«خيركُمْ مَن تَعَلَّمَ القرآنَ وعَلَّمَهُ».
قال: وأقْرَأَ أبو عبد الرحمنِ في إمرةِ عثمانَ حتَّى كان الحجَّاجُ، قال: وذاكَ الذي أَقْعَدَنِي مقْعَدِي هذا.
رواه البخاري برقم: (5027)، من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
وراوه البخاري أيضًا برقم: (5028) بلفظ: «إنَّ أفضلكُمْ مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه» مخلصًا فيهما. إرشاد الساري (7/ 472).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«خيركم» أي: يا معشر القراء، أو يا أيها الأمُّة، أي: أفْضَلُكم كما في رواية.
«من تعلَّم القرآن» أي: حقَّ تَعَلُّمه، «وعلَّمه» أي: تعليمه، ولا يتمكن من هذا إلا بالإحاطة بالعلوم الشرعية، أصولها وفروعها، مع زوائد العوارف القرآنية، وفوائد المعارف الفوقانية، ومثل هذا الشخص يعدُّ كاملًا لنفسه، مكمِّلًا لغيره، فهو أفضل المؤمنين مطلقًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1452).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «خيركم» خطاب عام، لا يختص بالصحابة، ومعناه: مِن خيركم؛ لورود ذلك في غير المتعلِّم والمعلِّم أيضًا. الأزهار مخطوط لوح (222).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«خيرُكُم مَن تعلَّم القرآنَ» أي: أفضلكم مَن حَفِظَ القرآن، وتدبَّر معانيه، فأحلَّ حلاله، وحرَّم حرامه. المنهل العذب المورود (8/ 97).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «خيركم من تعلَّم القرآن...» إلخ يراد بمثله أنه من جملة الأخيار، لا أنه أفضل من الكل، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذا العنوان، ثم المقصود في مثله بيان أنَّ وصف تعلم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف، فالموصوف به يكون خيرًا من هذه الجهة، أو يكون خيرًا إن لم يعارض هذا الوصف معارض، فلا يرد أنه كثيرًا ما يكون المرء متعلمًا، أو معلمًا القرآن، ويأتي بمنكرات، فكيف يكون خيرًا؟! والله تعالى أعلم.
وقد يقال: المراد «من تعلم القرآن وعلمه» مع مراعاته عملًا، وإلا فغير المراعي يعدُّ جاهلًا. فتح الودود (2/ 132).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«مَن تعلَّم القرآن» هو يُطلق على بعضه وكلِّه، ويصح إرادة البعض هنا، باعتبار أنَّ مَن وجد منه ما يأتي ولو في آية كان خيرًا ممن لم يكن كذلك، «وعلَّمه» مُخْلِصًا في كل من الأمرين، مبتغيًّا به وجه الله تعالى، عاملًا بما فيه من الأخلاق والآداب والأحكام.
ووجه خَيْرِيَّته: تُعْلَم من الحديث الصحيح: «مَن قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير ألا يُوحى إليه»، والحديث الصحيح أيضًا: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته». فتح الإله (7/75)
وقال الحليمي -رحمه الله-:
فإنَّ تعلُّم القرآن أمانة على الدِّين، فهو كتلقين الكافر الشهادة ليُسْلِم.
وأيضًا فإن تعليم معاني القرآن مَن لا يُحسنه بِرُّ وقُربة لمن يحسنه، فتعلُّم القرآن نفسه أولى أن يكون ذلك.
وأيضًا فإنَّ عِلْمَ القرآن فضل، وتعليمه من لا يحسنه إفادة من المعلم إياه الفضل الذي عنده، فلا يجوز أن يختلف ذلك عن إعطاء الغني الفقير وإشباع الجائع، وكسوة العريان، وكل ذلك مما إذا جُعل لوجه الله تعالى كان بِرًّا وقُربة؛ وكذلك تعليم القرآن والسنن، والله أعلم. المنهاج (2/ 231، 232).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
«خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه» فكفى بهذا فضلًا، وقد أمر -عليه السلام- بتعليم القرآن، فمن تعلَّمه فهو خير، ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم. رسائل ابن حزم (3/ 162).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه» يعني: إذا كان خير الكلام كلام الله، فكذلك خير الناس بعد النبيين مَن تعلَّم ويُعَلِّم كلام الله. المفاتيح (3/ 63).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه» بمعنى: أنَّه مَن تعلَّم مثله، والتزم حدوده، فهو في الدرجة مثله، وقد أتى بالمقصود؛ فإنَّه حصَّل الأجر القاصر على نفسه في فعله، وحصَّل الأجر المتعدي بإيصال المنفعة إلى غيره، وهما قِسْمَا الثواب، وانضاف إلى ذلك أجر التبليغ، ووراثة النبي، والتقصي عن عُهدة العلم، وأداؤه للذِّكْر، وأداؤه العمل له في قراءة غيره؛ لِمَا أقرأه في حياته وبعد موته إلى يوم القيامة. عارضة الأحوذي (11/26-27).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«وعلَّمه» كذا للأكثر، وللسرخسي «أو علَّمه» وهي للتنويع، لا للشك، وكذا لأحمد عن غندر عن شعبة، وزاد في أوله: «إن» وأكثر الرواة عن شعبة يقولونه بالواو، وكذا وقع عند أحمد عن بهز، وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة، وكذا أخرجه الترمذي من حديث علي، وهي أظهر من حيث المعنى؛ لأن التي بـ(أو) تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فَعَلَ أحدَ الأمرين، فيلزم أنَّ من تعلَّم القرآن ولو لم يعلِّمه غيره أن يكون خيرًا ممن عَمِلَ بما فيه مثلًا وإن لم يتعلَّمه، ولا يقال: يلزم على رواية الواو أيضًا أنَّ مَن تعلَّمه وعلَّمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلِّمه غيره؛ لأنا نقول: يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلِّم غيره يحصل له النفع المُتعدِّي بخلاف من يعمل فقط، بل مِن أشرف العمل تعليم الغير، فمُعلم غيره يستلزم أن يكون تَعَلَّمه، وتعليمه لغيره عملٌ وتحصيلُ نفعٍ متعدٍّ، ولا يقال: لو كان المعنى حصول النفع المتعدي لاشترك كلِّ مَن علَّم غيره عِلْمًا ما في ذلك؛ لأنا نقول: القرآن أشرف العلوم، فيكون مَن تعلَّمه وعلَّمه لغيره أشرف ممن تعلَّم غير القرآن وإنْ علَّمه، فيثبت المدَّعى، ولا شك أنَّ الجامع بين تعلُّم القرآن وتعليمه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا كان أفضل، وهو من جملة مَن عنى -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت : 33، والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى، مِن جملتها: تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام، كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} الأنعام : 157.
فتح الباري (9/ 76).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
لا بد من تقييد التعلُّم والتعليم بالإخلاص، ومَن أخلصهما وتخلَّق بهما دخل في زُمرة النبيين والصدِّيقين، وكان مفضَّلًا على غيره ممن لم يتخلَّق به. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1634).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
ولهذا دخل في معنى قوله: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه» تعليم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلُّم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه؛ وذلك هو الذي يزيد الإيمان. مجموع الفتاوى (13/ 403).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
وتعلُّم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها، وتعلُّم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قِسْمَي تعلُّمه وتعليمه؛ فإن المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمه تعلُّم الغاية وتعليمها، وتعلُّم اللفظ المُجرد وتعليمه تعلُّم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل. مفتاح دار السعادة (1/ 20).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: ما وجه خيريته، ومَن يُعلي كلمة الله، ويجاهد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويأتي بسائر الأعمال الصالحات، كان هو أفضل؟
قلتُ: المقامات مختلفة لا بد من اعتبارها، كما أنَّه علم أنَّ أهل المجلس اللائق بحالهم التحريض على التعلُّم والعلم، أو المراد خير المتعلمين من كان تعليمه في القرآن لا غيره؛ إذ خير الكلام كلام الله تعالى، فكذلك خير الناس بعد النبيين مَن اشتغل به، أو المراد خيرية خاصة من الجهة، ولا يلزم أفضليتهم مطلقًا. الكواكب الدراري (19/ 33).
قوله: «قال: وأقْرَأَ أبو عبد الرحمن في إمرةِ عثمان حتى كان الحَجَّاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا».
قال الكرماني -رحمه الله-:
«وقال» سعد «أَقْرَأَ أبو عبد الرحمن الناس في إمارة عثمان حتى كان» زمان حكومة «الحَجَّاج» بن يوسف الثقفي، وفي بعضها «أقراني» بذكر المفعول، وهذا نسب لقوله: «وذلك»، أي: إقراؤه إياي، هو «الذي أقعدني» هذا المقعد الرفيع، والمنصب الجليل. الكواكب الدراري (19/ 33).
وقال العيني -رحمه الله-:
أي: قال سعد بن عبيدة: «أَقْرَأَ أبو عبد الرحمن» من الإقراء، يعني: أَقْرَأَ أبو عبد الرحمن الناس «في إمرة عثمان» بن عفان إلى أن انتهى إقراؤه الناس إلى زمن «الحَجَّاج» بن يوسف الثقفي، وهذه مدة طويلة، ولم يبين ابتداء إقرائه، ولا انتهاء آخره على التحرير، غاية ما في الباب: أنْ بَيْنَ أوَّل خلافة عثمان وآخر ولاية الحَجَّاج العراق ثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر، وبين آخر خلافة عثمان، وأول ولاية الحَجَّاج العراق ثمان وثلاثون سنة.
قوله: «قال: وذاك الذي» أي: قال أبو عبد الرحمن السلمي: «وذاك» إشارة إلى الحديث المرفوع، أي: إن الحديث الذي حدَّث به عثمان في أفضلية من تَعلَّم القرآن وعلَّمه حملني على أن «أقعدني مقعدي هذا»، وأشار به إلى مقعده الذي كان يُقْرِئُ الناس فيه، وفي الحقيقة مراده من المعقد الذي أقعد فيه منزلته التي حصلت له مع طول المدة، ببركة تعليمه القرآن الكريم للناس. عمدة القاري (20/ 43، 44).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«قال» سعد بن عبيدة «وأَقْرَأَ أبو عبد الرحمن» السلمي الناس القرآن «في إمرة عثمان» بن عفان -رضي الله عنه- «حتى كان الحَجَّاج» بن يوسف أميرًا على العراق، «قال» أبو عبد الرحمن: «وذاك» الحديث المرفوع في أفضلية القرآن هو «الذي أقعدني مقعدي هذا» الذي أُقْرِئُ الناس فيه، وهذا يدل على أن أبا عبد الرحمن سمع الحديث المذكور في ذلك الزمان، وإذا سمعه فيه ولم يوصف بالتدليس اقتضى سماعه ممن عنعنه، وهو عثمان، ولا سيما مع ما اشتهر عند القراء أنه قرأ على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود، فكان ذلك أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه. إرشاد الساري (7/ 472).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
أي: كان هذا تعليمه إلى أن وصلت النوبة إلى الحَجَّاج، وعمَّ الناس فتنته. الكوكب الدري (4/ 23، 24).
وقال الكنكوهي -رحمه الله-:
قوله: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» ويدخل فيه الفقيه والمحدِّث، وصِدْقُه على المفسِّر ظاهر، ثم لذلك التعليم مراتب، وبحسبه تتفاوت الخيرية. الكوكب الدري (4/ 22).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ظاهره استواء العالم والمتعلم في الخيرية، ويحتمل أنَّ المعلِّم أكثر خيرية؛ بأدلة أخرى. التحبير (1/ 640).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الخطاب للأمَّة عامة، فخير الناس مَن جَمَعَ بين هذين الوصفين، مَن تعلَّم القرآن، وعلَّم القرآن، تعلَّمه من غيره، وعلَّمه غيره، والتعلُّم والتعليم يشمل التعلم اللفظي والمعنوي، فمَن حفظ القرآن يعني صار يعلِّم الناس التلاوة ويحفظهم إياه فهو داخل في التعليم، وكذلك مَن تعلَّم القرآن على هذا الوجه فهو داخل في التعلُّم، وبه نَعرف فضيلة الحِلَقِ الموجودة الآن في كثير من البلاد -ولله الحمد- في المساجد، حيث يتعلم الصبيان فيها كلام الله -عز وجل-، فمن ساهم فيها بشيء فله أجر، ومن أدخل أولاده فيها فله أجر، ومن تبرَّع وعلَّم فيها فله أجر، كلهم داخلون في قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».
والنوع الثاني: تعليم المعنى، يعني تعليم التفسير، أن الإنسان يجلس إلى الناس يعلمهم تفسير كلام الله -عز وجل-. شرح رياض الصالحين (4/ 639، 640).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: بيان شرف القرآن وفضل تعلُّمه وتعليمه؛ لأن الإنسان ينال بتلقنه درجة المتعلمين، وبتلقينه درجة العالِمِين، إلا أني أرى أنَّ الأولى للفَطِنِ اليَقِظِ أنه لو تعلَّم منه آية واحدة علَّمها في وقته، ولا يصبر حتى إذا تعلَّم القرآن كله علَّم حينئذٍ، بل ليتلقَّن ما استطاع حفظه، ثم ليُلقِّنه لغيره إن قدر من يومه، فيكون انتشار ذلك عنه -ما بلغ- نورًا يسعى بين يديه؛ وليكون إلى أن يختم الكتاب العزيز قد ختم غيره. الإفصاح (1/ 236).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
حديث عثمان يدل أنَّ قراءة القرآن أفضل أعمال البِرِّ كلها؛ لأنه لما كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضل الناس وخيرهم، دلّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا ما دام كُل مَن علَّمه تاليًا. شرح صحيح البخاري (10/ 265).
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي:
فيه فضلُ مَن تعلَّم القُرآن وعلَّمه، وأَنهم خيرُ الناس وأفضلُهم. والمرادُ بمن تعلَّم القرآن: مَن قرأه، وحفظ ألفاظه، وتعلَّم معانيه، وعمل به، فهؤلاء من خيار الناس. أما من لم يعمل به، فإنه يكون حجَّةً عليه.
ولهذا قال بعضُ السلف: "ليحذرْ أحدُكم أن يقرأَ القرآنَ والقرآنُ يلعنه."
فقيل: "كيف يقرأُ القرآنَ والقرآنُ يلعنه؟"
قال: "يقرأُ قولَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} البقرة: 278، وهو يتعاملُ بالربا..!" شرح سنن ابن ماجة (14/3)