كنَّا نَرْقِي في الجاهليةِ، فقلنا: يا رسولَ اللهِ، كيف تَرى في ذلك؟ فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكُم، لا بَأْسَ بالرُّقَى ما لم يَكُنْ فيه شِرْكٌ».
رواه مسلم، برقم: (2200) من حديث عوفِ بن مالكٍ الأَشْجَعيِّ -رضي الله عنه-
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رُقَاكُم»:
بِضَمِّ الراء، جمع رُقْيَةٍ، وهو العُوْذَةُ. التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 470).
وقال ابن فارس -رحمه الله-:
رَقَى: الراء والقاف والحرف المعتل أصول ثلاثة مُتبايِنَة: أحدهما: الصعود، والآخر: عَوْذَةٌ يُتَعَوَّذ بها، والثالث: بُقْعَة من الأرض. مقاييس اللغة، لابن فارس (2/ 426).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الرُّقْيَةُ: العُوْذَةُ التي يُرْقَى بها صاحبُ الآفة كالحُمى والصَّرَع وغير ذلك مِن الآفات. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 254).
«لا بَأْسَ»:
أي: لا حَرَجَ ولا كراهة بالرُّقَى بما كان، أي: موجود في القرآن، وبما كان مِن ذِكْرِ الله تعالى. المهيأ في كشف أسرار الموطأ (4/ 203).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
هو مِن البُؤْسِ: الخضوع والفقر، ويجوز أن يكون أَمْرًا وخبرًا. يقال: بِئْسَ يبْأَسُ بُؤْسًا وبَأْسًا: افْتَقَر واشْتَدَّت حاجتُه، والاسم منه بَائِسٌ...، ومنه حديث: «كُنّا إذا اشتدَّ البَأْسُ اتَّقَيْنَا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، يُريد الخوف، ولا يكون إلا مع الشدة. النهاية، لابن الأثير (1/ 89).
وقال ابن سيده -رحمه الله-:
البَأْسُ الحَرْبُ، ثم كَثُر حتى قيل: لا بَأْس عليك، ولا باسَ عليك أي: لا خَوْفَ. المحكم والمحيط الأعظم (8/ 561).
«شِرْك»:
أي: كفر. مرقاة المفاتيح (7/ 2870).
وقال الخليل بن أحمد -رحمه الله-:
الشِّرْكُ: ظُلْم عظيم، والشِّرْكَةُ: مخالَطة الشَّرِيكين، واشتركْنَا بمعنى تَشَارَكْنَا، وجمع شَرِيك: شُرَكَاء وأَشْرَاك. العين، للفراهيدي (5/ 293).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
الشِّرْكُ: أن تجعل لله شَريكًا في رُبُوبيته، تعالى الله عن الشُّركاء والأنداد. تهذيب اللغة (10/ 12).
شرح الحديث
قوله: «كنا نَرْقِي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف تَرى في ذلك؟»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال: «كُنَّا نَرْقِي» بفتح النون وكسر القاف «في الجاهلية، فقلنا: يا رسول اللَّه، كيف ترى في ذلك؟» فيه وجوب استفتاء العالم عما جهل حكمه. شرح سنن أبي داود (15/ 616).
قوله: «كيف ترى في ذلك؟»
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
أي: في الرُّقْيَة بِرُقَى الجاهلية. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 615).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
واعلم أن جملة الكلام فيها (أي الرقى): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد كان ينهى في أول الأمر عن الرُّقَى؛ لما أنه كان في الجاهلية رُقًى فيها أسماء الشياطين والأصنام، وكانوا منهمكين فيها، ويرون التأثير منها، حَسْمًا لمواد الشرك، ومراسِم الكفر.
ثم لما نزل القرآن العظيم الذي هو هدًى وشفاء للمؤمنين اسْتَرْقَى به، وما كان مِن رُقَى الجاهلية أَمَرَ بِعَرْضِها عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فما لم يكن فيه بأس أَجَازَهُ وأَمَرَ به أَمْرَ ترخيصٍ وإباحةٍ، فتارة خَصَّصَ بعض الأدواء بالذِّكْر؛ اهتمامًا بشأنه لشيوعه فيما بينهم، وكثرة النفع في الاسترقاء فيها، وربما ذَكَرَ في بعضها بطريق الحصْر بأنه لا رُقْيَةَ إلا فيه، ومَبْنَاهُ أيضًا على المبالغة والاهتمام.
ويحتمل أن يكون وقوع الرخصة بالترتيب؛ بأن رَخَّصَ في بعضها، ثم في بعضٍ آخر بناء على الاهتمام المذكور، وبالجملة: الرُّقية جائزة في كُل داء وعِلَّةٍ، ومن عين الإنسان والجن بالقرآن والأسماء الإلهية خالصة، أما بغيرها مجرَّدة أو مَخْلُوطة فلا، وكذا بما لم يُعْلَم معناه إلا إذا ثبت من جانب الشارع كما في رقية العَقربِ: «شَجنية قَرَنيّهٌ مِلْحَةُ بَحْر قَفَطَا». لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (7/ 486-487).
قوله: «فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكُمْ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
جَمْعُ رُقْيَةٍ بالضم، وهي العُوْذَةُ، والمراد ما كان يُرْقَى به في الجاهلية استأْذَنُوه في فعله، فقال: اعْرِضُوها عليَّ أي: لأني العالِم الأكبرُ المتَلَقِّي عن مُعَلِّم العلماء، ومُفَهِّم الحكماء. فيض القدير (1/ 558).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وأما الرُّقَى فهي محمولة على ذلك، أو على ما إذا كانت بغير لسان العربية، ولم يُعْرف معناها، فإنها حينئذ حرام كما صرح به الخطابي والبيهقي وغيرهما، واستدل له ابن عبد السلام: بأنهم لما سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكُمْ»، وسبب ذلك: ما قالوه من أن ذلك المجهول قد يكون سحرًا أو كفرًا.
قال الخطابي بعد ذكره ذلك: فأما إذا كان مفهوم المعنى، وكان فيه ذِكْرُ الله تعالى فإنه مستحب مُتَبَرَّكٌ به. الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 274).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكُمْ»، فيه: سؤال المستفتي عما أَبْهَمَهُ في السؤال؛ فإن الحُكم على الشيء فَرْعٌ تصوُّره. شرح سنن أبي داود (15/ 616).
قوله: «لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
فلما عرضوها عليه فقال: «لا بأس بالرُّقَى» إذا كان فيها نفع؛ لما روى مسلم عن جابر قال: «نهى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عن الرُّقَى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول اللَّه، إنه كانت عندنا رُقْية نَرْقِي بها من العقرب، وإنك نُهيت عن الرُّقى، قال: فَعَرَضُوا عليه، فقال: «ما أرى بأسًا، من استطاع أن ينفع أخاه فَلْيَنْفَعه».
«ما لم تكن شركًا»، لفظ مسلم: «ما لم يكن فيه شرك» أي: ما لم يكن فيه شيء من الشرك المحرم. شرح سنن أبي داود (15/ 616).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله:«لا بَأْسَ بالرُّقى ما لم تكن شركًا»، وهذا هو وجه التوفيق بين النهي عن الرُّقْية والإذن فيها. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/ 615).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك»، فجازت الرُّقْية من كل الآفات من الأمراض والجراح والقُرُوح والحُمَة والعين وغير ذلك إذا كان الرُّقى بما يُفْهَم ولم يكن فيه شرك ولا شيء ممنوع، وأفضل ذلك وأَنْفَعُه ما كان بأسماء الله تعالى وكلامه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-. المفهم (5/ 581).
وقال المناوي -رحمه الله-:
فلما عَرَضُوا عليه قال: «لا بأس بالرُّقَى» أي: هي جائزة، «ما لم يكن فيه» أي: فيما رُقِي به «شرك» أي: شيء يوجب اعتقاد الكفر، أو شيء من كلام أهل الشرك الذي لا يوافق الأصول الإسلامية، فإن ذلك محرَّم، ومن ثَم منعوا الرُّقى بالعِبراني والسِّرْياني، ونحو ذلك مما جُهِلَ معناه خوفَ الوقوع في ذلك. فيض القدير (1/ 558).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فإذا كانت الرُّقية بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة، وإنما جاءت الكراهة فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه يكون كُفرًا أو قولًا يدخله شرك. أعلام الحديث (3/ 2116).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قال أبو سليمان (يعني الخطابي): المنهي عنه في الرُّقى ما كان بغير لسان العرب، فلا يُدرى ما هو، ولعله قد دَخَلَه سِحْرٌ وكُفْرٌ، فإذا كان مفهوم المعنى، وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب مُتَبَرَّكٌ به. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 133).
وقال النووي -رحمه الله-:
عن الربيع بن سليمان قال: "سألتُ الشافعي عن الرقية؟ فقال: لا بأس أن يَرْقِيَ الإنسانُ بكتاب الله -عز وجل-، وما يُعرف مِن ذِكْرِ الله، قلت: أَيَرْقِي أهلُ الكتاب المسلمين؟ فقال: نعم إذا رَقُوا بما يُعرف مِن كتاب الله، أو ذِكْرِ الله، فقلت: وما الحُجَّة في ذلك؟ فقال: فيه غير حُجَّة، فإن مالِكًا أخبرنا عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أن أبا بكر دَخَل على عائشة -رضي الله عنهما- وهي تشتكي ويهودية تَرْقِيْهَا، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: ارْقِيْهَا بكتابِ الله"، قال البيهقي: والأخبار فيما رَقَى به النبي -صلى الله عليه وسلم- ورُقِيَ به، وفيما تداوَى به، وأَمَر بالتداوي به كثيرة، والله أعلم. المجموع شرح المهذب (9/ 65-66).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
أما الرُّقَى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفَة فلا نهي فيه، بل هو سُنَّة، ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين: إنَّ المدح في ترك الرُّقَى للأفضلية، وبيان التوكل، والذي فَعَلَ الرُّقَى، وأَذِنَ فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البَرِّ، وحكاه عمن حكاه، والمختار الأول، وقد نقَلُوا بالإجماع على جواز الرُّقَى بالآيات وأذكار الله تعالى، قال المازري: جميع الرُّقَى جائزة إذا كانت بكتاب الله، أو بِذِكْرِهِ، ومَنْهِي عنها إذا كانت باللغة العجمية، أو بما لا يُدْرى معناه؛ لجواز أن يكون فيه كفر، قال: واختلفوا في رُقْيَةِ أهل الكتاب، فجَوَّزَهَا أبو بكر الصديق -رحمه الله-، وكَرِهَهَا مالك؛ خوفًا أن يكون مما بدَّلُوهُ، ومَن جَوَّزَهَا قال: الظاهر أنهم لم يُبَدِّلُوا الرُّقَى، فإنهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بَدَّلُوه. شرح النووي على مسلم (14/ 168).
وقال العراقي -رحمه الله-:
الرُّقَى التي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيها، بل هي سُنة. طرح التثريب في شرح التقريب (8/ 193).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد أجمع العلماء على جواز الرُّقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، أو بما يُعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرُّقية لا تُؤثِّر بذاتها بل بذات الله تعالى، واختلفوا في كونها شرطًا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: كنا نَرْقِي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعْرِضُوا عليَّ رُقَاكُمْ، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك»، وله من حديث جابر: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرُّقَى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسولَ الله إنه كانت عندنا رُقْيَة نَرْقِي بها من العقرب، قال: فعَرَضُوا عليه، فقال: «ما أرى بأسًا، مَن استطاعَ أن ينفع أخاه فلينفعه».
وقد تمسَّكَ قوم بهذا العموم فأجازوا كلَّ رُقْيَةٍ جُرِّبَتْ منفعتها ولو لم يُعقَل معناها، لكن دلَّ حديث عوف أنه مهما كان من الرُّقَى يؤدي إلى الشرك يُمنع، وما لا يُعْقَل معناه لا يُؤْمَن أن يؤدِّي إلى الشرك، فيمتنع احتياطًا، والشرط الآخر لا بد منه، وقال قوم: لا تجوز الرُّقية إلا من العين واللَّدْغَة، كما تقدم في باب من اكتوى من حديث عمران بن حصين: «لا رُقْيَة إلا مِن عَينٍ أو حُمَةٍ»، وأُجِيب: بأن معنى الحصر فيه: أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رُقية مَن به خَبَلٌ أو مَسٌّ، ونحو ذلك؛ لاشتراكها في كونها تَنْشَأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسُّم كل ما عَرَضَ للبدن من قَرْحٍ ونحوه من المواد السُّمِّيَّة. فتح الباري (10/ 195-196).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فالرُّقَى جائزة بكتاب الله تعالى أو بِذِكْرِهِ، ومنهي عنها إذا كانت بالعجمية، أو بما لا لا يُدرَى معناه، نحو أن يكون فيه كفر، واختلفوا في رُقْية أهل الكتاب، فجَوَّزَها أبو بكر الصِّدِّيق، وكَرِهَهَا مالكٌ؛ خوفًا أن يكون مما بَدَّلُوا. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 335).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «ما لم يكن فيه شرك» أراد بها حقيقته؛ بأن يكون في معناه ما يلزم منه الشرك باللَّه، أو أراد ذِكْرَ أسماء الأصنام والشياطين. لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (7/ 486).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
في الحديث دليل على جواز الرُّقى والتَّطبُّب بما لا ضرر فيه، ولا مَنْعَ شرعيًّا مطلقًا، وإن كان بغير أسماء الله تعالى وكلامه، لكن إذا كان مفهومًا.
وفيه: الحضُّ على السَّعي في إزالة الأمراض والأضرار عن المسلمين بكل ممكن جائز. المفهم (5/ 584).