة وغير نَسِيبة دَيِّنة فتُقدم ذات الدِّين، وهكذا في كل الصفات.
وأما قول بعض الشافعية: يستحب ألا تكون المرأة ذات قرابة قريبة، فإن كان مُستندًا إلى الخبر فلا أصل له، أو إلى التجربة وهو أن الغالب أن الولد بين القريبين يكون أحمق فهو متجه. فتح الباري (9/ 135).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- متعقبًا ابن حجر:
هذه التجربة غير صحيحة، فقد ولد الحسن والحسين -رضي الله عنهما- من فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي بنت عم علي -رضي الله عنهما-، فأين الحمق؟ وقِسْ غيرهما عليهما، والغريب نقل الحافظ له، وتقريره عليه، والله المستعان. البحر المحيط الثجاج (25/ 795).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
في هذا الحديث: دليل على أنَّ أغلب أغراض الرجال في هذه الأمور الأربعة المال والحسب والجمال والدِّين.
ومن فوائده: أنه لا حرج على المرء إذا تزوَّج المرأة لمالها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر هذا الرَّجل ولم يُنكر عليه، لكن رغب في ذات الدين.
وكذلك من فوائده: أنه لا بأس أن يتزوج الإنسان المرأة لحَسَبها ليرتفع بها حسبه، وليرتفع بها حسب أولاده أيضًا.
ومن فوائد الحديث: أن المرأة قد يتزوجها الإنسان لجمالها، وأنه لو تزوجها لجمالها فلا حرج عليه، وربما يكون الإنسان من عشاق الجمال فلا يغض بصره إلا ذات جمال؛ لأن الرجال يختلفون اختلافًا كثيرًا في هذا الباب.
ومن فوائد الحديث: أن أعلى هذه الأغراض أن يتزوج المرأةَ لدِينها؛ لقوله: «فاظْفَرْ بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك».
ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على قبول وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحرص على ذات الدِّين، وإن كان غالب الناس اليوم إنما يسألون عن الجمال، وإن كان بعضهم يتزوج لمالها وحسبها.
وهل هذه الأغراض منحصرة في ذلك؟
لا، لحديث: «تزوَّجوا الودود الولود» فقد يتزوج الإنسان امرأة لأنها من نساء معروفات بالتودُّد لأزواجهن، فهو يريد امرأة تصفو معها حياته بالتودد لأزواجهن والتراضي واتباع ما يهواه الزوج، وكذلك الولود كما سبق، وقد يتزوج الإنسان المرأة للتعلُّم؛ وذلك بأن تكون امرأة معها علم قد أخذت الشهادة العالية...، هذا صحيح، وقد يتزوجها من أجل حضانة أولاده؛ كأن تكون أم أولاده قد ماتت فيتزوجها من أجل حضانة الأولاد.
فأغراض الرجل كثيرة ومختلفة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذكر الأغراض الغالبة، المهم: أن الإنسان متى تزوج المرأة لغرض مقصود شرعًا فإنه جائز، ولكن أحسن ما يكون: يتزوجها للدِّين.
لو تزوجها للغِنَاء، امرأة مُغَنِّية وهو رجل طروب يحب الغناء، هذا حرام، إلا إذا كان الإنسان يريد أن يتزوج هذه المرأة من أجل أن يدعوها إلى الخلاص من هذا الشيء، ولكن نخشى أن يُفتن. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 434-435).
وقال الشيخ موسى -شاهين -رحمه الله-:
يؤخذ من الحديث:
1. الحث على تنشئة البنات على الدِّين والفضيلة.
2. الحث على حسن اختيار الزوجة، وأن يهتم بالصلاح أولًا وبالذات.
3. استدل به بعضهم على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة، فإنه يقصد نكاحها لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلال، وإن منَعَته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق، والصحيح أنه ليس له الاستمتاع بمالها من غير رضاها، وليس له الحَجْرُ عليها في مالها. المنهل الحديث (4/ 33).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: أنَّ النسائي -رحمه الله- استنبط منه كراهية تزويج الزناة، ووجه الاستدلال به: أن فيه الأمر بنكاح ذات الدين، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والزانية من أشر الأضداد لذات الدِّين، فيكون نكاحها منهيًّا عنه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
ومنها: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستدل بالكثرة على كون الشيء صوابًا، فيتأسى بأكثر الناس، ففي هذا الحديث أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن ثلاثة أصناف من الناس مخطئون في اختيارهم لصفات الزوجية، وأن صنفًا واحدًا هو المصيب، وقد نبه الله -عز وجل- على ذلك بقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} الآية الأنعام: 116.
ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن ينظر في عواقب الأمور ومستقبلها لا في عاجلها؛ فإن الزوجة الصالحة في دِينها هي التي تكون بها السعادة في المستقبل، فإنها تحفظه في نفسها، وتحفظه في بيته، وتحفظه في ماله، وتقوم بتربية أولاده، وهي القرين الصالح النافع في الدنيا والآخرة، بخلاف ذات الجمال والمال والحسب، فإن السعادة بها قاصرة، غير مستمرة، بل كثيرًا ما يكون ذلك لها غرورًا يرديها، ويردي من تعلَّق بها.
ومنها: أنه لا يحرم على الشخص أن يرغب في نكاح ذات الحسب والجمال والمال، وإنما يُعاب عليه إهمال أهم الصفات وهو الدِّين.
ومنها: أن الإتيان بالكلمات التي ظاهرها الدعاء أو مدلولها الذم والتقبيح مما جاء على ألسنة العرب، أو على ألسنة الناس لا يوقع في الإثم إذا لم يَقصد حقيقتها، وإنما استعملها على ما جرت به العادة، مثل: «تربت يداك»، و«ثكلتك أمك»، و«ويلُ أمِّه» ونحو ذلك، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (25/ 798-799).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في الحديث: الحثُّ على صاحبة الدين؛ لأن الحُسن البالغ يخاف بسببه من فساد المرأة، أو إفسادها، والمال رُبما أطغاها، وأما الدِّين فهو الحبل الذي لا ينقطع. تطريز رياض الصالحين (ص: 249)


ابلاغ عن خطا