أنَّ رَجُلين أَتَيَا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في حجَّةِ الوداعِ، وهو يُقَسِّمُ الصدقةَ، فسأَلَاهُ منها، فرفَع فينا البصرَ وخَفَضَهُ، فرَآنَا جَلْدَيْنِ، فقال: «إنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، ولا حَظَّ فيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ».
رواه أحمد برقم: (17972)، وأبو داود برقم: (1633) واللفظ له، والنسائي برقم: (2598)، عن رَجُلين من الصحابة -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (1419)، صحيح أبي داود برقم: (1443).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جَلْدَيْنِ»:
بفتح الجيم، وسكون اللام، تثنية جَلْد، وهو الرَّجل القوي، مِن الجَلَد، بفتح اللام، وهو القوة والصبر. نخب الأفكار، للعيني (8/ 16).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
الجَلَدُ: الصلابة والجَلادة، تقول منه: جَلُدَ الرَّجلُ بالضم، فهو جَلْدٌ وجَلِيد، بيِّن الجَلَد، والجَلادة، والجُلودة. الصحاح (2/ 458).
«لا حَظَّ»:
أي: لا نصيب. مرقاة المفاتيح، للمناوي (4/ 1305).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ رجلين أَتَيَا النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حَجَّةِ الودَاعِ»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
الرَّجُلان لم يُعرف اسمهما. المنهل العذب المورود (9/ 263).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«حَجَّة الوَداع» بفتح الواو أشهر في السماع. مرقاة المفاتيح (4/ 1305).
قوله: «وهو يُقَسِّمُ الصَّدقةَ، فسألاه منها»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وهو يَقْسِم» بفتح الياء، وكسر السين، «الصدقة» أي: أموالها مرعاة المفاتيح (6/ 233).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فسألاه» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. بذل المجهود (6/ 478).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فسألاه» أي: فطالباه أنْ يعطيهما شيئًا من الصدقة. مرقاة المفاتيح (4/ 1305).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
(سألاه) من الزكاة؛ لأن غالب ما يكون عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الزكوات. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143).
قوله: «فرفع فينا البصرَ وخفضه، فرَآنا جَلْدَيْنِ»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يعني: أنَّه جعل ينظر إليهما بإمعانٍ ودِقَّة. فتح ذي الجلال والإكرام(3/ 143).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «جَلْدَين» بإسكان اللام: أي: قَوِيَّيْنِ شَدِيْدَيْنِ. نيل الأوطار (4/ 190).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«جَلْدَين» أي: قَوِيَّيْنِ، والجَلَدُ معناه: القوة والصبر، ومنه تجلَّد على كذا، أي: تصبَّر عليه، فمعنى «جَلْدَين» أي: قَوِيَّيْن. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
«جَلْدَين» أي: نَشِطَيْنِ قَوِيَّيْن، عليهما أثر الصحة والعافية والقوة. شرح سنن أبي داود (198/ 19).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
يعني: على الإنسان أنْ يتأنى، الصدقة لها مصارف محددة شرعًا، لا يجوز التساهل فيها بحال، فعلى الإنسان أنْ يتأمل فيمن يدفع له الصدقة، قد يتجاوز عن الشيء اليسير، وجدتَ سائلًا فأعطيتَه ريالًا، أو خمسة، أو عشرة، قد يُتجاوز في مثل هذا، لكن الأموال التي لها وَقْعٌ، ولها شأن لا بد أن يتأمل فيمن يُعطاها. شرح المحرر في الحديث (55/ 10).
قوله: «إنَّ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، ولا حَظَّ فيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «إنْ شئتما أعطيتُكما» أي: من الزكاة، ووكَّلتُ الأمر إلى ما تعلمانه من حالكما، ويكون عليكما إثم الأخذ إنْ كنتما غَنِيَّيْن أو قادِرَين على الكسب. المنهل العذب المورود (9/ 263).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنْ شئتما أعطيتُكما» أي: منها، ووكلت الأمر إلى أمانتكما، لكن تكونان في خطر الأخذ بغير حق إنْ كنتما قَوِيَّيْنِ، كما دل عليه حالكما أو غنِيَّيْن. مرقاة المفاتيح (4/ 1305).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «إنْ شئتما أعطيتُكما» هذا توبيخ وتقريع، كقوله تعالى: {وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الكهف: 29، والمعنى على مذهب الشافعي: إنْ رضيتما بأكل الحرام، وعلى مذهبنا (يعني: الأحناف) إنْ رضيتما بالذل والهوان. لمعات التنقيح (4/ 296).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إنْ شئتما أعطيتكما» يعني: أنه -عليه الصلاة والسلام- لا يردُّ سائلًا، لكن أراد هنا أنْ يُبيِّن لهما الحكم، فإنْ كانا من أهل الصدقة أعطاهما، وإن لم يكونا من أهل الصدقة لم يعطهما، ولكنه بيَّن فقال: «ولا حظ فيها...». فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
لم يَعرف حالهما؛ لذلك فوَّض الأمر إليهما، وأنهما إنْ كانا مِن أهلها فإنه يعطيهما، وإنْ لم يكونا من أهلها فإنهما لا حق لهما فيها. شرح سنن أبي داود (198/ 19).
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «إنْ شئتما أعطيتُكما» تفويض لهما في أنهما هل يستحقانها لفقرهما أم لا لاستغنائهما بمال أو كسب. المنهل العذب المورود (9/ 263-264).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إنْ شئتما أعطيتُكما» فإنْ قلتَ: كيف يصح هذا جوابًا، فإنَّ ظاهر الجواب أنْ يقول: لا أعطيكما؛ لأنكما جَلْدَان قويَّان ولا حظ لقوي مكتسب.
قلتُ: فيه جوابان:
أحدهما: لا أعطيكما؛ لأن الصدقة ذلة وهوان، فإن رضيتما بذلك أعطيتكما.
وثانيهما: أنها حرام على الجَلْدِ، فإنْ شئتما تَناوُل الحرام أعطيتُكما، قاله توبيخًا وتغليظًا. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1506).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
ولا فرق في ذلك (يعني: الإعطاء) بين الصدقة الواجبة والنافلة ما دام أنها تسمى صدقة، فلا تُعطى إلا لفقير ولو كانت نافلة، وأما غير الفقير فإنه يُعطى هدية، فالإنسان الذي لا يستحق الصدقة يهدى إليه؛ ولهذا يفرقون بين الصدقة والهدية، كما يذكرون في الهدي أنه يأكل منه، ويتصدق ويُهدي، أي: يعطي من لا يستحق الصدقة.
وبعض أهل العلم يقول: إنَّ الصدقة النافلة يجوز أنْ تُعطَى لمن كان غنيًّا، لكن ما دام أنها صدقة فلا تكون إلا للفقراء والمساكين، وأما غيرهم فلا يسميها صدقة، وإنما يسميها هدية إذا أُعْطِيَت للأغنياء، ذكر ذلك صاحب عون المعبود، وأظنُّه أشار في الحاشية هنا أن هذا في الزكاة، وأما الصدقة النافلة فإنه لا بأس بذلك، لكن يبدو -والله أعلم- أن كل ما يقال له: صدقة، فالأولى ألا يصرف إلا في مصارف الصدقة. شرح سنن أبي داود (198/ 19).
قوله: «لا حظَّ فيها لغني»
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: لا نصيب «فيها لغني، ولا لقوي مكتسِب». مرقاة المفاتيح (4/ 1305).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«لا حظَّ فيها» الحظُّ: بمعنى: النصيب، ومنها قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت: 35، أي: نصيب عظيم. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143-144).
وقال السندي -رحمه الله-:
«ولا حظَّ فيها» الضمير للصدقة على تقدير المضاف، أي: في سؤالها، أو المصدر السؤال، أي: في المسألة. فتح الودود (2/ 236).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لا حظ فيها» أي: لا نصيب في الصدقة، أو في سؤالها «لغني». ذخيرة العقبى (23/ 211).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فيها» أي: في تلك الأموال «لغني، ولا لقوي مكتسب». بذل المجهود (6/ 479).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لغني» أي: لصاحب مال يُعَدُّ به غنيًّا. ذخيرة العقبى (23/ 211).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الغني هنا...: هو الذي يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سَنة. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143).
قوله: «ولا لقوي مكتسِب»
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«مكتسِب» بصيغة الفاعل، أي: قادر على الكسب. مرعاة المفاتيح (6/ 234).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «مكتسِب» أي: يكتسب قدر كفايته. نيل الأوطار (4/ 190).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«ولا لقوي مكتسِب» أي: لقادر على كَسْبِ كفايته، وإنْ لم يكن له مال يعد به غنيًّا. ذخيرة العقبى (23/ 211).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قال: «ولا لقوي مكتسب» اشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطين: القوة والاكتساب؛ فإنْ كان قويًّا ولا كسب له حلَّت له، وإنْ كان مكتسبًا لكن لا قوة له فإنها تحل له، كرجل ذي صِنْعَة يعمل، ولكنه مريض لا يستطيع أنْ يعمل، فهذا تحل له الزكاة.
إذًا: هذان اثنان: الغني، والقوي المكتسب، فالغني: هو الغني بماله، والقوي المكتسب: هو القوي بصنعته واكتسابه، هذا الحديث معناه الإجمالي ظاهر. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 143).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
يعني: أنَّ الأمر إليكما، فلا أدري ما الذي حصل بعد ذلك هل أخَذَا أو لم يأخذا؟ ولكن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- يفيد بأنَّ الذي يسأل هو صاحب الحاجة، أو من كان عليه أثر الضعف، وأما الذي عنده قوة، فينبغي عليه أن يعمل، وألا يسأل الناس؛ ولهذا نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يرشد إلى العمل، ويأمر الإنسان أنْ يأخذ فأسًا وحبلًا ويحتَطِب، ثم يبيع ذلك الحطب، ثم يأكل من عمل يده. شرح سنن أبي داود (198/ 19).
وقال السندي -رحمه الله-:
«مكتسِب» أي: قادر على الكسب، والمراد أنه لا يحل لهما السؤال لا أنه لو أدى أحد إليهما لم يحل لهما أخذه، أو لم يجزئ عنه، وإلا لم يصح له أنْ يؤدي إليهما بمشيئتهما كما يدل عليه قوله: «إنْ شئتما أعطيتُكما». فتح الودود (2/ 236).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «ولا لقويٍّ مكتسِب» يدل على أنه يصير بالحِرْفَة في حكم الغني يحرم عليه الصدقة، وأجاب عنه الإمام المهدي في البحر بأنه أراد بالقوي المكتسب: مَن كان له كسب حاصل، فيصير به غنيًّا، ونظرًا أنه قد دخل في الغنى، ولا وجه للعطف، وقد ذهب الهادوية وأبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يصير بذلك في حكم الغني؛ لتسميته فقيرًا، والجواب عنه النص. البدر التمام (4/ 388).
وقال النووي -رحمه الله-:
اختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين:
أصحهما: أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث.
والثاني: حلال مع الكراهة، بثلاثة شروط: ألا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإنْ فُقِدَ أحد هذه الشروط، فهي حرام بالاتفاق، والله أعلم. المنهاج (7/ 127).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الذي تستريح إليه النفس أنَّ سؤال القادر على الكسب مع وجود فُرص العمل حرام؛ لأن الإسلام يُحارِب البطالة والضعف والكسل، ويأمر بالعمل والقوة والضرب في الأرض، ولو بجمع الحطب على الظَّهْر، وقد روى الطبراني في الأوسط: «أنَّ رجلين أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألا منها، فرفع فيهما البصر وخفضه، فرآهما جَلْدَيْنِ، فقال لهما: إنْ شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقويٍّ مكتسِب».
وعند الطبراني في الكبير: «لا تحلُّ الصدقة لغنيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» أي: ذي قوَّة كامل الأعضاء، فقد قرن هذان الحديثان بين الغني وبين القوي المكتسب، فكما حَرُم سؤال الغني كذلك يحْرُم سؤال القوي المكتسب. فتح المنعم (4/ 400).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
هذا الحديث أصل في أنَّ من لم يُعلم له مال فأمره محمول على العدم.
وفيه: أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجَلَد دون أن يُضم إليه الكسب، فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه، ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة بدلالة الحديث.
وقد استظهر -صلى الله عليه وسلم- مع هذا في أمرهما بالإنذار، وقلَّدهما الأمانة فيما بطن مِن أمرهما. معالم السنن (2/ 62-63).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
استُدل به على أنَّ مَن يسأل الصدقة بالفقر أو المسكنة لا يُطَالَب بالبينة.
وعلى أنَّ الإمام إذا لم يَعلم حالهما ينبغي أنْ يُنذرهما، ويَكِلُ الأمر إلى أمانتهما.
وعلى أنَّ القوي المكتسب الذي يُغنيه كسبه لا تحل له الصدقة.
وعلى أنَّ مجرد القوة لا تكفي؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- اعتبر مع القوة الاكتساب؛ وذلك لأن الشخص قد يكون قويًّا إلا أنه أخرق، لا كسب له.
وعلى هذا الحديث نزل ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سويٍّ» والْمِرَّة: القُوُّة، وأصلها من شدة الفَتْلُ، يقال: أَمْرَرْتُ الحَبْلَ إذا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ.
وفيه: دليل على أنَّ الصدقة لا تحل للغني، وورَد من رواية أبي سعيد الخدري استثناء بعض الأغنياء، فرُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تحل الصدقة لغنيٍّ إلا لخمسة: لِغَازٍ في سبيل الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغارمٍ، أو لرَجُل اشتراها بماله، أو لرَجُل كان له جار مسكين فتصدَّق على المسكين، فأهداها المسكين للغني» فيجوز للغازي الأخذ من الصدقة وإن كان غنيًّا، وكذا للعامل فإنَّ ما يأخذه أُجرة عمله، وحُمل الغارم على الدَّيْن يستدين لإصلاح ذات البين دون من يستدين لنفسه؛ وأما الآخران فأمرهما ظاهر. شرح مسند الشافعي (4/ 312-313).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على أنَّه يُستحب للإمام أو المالك الوعظ والتحذير، وتعريف الناس بأنَّ الصدقة لا تحل لغني ولا ذي قوة على الكسب، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويكون ذلك برفق. نيل الأوطار (4/ 190).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
الحديث دلَّ على أنَّ المراد حُرمة سؤالهما؛ لقوله: «وإن شئتما أعطيتكما» ولو كان الأخذ مُحَرَّمًا غير مسقط عن صاحب المال لم يفعله. فتح القدير (2/ 278).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه دلالة على تحريم الصدقة على الغني وهو إجماع، وإن اختلفوا في تحقيق الغنى. البدر التمام (4/ 388).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فيه: أنَّ الصدقة لا تحلُّ للقادر على اكتساب كفايته؛ إذ هو مكفي بالاكتساب، ككفاية الغني بالمال. ذخيرة العقبى (23/ 211).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
دل الحديث على أنَّ الأصل فيمن لم يُعلم له مالٌ الفقر والاستحقاق من الصدقة.
وعلى أنَّ مجرد القوة لا يقتضي عدم استحقاقها، بل لا بد أنْ ينضم إليها الكسب.
وعلى أنَّ القادر على كسب يكفيه لا يجوز له الأخذ من الصدقة المفروضة كالغني بالمال، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد (القاسم بن سلام) وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للقوي المكتسب الأخذ من الزكاة ما لم يملك نصابًا فاضلًا عن حوائجه الأصلية.
وقال مالك وأصحابه: يجوز دفع الزكاة لقادر على الكسب إذا كان فقيرًا لا يملك قُوْتَ عامه، ولو ترك التكسب اختيارًا.
قالوا: ومن كانت له صِنْعَة تكفيه وعياله لم يُعْطَ، وإن لم تكفه أُعطي تمام كفايته.
وأجابوا: عن الحديث بأنَّ المراد بقوله: «ولا لقويٍّ مكتسب» أنه لا يحل له أنْ يسألها مع قدرته على اكتساب قُوْتِهِ؛ لقوله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم-: «وإنْ شئتما أعطيتُكما» فلو كان الأخذ محرَّمًا غير مُسقط الزكاة لم يعلّق الإعطاء على اختيارهما، أما إذا أُعطي من غير سؤال فلا يحرم عليه أخذها؛ لدخوله في الفقراء، وقد قال النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- لمعاذ: «أَعْلِمْهُم أنَّ عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم، وتُرَدُّ في فقرائهم»...، فجعل الأغنياء مَن تجب عليهم الزكاة، ومن يأخذها فقيرًا وإن كان قادرًا على الكسب، لكن هذا صرف للحديث عن ظاهره بدون مقتضٍ، فإنه صريح في تحريم الزكاة على القادر المكتسب، سواء أَسَأَلَها أم لم يَسْأَلها. المنهل العذب المورود (9/ 263-264).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أما ما يؤخذ منه من الفوائد:
منها: أنَّ الإنسان مقبول قوله في الفقر، وعدم التكسب؛ لقوله: «إن شئتما أعطيتُكما».
ومنها: ينبغي -إن لم نقل بالوجوب- لمن عنده زكاة وجاء سائل يسأله، وظن أنه ليس بأهلٍ أنْ يقول له كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذين الرَّجلين: «إن شئتَ أعطيتُك، ولا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب»، أما إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أن السائل صادق، فإنه لا يلزمه أن يقول ذلك، بل قد يُكره له هذا؛ لأنه يخجله، ويكسر قلبه إذا قال مثل هذا القول.
ومن فوائد الحديث أيضًا: تحريم الصدقة على الغني؛ لقوله: «ولا حظَّ فيها لغني».
ومنها: تحريمها على القوي المكتسب؛ لقوله: «ولا لقوي مكتسب».
ومن فوائد الحديث: الرد على الجبرية لإثبات المشيئة للعبد في عدة جُمَل في الحديث كلها فيها الرد على الجبرية، ففي هذا الحديث: إثبات المشيئة للعبد وإثبات الفعل له؛ لأنه قال: «مكتسب» و«قلَّب» وما أشبه ذلك. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 144).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده:
منها: ما بوَّب له المصنف (يعني: النسائي) -رحمه الله تعالى-، وهو بيان حكم مسألة الشخص القوي المكتسب، وهو التحريم.
ومنها: أنَّ الأصل فيمن لم يُعلم له مال الفقر، والاستحقاق من الصدقة.
ومنها: مجرد القوة لا يقتضي عدم استحقاق الصدقة، بل لا بد من أنْ ينضم إليها الاكتساب.
ومنها: أنَّ القادر على اكتساب ما يكفيه لا يجوز له أخذٌ من الصدقة المفروضة؛ لاستغنائه بالكسب، كاستغناء الغني بالمال، والله تعالى أعلم. ذخيرة العقبى (23/ 212).