الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«إذا رأيتُم مَن يبيعُ أو ‌يَبْتَاعُ في ‌المسجد، فقولوا: لا أَربحَ الله تجارتكَ، وإذا رأيتُم مَنْ يَنْشُدُ فيه ضالَّةً، فقولوا: لا رَدَّ الله عليك».


رواه الترمذي برقم: (1321)، والنسائي في الكبرى برقم: (9933)، والدارمي برقم: (1441)، وابن خزيمة برقم: (1305)، والحاكم برقم: (2339)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (573)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (291).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«يَبْتَاعُ»:
أي: يشتري. المفاتيح، للمظهري (2/ 85).
وقال الفيومي-رحمه الله-:
يُقال: ابتاع زيد الدار، بمعنى: اشتراها، وابتاعها لغيره: اشتراها له. المصباح المنير، للفيومي (1/ 69).

«يَنْشُدُ»:
«يَنشُد ضالَّةً» الضالّة: الضائعة، ونَشْدُها: طَلَبُها، والسؤال عنها. جامع الأصول (11/ 203).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
يُقال: نَشَدْتُ الضالة: إذا طلبتُها، وأَنْشَدْتُها إذا عرَّفْتُها. معالم السنن (1/ 143).

«ضَالَّةً»:
الضالة مخصوصة بالحيوان، ويقال لغير الحيوان: ضائع ولُقَطة. البدر التمام، للمغربي(2/ 396).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
الأصل في الضَّلال: الغَيْبَةُ، ومنه قيل للحيوان الضَّائع: ضالة -بالهاء- للذكر والأنثى، والجمع ضَوَال، مثل دابَّة، ودَوَابّ، ويقال لغير الحيوان: ‌ضائع، ‌ولُقَطَة، وضَلَّ البعيرُ: غاب، وخَفِيَ موضعه، وأضللته بالألف: فقدته.المصباح المنير (2/ 363).


شرح الحديث


قوله: «إذَا رأيتُم مَن يَبِيعُ أو ‌يَبْتَاعُ في ‌المسجدِ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «إذا رأيتم» أي: أبصرتم، ويلحق به عِلْم الأعمى، ومَن في ظُلْمة بذلك، «من يبيع أو» للتنويع... «في المسجد» تَنَازعه ما قبله، فيعمل فيه الثاني، وحُذف معمول الأول لدلالة هذا عليه، فـ(أل) في المسجد للجنس. دليل الفالحين (8/ 520- 521).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«إذا رأيتم» كلمة «رأيتم» محتمل أنْ يكون المراد بالرؤية: العلم، ويحتمل أن يراد بالرؤية: رؤية البصر، والاحتمالان لا يتناقضان؛ لأن من رأى القائل ببصره فقد عَلِمَه، ومن كان أعمى ولكن سمع فقد عَلِمَ، وعلى هذا فإذا أردنا أن نجعلها أعمَّ قلنا: المراد بالرؤية هنا رؤية العلم. فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 609).
وقال الفيومي –رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم مَن يبيع أو ‌يبتاع ‌في ‌المسجد» الحديث يبتاع معناه: يشتري، قد كَرِهَ بعض الشافعية البيع والشراء في المسجد، وحرَّمه الظاهرية. فتح القريب المجيب (3/ 53- 54).

قوله: «فقولوا: لا أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقالوا» أي: لكل منهما باللسان جهرًا، أو بالقلب سرًّا «لا أربح الله تجارتك» دعاء عليه، أي: لا جعل الله تجارتك ذات ربح ونفع.
وفيه: إيماء إلى قوله تعالى: {‌فَمَا ‌رَبِحَتْ ‌تِجَارَتُهُمْ} البقرة: 16، ولو قال لهما معًا: لا أربح الله تجارتكما، جاز؛ لحصول المقصود. مرقاة المفاتيح (2/ 616).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فقولوا: لا أربح الله تعالى تجارتك» أي: لا يزيد المال في تجارتك عن أصل مالك. شرح المصابيح(1/ 444 - 445).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله: «فقولوا: لا أربح الله تجارتك» ... المراد بذلك الدعاء عليه، وأنَّ بعض العلماء ذهب إلى إيجاب الدعاء عليه. فتح القريب المجيب (3/ 54).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فقولوا: لا أربح اللَّه تجارتك» زجرًا وتشديدًا في المنع، فذلك باللسان، لا الدعاء والسؤال عن اللَّه بالقلب عدم إرباحه، ويمكن أنْ يكون ذلك أيضًا حتى يندم عند عدم الربح، ولا يعود إليه خوفًا من عدم الربح. لمعات التنقيح (2/ 486).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فقولوا» ندبًا: «لا أربح الله تجارتك» أي: لا أوقع الله فيها الربح؛ لكونك أتيتَ بها في محل المتاجر الأخروية، دون محلها من الأسواق وخارج المساجد. دليل الفالحين (8/ 520- 521).
وقال الصنعاني –رحمه الله-:
«فقولوا» وجوبًا لظاهر الأمر وهو فرض كفاية: «لا أربح الله تجارتك»؛ عقوبة له على ذلك، وظاهره أنه يُشافَه بهذا، وجعل هذا الدعاء نيابة عن الإنكار عليه؛ لأنه إنكار وزيادة، وإذا كان هذا فيمن يشتغل في المسجد بالتجارة التي هي مكسب حلال، فكيف بمن يتخذه منزلًا لأحاديثه الباطلة؟ التنوير (2/ 62).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «قولوا: لا أربح الله تجارتك» قولوا له، الأمر موجه للجميع، فهل مطلوب من كل فرد، أو المقصود الجمع دون المجموع؟ الثاني هو المراد، والمعنى الأول محتمل، فعلى الثاني إذا قالها واحد من الناس كفى، وعلى الأول لا بد أن يقول ذلك كل من سمعه، وأيهما أبلغ في الزجر؟ أنه من الجميع؛ فقولوا: «لا أربح الله تجارتك» أي: لا جعل فيها ربحًا...، ويقال في تعليل هذا ما قلنا في تعليل إنشاد الضالة، أي: أن المساجد لم تُبْنَ لهذا، أي: للبيع والشراء، وإنما بُنيت لذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والصلاة وما أشبه ذلك. فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 609- 610).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فوجب تنزيه المسجد عمّا لم يكن من أمور الله تعالى، وهذا مبني على قوله تعالى: {‌فِي ‌بُيُوتٍ ‌أَذِنَ ‌اللَّهُ ‌أَنْ ‌تُرْفَعَ} النور: 36، وهي أعمال البر كلها الزكية، ولا عمل أفضل من الصلاة وانتظارها، ولزوم المساجد من أجلها. المسالك (3/ 238).
وقال ولي الله الدهلوي -رحمه الله-:
أما الشراء والبيع فَلِئَلَّا يصير المسجد سوقًا يتعامل فيه الناس، فتذهب حُرمته، ويحصل التشويش على المصلين والمعتكفين. حجة الله البالغة (1/ 326).
وقال البغوي -رحمه الله-:
قد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد، وبه يقول أحمد وإسحاق، ورخَّص فيه بعض التابعين، وروي عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مر عليه بعض مَن يبيع في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة، وقال سالم بن عبد الله: بنى عمر بن الخطاب رَحَبَةً إلى جنب المسجد سماها البطيحاء، وقال: مَن أراد أن يلغط، أو ينشد شعرًا، أو يرفع صوتًا، فليخرج إلى هذه الرَّحَبة. شرح السنة (2/ 373).
وقال يحيى العمراني الشافعي -رحمه الله-:
هل يكره البيع والشراء في المسجد؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يُكره، ولم يذكر في التعليق غيره؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي -صلى اللَّهُ عليه وسلم- نهى عن البيع والشراء في المسجد»، وروي: «أن النبي -صلى اللَّهُ عليه وسلم- سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال: أيها الناشد، غيرك الواجد، إنما بُنيت المساجد لذِكْر الله والصلاة».
والثاني: لا يُكره؛ لأنه كلام مباح، فلم يكره، كالحديث، والأول أصح.
قال ابن الصباغ: فإن كان محتاجًا إلى شراء قُوْته، وما لا بد منه...لم يُكره، وإن أكثر من ذلك لم يَبطل اعتكافه. البيان (3/ 597- 598).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
يُكره نحو البيع والشراء من سائر العقود في المسجد ولو لغير معتكف، وإن لم يكثر منه، كما هو حاصل كلام المجموع في باب الاعتكاف، ومحله ما لم يتخذه حانوتًا، وإلَّا فيحرم، وما لم يحتج إليه لتحصيل قُوته، وما لا بد منه، وإلا فلا يُكره، ويُستثنى من العقود عقد النكاح. الفتوحات الربانية (2/ 65).
وقال عبد الرحمن بن قدامة -رحمه الله-:
يُكره البيع والشراء في المسجد...، وقال قوم: لا بأس به، والصحيح الأول؛ للحديث المذكور، فإن باع فالبيع صحيح؛ لأنه تم بأركانه وشروطه، ولم يثبت وجود مفسِد له، وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية. الشرح الكبير (4/ 47- 48).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
أما عقد البيع والشراء في المسجد: فقد ورد النهي عنه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-...
وخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم... عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك»...
وحكى الترمذي في جامعه قولين لأهل العلم من التابعين في كراهة البيع في المسجد، والكراهة قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو عند أصحابنا كراهة تحريم، وعند كثير من الفقهاء كراهة تنزيه، وللشافعي قول أنه لا يُكره، وهو قول عطاء وغيره.
واختلف أصحابنا في انعقاد البيع في المسجد على وجهين.
وفرَّق مالك بين اليسير والكثير، فكَرِهَ الكثير دون اليسير، وحكي عن أصحاب أبي حنيفة نحوه. فتح الباري (3/ 346- 347).
وقال محمود السبكي –رحمه الله-:
ذهبت المالكية إلى كراهتهما في المسجد إذا كانا بغير سمسرة، أما إذا كانا بسمسرة -أي: مناداة على السلعة- فحرام؛ لجعل المسجد سوقًا، وهذه التفاصيل كلها لا دليل عليها.
والراجح: ما قالته الحنابلة، ولا قرينة تصرف النهي عن التحريم. ويؤيده ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- قال: «إذا رأيتم من يبيع أو ‌يبتاع ‌في ‌المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك»...، والأصل في الأمر الوجوب، فلو باع شخص في المسجد أثم وصح بيعه. المنهل العذب المورود (6/ 233).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد، وأنه يجب على من رأى ذلك فيه يقول لكلٍّ من البائع والمشتري: لا أربح الله تجارتك، يقول جهرًا زجرًا للفاعل لذلك، والعلة هي قوله فيما سلف: «فإن المساجد لم تُبْنَ لذلك». وهل ينعقد البيع؟ قال الماوردي: إنه ينعقد اتفاقًا. سبل السلام (1/ 232).
وقال الفيومي –رحمه الله-:
ظاهر الحديث يقتضي التحريم، فينبغي أنْ لا يمسك ضالة في المسجد، ولا يبيع، ولا يشتري، ولا يؤجِّر ولا يستأجر، ويلتحق بالبيع والشراء ما في معناه من العقود، وللشافعي قول: إنه لا يُكره فيه البيع ولا الشراء، ورخّص للمعتكف البيع والشراء في المسجد من غير إحضار السلعة فيه للحاجة...
وذهبت الحنفية إلى أنَّ المراد بالحديث: أنْ يتخذ المسجد سوقًا، وظاهر الحديث يأبي ذلك، وقال ابن خزيمة في صحيحه: لو لم يكن البيع منعقد لم يكن لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا أربح الله تجارتك» معنى. فتح القريب المجيب (3/ 53- 54).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومِن أحكام المساجد: أنه لا يجوز بها البيع والشراء سواء كان قليلًا أو كثيرًا، لا تبيع شيئًا بقرش واحد، فإن ذلك حرام عليك، والبيع فاسد لا ينتقل فيه الثمن للبائع، ولا المبيع للمشتري، ويجب أن يَرُدَّ كل واحد منهما للآخر ما أخذ منه، سواء قل أو كثر...شرح رياض الصالحين(6/ 442- 443).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
فإنْ باع فالبيع صحيح؛ لأنَّ البيع تم بأركانه وشروطه، ولم يثبت وجود مفسد له، وكراهة ذلك لا توجب الفساد، كالغش في البيع والتدليس والتَّصْرِية، وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: لا أربح الله تجارتك» من غير إخبار بفساد البيع، دليل على صحته، والله أعلم. المغني (6/ 383).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قد ‌أجمع ‌العلماء ‌أنَّ ما عُقد من البيع في المسجد أنه لا يجوز نقضه، إلا أن المسجد ينبغي أنْ يُجنب جميع أمور الدنيا. شرح صحيح البخاري (2/ 105).

قوله: «وإذا رأيتُم مَنْ يَنْشُدُ فيه ضَالَّةً»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«يَنْشُدُ» بوزن يطلب ومعناه، «ضالة في المسجد» متعلق بـ«يَنْشُد» أي: يطلبها برفع الصوت «فيه» أي: في المسجد، «ضالة» أي: ساقطة. مرقاة المفاتيح شرح (2/ 597).
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فيه ضالة» ويدخل فيه طلبها وتعريفها، كـ: مَن رأى لي كذا وكذا؟ يقال: نَشَدْتُ الضالة إذا طلبتها، وأَنْشُدتها إذا عرَّفتها. شرح سنن أبي داود (5/ 542- 543).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
لأن هذه أمور دنيوية، والمساجد إنما هي للدينيات والتعبدات، وليست منها، وخرج بالمعاملات: النكاح، فيستحب جعله في المسجد؛ لحديث الترمذي: «اعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد». دليل الفالحين(8/ 520).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
يحتمل أنه خاص هنا بضالة الحيوان، كما يرشد إليه ما في بعض طرقه. التنوير (2/ 62).

«فقولُوا: لا رَدَّ اللهُ عليكَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقولوا: لا ردَّ الله عليك» وفي رواية: «لا ردَّها الله عليك»؛ لقلة أدبك، حيث رفعتَ صوتك في المسجد، وشَوَّشْتَ على المصلين، أو المعتكفين ذِكْرَهم أو حضورهم أو قَالَهم أو حالهم. مرقاة المفاتيح (2/ 616).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لا ردها الله تعالى عليك»: دعاء عليه؛ زجرًا له عن ترك تعظيم المسجد. شرح المصابيح (1/ 444- 445).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الجواب عليه بـ«لا ردَّها الله عليك» عقوبة له لما ارتكب من العمل الذي لا يجوز في المسجد. البدر التمام شرح (2/ 397).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فقولوا» ندبًا: «لا ردَّها الله عليك»... دلَّ مع حديث أبي هريرة، أن المطلوب لِمَن سمع الناشد عن الضالة في المسجد أن يدعو عليه بأن لا يلقاها، ويحتمل الاقتصار على أحد اللفظين الوارِدَين. دليل الفالحين (8/ 520- 521).
وقال ولي الله الدهلوي –رحمه الله-:
أما نَشْدُ الضالة أي: رفع الصوت بطلبها فلأنه صَخَبٌ ولغط يشوِّش على المصلين والمعتكفين، ويُستحب أن يُنكر عليه بالدعاء بخلاف ما يطلبه إرغامًا له. حجة الله البالغة (1/ 326).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أنَّ ذلك الزمان كان فيه مِن عوام أهله من يبيع ويشتري في المسجد، ولكنه كان فيه مَن ينكر ذلك، وكان عطاء منهم، ولا يزال الناس بخير ما أنكروا المنكر بينهم، فإن تواطؤوا عليه ولم ينكروه هلكوا. المسالك (3/ 238).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائده: تحريم البيع والشراء في المسجد، سواء وقع الإيجاب والقبول في المسجد، أو وقع أحدهما خارج المسجد والثاني في المسجد؛ لقوله: «مَن يبيع أو يبتاع»، قد يقع الإيجاب خارج المسجد والقبول داخل المسجد، كما لو وقع ذلك مِن رَجُلين عند دخول المسجد، فقال أحدهما للآخر: بعتُ عليك كذا، فقال الثاني: قَبِلْتُ، فهو داخل في الحديث؛ لأنه قال: «من يبيع أو يبتاع»، المثال فيما تأخر الإيجاب لو أن القبول هو الذي تأخر، ولكن القبول صار خارج المسجد والإيجاب كان داخل المسجد يصح أو لا يصح؟ كَرَجُلين اتَّجَهَا إلى باب المسجد وقبل الخروج قال أحدهما للآخر: بعتُ عليك كتابي هذا، وبعد الخروج قال الثاني: قَبِلْتُ، فكلاهما محرَّم.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجوز في المسجد ما سوى البيع كالهبة، والإبراء من الدَّين، وعقد النكاح، واستيفاء الدَّين والقرض، وما أشبه ذلك؛ لعدم دخولها في البيع والشراء، وعلى هذا فلو أن شخصًا استوفى دَينه مِن غريمه في المسجد فهو جائز، ولو أبرأه -أي: الدائن أبرأ غريمه من الدين في المسجد- فهو جائز.
عقد الضمان والكفالة جائز أو لا؟ جائز؛ ليس بيعًا ولا شراء، وأبو قتادة ضَمِنَ الدَّين -دين الميت- والظاهر أنه كان في المسجد.
عقد النكاح يجوز أو لا؟ يجوز؛ لأن جميع ما سبق ليس بيعًا ولا شراء.
عقد الإجارة جائز أو لا؟ الإجارة بيع لكنها بيع المنافع، وعلى هذا فلو اتفق صاحب الدار والمستأجر وعَقَدَا ذلك في المسجد فالإجارة باطلة...
والخلاصة: أن ما كان عقد معاوضة فهو كالبيع، وما كان تبرعًا أو ليس فيه معاوضة أصلًا -يعني: ليس صالحًا للمعاوضة- فهو جائز.
الطلاق على عوض: لو أن الرَّجل اتفق مع زوجته أن يخالعها في المسجد يصح الخلع أو لا؟ يصح؛ لأن هذا العوض في أحد الطرفين ليس ماليًا إنما هو الفراق والفسخ، فهو غير داخل في البيع، لو أن رجلًا باع أو اشترى في المسجد لا للتجارة لكن مرَّ به إنسان وفي يده رغيف وهو في المسجد وهو جائع فاشترى منه الرغيف أيجوز أو لا يجوز؟ إن نظرنا إلى قوله: «لا أربح الله تجارتك» قلنا: هذا خاص بما كان للتجارة دون ما كان لغيرها والفرق ظاهر؛ لأنه لو أُجيزت التجارة في المسجد للبيع والشراء لبقيت المساجد أمكنة للتجارة، لكن الشيء النادر الذي يفعله الإنسان للحاجة، أو ما أشبه ذلك الظاهر أنه لا يدخل في هذا، إلا أننا قد ننهى عنه احتياطًا؛ ولئلا يغتر الناس بفعل الفاعل؛ لأن الناس ما الذي أدراهم أن هذا للتجارة أو غير التجارة.
ومن فوائد الحديث: تعظيم المساجد، وأنها ليست محلًّا لكسب الدنيا، وأنها للآخرة فقط. فتح ذي الجلال والإكرام(1/ 609- 612).


ابلاغ عن خطا