«احْتَجَّتِ النارُ والجنةُ، فقالت هذه: يدْخُلُني الجَبَّارُون والمتكبرون، وقالت هذه: يَدْخُلني الضعفاءُ والمساكين، فقال الله -عز وجل- لهذه: أنتِ عذابي أُعذِّبُ بكِ مَن أشاءُ -وربما قال: أُصيبُ بكِ مَن أشاءُ-، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ مَن أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُهَا».
رواه البخاري برقم: (4850)، ومسلم برقم: (2846) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«احْتَجَّتْ»:
أي: اخْتَصَمَتْ، وتَفَاخَرَت كلٌّ منهما على الأخرى. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/ 520).
يقال: احْتَجَّ أي: أَدْلَى بِحُجَّتِهِ. مختار الصحاح، للرازي (ص: 107).
«الجَبَّارُون»:
أي: الظَّلَمة القَهَّارُون. مرقاة المفاتيح (8/ 3506).
يقال: رَجُل جَبَّارٌ: متكبِّر... وقيل: كل عَاتٍ جَبَّارٍ، وجِبِّيْرٍ، وقلبٌ جَبَّارٌ: لا تدْخُله الرحمة، ورَجُل جَبَّار: مُسَلَّطٌ قَاهِر، قال الله -عز وجل-: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ق:45. أي: مُسَلَّط تَقْهَرهُم على الإسلام، والجَبَّار: المتكبر عن عبادة الله. المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (7/ 406).
«الْمُتَكَبِّرُون»:
أي: الْمُظْهِرون للكبرياء والعَظَمة في أقوالهم وأفعالهم. مرقاة المفاتيح (7/ 3019).
والمتَكَبِّر: الذي يرى لنفسه ما لا يراه غيره له. المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيده (9/ 73).
وقال الزَّجَّاجُ -رحمه الله-:
معنى يتَكَبَّرُون: أنهم يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم. معاني القرآن وإعرابه (2/ 376).
«المساكين»:
أي: الفقراء. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 418).
والمِسْكين الذي لا شيء له يَسْكُن إِليه. شمس العلوم، لنشوان الحميري (5/ 3137).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
المساكين وَهُمْ جَمْعُ المسكين، وهو الذي لا شيء له، وقيل: هو الذي له بعض الشيء، قال (أي ابن الأثير): وقد تقع المسكنة على الضعف. لسان العرب (13/ 217).
وقال الرازي -رحمه الله-:
قال ابن الأعرابي: الفقير الذي لا شيء له، والمسكين مثله. مختار الصحاح (ص: 241).
شرح الحديث
قوله: «احْتَجَّتِ النار والجنة، فقالت هذه: يدْخُلُني الجَبَّارُون والمتَكَبِّرون، وقالت هذه: يَدْخُلني الضعفاء والمساكين»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ظاهر هذه الْمُحَاجَّة: أنها لسان مقال، فيكون خَزَنَة كل واحد منهما هم القائلون بذلك، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة، وقد قلنا فيما تقدَّم: إنه لا يشترط عقلًا في الأصوات المقطَّعة أن يكون مَحلُّها حَيًّا، خلافًا لمن اشترط ذلك من المتكلِّمين، ولو سلَّمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله في بعض أجزاء الجنة والنار الجماديَّة حياة، بحيث يصدر ذلك القول عنه، والله تعالى أعلم.
لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} العنكبوت:64: إن كل ما في الجنة حَيٌّ.
ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال، فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما، والأَوَّلُ أَوْلَى، والله تعالى أعلم. المفهم (7/ 192).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذا الحديث على ظاهره، وأن الله تعالى جعل في النار والجنة تميِيزًا تُدْرِكَان به فتَحَاجَّتَا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التَّمييز فيهما دائمًا. شرح النووي على مسلم (17/ 181).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
مُحَاجَّة الجنة والنار تحتمل أن تكون بلسان الحال أو المقال، ولا مانع من أن الله يجعل لهما لسانًا تُمَيِّزَان وتُدْرِكَان به، كما سلف، يتَحَاجَّان، ولا يلزم من هذا التمييز دوامه فيهما. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (23/ 283).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال المهلب: وأما اختصام الجنة والنار فيجوز أن يكون حقيقةً، ويجوز أن يكون مجازًا، فكونه حقيقةً: يخلق الله فيهما حياةً وفَهْمًا وكلامًا؛ لقيام الدليل على كونه تعالى قادرًا على ذلك.
وكونه مجازًا واتساعًا: فهو على ما تقوله العرب مِن نسبة الأفعال إلى ما لا يجوز وقوعها منه في تلك الحال، كقولهم: امتلأ الحوض وقال: قَطْنِي أي: حَسْبِي، والحوض لا يقول، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو كان ممن يقول لقال ذلك، وقولهم: قالت الضفدع، وعلى هذين التأويلين يُحمل قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ق:30.
واختصام الجنة والنار هو افتخار بعضهما على بعض بمن يسكنهما، فالنار تتَكَبَّر بمن يُلقى فيها من المتكبرين، وتَظُن أنها آثر بذلك عند الله من الجنّة...، وتَظُن الجنة ضد ذلك؛ لقولها: «ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطُهُم»، فكأنها أشْفَقَتْ مِن إِيْضَاعِ المنزلة عند الرب تعالى، فحَكَم تعالى للجنة بأنها رحمته لا يسكنها إلا الرحماء من عباده، وحكَم للنار بأنها عذابه يصيب بها من يشاء من المتكبرين، وأنه ليس لإحديهما فضل مِن طريق من يُسْكِنُها الله تعالى مِن خَلْقِهِ؛ إذ هما اللتان للرحمة والعذاب، ولكن قد قَضَى لهما بالْمِلْءِ مِن خَلْقِهِ. شرح صحيح البخاري (10/ 471-472).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلِّقًا:
هكذا نَقَل ابن بطال عن المهلّب: احتمال كون الاختصام حقيقةً، أو مجازًا، وسكَتَ عليه، والحقّ: أنه محمول على الحقيقة، لا على المجاز؛ لأن الواجب حَمْلُ كلام الله تعالى، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- على الحقيقة ما لم يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا، ولا دليل يدل على صَرْفِ الكلام عن ظاهره، فالصواب: أن الله -عز وجل- أَنْطَقَ الجنّة والنار حقيقةً، فاخْتَصَمَتَا؛ وذلك كما يُنْطِقُ الجلود بالشهادة على أصحابها، وليست في العادة مما يَنْطق، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ...} الآيات، فصلت:21. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (43/ 678-679).
وقال الشيخ البراك -حفظه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اخْتَصَمَتِ الجنة والنار... إلخ» قيل: إن هذا الاختصام حقيقةٌ بلسان المقال، وأن الله -عز وجل- أَنْطَقَ الجنة والنار، وقيل: إن الخصومة بلسان الحال، ومعناه: أنه لم يكن نُطْقٌ ولا كلام؛ فذِكْرُ الخصومةِ مجازٌ.
وقد ذكر ابن بطال هذين الوجهين عن المهلب احتمالًا دون ترجيح، والواجب حَمْلُ الكلام على الحقيقة ما لم يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا، ولا دليل يدل على صَرْفِ الكلام عن ظاهره، فالصواب: أن الله تعالى أَنْطَقَ الجنة والنار فاخْتَصَمَتَا كما ذكر في الحديث.
والله تعالى يُنْطِقُ الجلود بالشهادة على أهلها، وليس في العادة أن تَنْطِقَ؛ كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فصلت:21. تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري (13/ 436).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «تَحَاجَّتِ الجنة والنار» يقال: حَاجَجْتُهُ حِجَاجًا ومُحَاجَّةً فأنا مُحَاجٌّ أي: غَالَبْتُه فالحُجَّة عليه...
والحديث لا يُحمل على هذا؛ لأن كل واحدة منهما ليست بغالِبة على الأخرى فيما تكلَّمَت به، بل لمجرد حكاية ما اختَصَّتْ به، وفيها شائبة من معنى الشكاية، ألا ترى كيف قال الله تعالى للجنة: «إنما أنتِ رحمتي»، وللنار: «إنما أنتِ عذابي»؟ فأَفْحَمَ كلًا منهما بما تقتضيه مشيئته.
وهذه الْمُحَاجَّة جارية على التحقيق؛ فإنه تعالى قادر على أن يجعل كل واحدة منهما مُمَيِّزَةً مُخَاطِبَةً، أو على التمثيل. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3596).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
والحاصل: أن مُحَاجَّة النَّار والجنة تحتمل أن تكون بلسان المقال، وأن تكون بلسان الحال.
«فقالت هذه» أي: النَّار، «يدخلني الجَبَّارون» على ضعفاء النَّاس ولا يبالون بهم، «والمتكبرون» عن طاعة الله وعبادته، أو المعَظِّمُون أنفسَهم على غيرهم، قيل: هما مترادفان لغة، فالثاني تأكيد لسابقه، أو المتكبر هو المتَعَظِّم بما ليس فيه، والمتجَبِّر الممنوع الذي لا يُوصَل إليه، أو الذي لا يَكْتَرِثُ بضعفاء النَّاس وسَقَطِهِم.
«وقالت هذه» أي الجنَّة، «يَدْخُلني الضعفاء والمساكين» أي: ضعفاء النَّاس الذين لا يُلْتَفَتُ إليهم؛ لِمَسْكَنَتِهِم، فهما مترادفان، وقيل: الضعف في الجسم كَالزَّمِن، والمسكنة في المال. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (25/ 520).
وقال المباركفوري -رحمه الله-:
«يَدْخُلُني الضعفاء والمساكين» قيل: معنى الضعيف ها هنا: الخاضع لله تعالى، بِذُلِّ نَفْسِهِ له -سبحانه وتعالى-، ضد المتَجَبِّر والمتكبِّر، وفي رواية للبخاري: «ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطُهُم؟». تحفة الأحوذي (7/ 238).
قوله: «فقال الله -عز وجل- لهذه: أنتِ عذابي أُعَذِّبُ بكِ مَن أشاء -وربما قال: أُصِيْبُ بكِ مَن أشاء-، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ مَن أشاء، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُهَا»:
قال البغوي -رحمه الله-:
سمَّى الجنة رحمة؛ لأن بها تَظْهَرُ رحمة الله تعالى على خلقه، كما قال: «أَرْحَمُ بكِ من أشاء»، وإلا فرحمة الله تعالى من صفاته التي لم يزل بها موصوفًا، ليس لله -سبحانه وتعالى- صفة حادثة، ولا اسم حادث، فهو قديم بجميع أسمائه وصفاته -جل جلاله-، وتقدست أسماؤه. شرح السنة (15/ 257).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
واعلم: أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعِله.
والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فَمِنَ الأَوَّل قوله في الحديث الصحيح: «احْتَجَّت الجنة والنار» فذكر الحديث، وفيه: «فقال للجنة: إنما أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ من أشاء» رواه مسلم وأحمد، فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى، وسمَّاها رحمةً لأنها خُلِقَت بالرحمة وللرحمة، وخُصَّ بها أهلُ الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء. بدائع الفوائد (2/ 183).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إنما أنتِ رحمتي» أي: مَظْهَرُهَا...، «وقال» أي: الله «للنار: إنما أنتِ عذابي» أي: سبب عقوبتي، ومَنْشَأُ سخطي وغضبي، «أُعَذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي».
والحاصل: أن الجنة والنار والمؤمنين والكفار مَظَاهِر للجمال والجلال على وصف الكمال، ولا يَظْهَرُ لأحد وجهُ تخصيص كُلٍّ بكلٍّ في مقام الفصل، مع العلم بأن أحدهما من باب العدل، والآخر من طريق الفضل، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الأنبياء:23.
«ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُها» لأن كمالهما في مِلْءِ مآلهما، فأما النار فلا تمتلئ، قال تعالى: {يَومَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَل امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيد} ق: 30، أي: فتطلب الزيادة، ولا تمتلئ مِن أهلها الْمُعَدّ لها، «حتى يضعَ الله» أي: فيها أو عليها «رِجْلَهُ»، وفي الرواية الآتية: «قَدَمَهُ» فمذهب السلف التسليم. مرقاة المفاتيح (9/ 3628-3629).
وقال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال الله -عز وجل- لهذه» النَّار: «أنتِ عذابي» وعقوبتي، أي: محل تعذيبي، «أُعَذِّبُ بكِ مَن أشاء، -وربما قال: أُصِيْبُ بكِ مَن أشاء-» أي: قال الراوي: لفظة (أُصِيْبُ بكِ مَن أشاء من عبادي) بدل (أُعَذِّبُ بكِ).
«وقال لهذه» الجنَّة: «أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ مَن أشاء» من عبادي.
«ولكل واحدة منكما مِلْؤُهَا» أي: ما يَمْلَؤُهَا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (25/ 520-521).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُهَا» تَكَفَّلَ -عز وجل-، وأوْجَبَ على نفسه أن يملأ الجنة، ويملأ النار، وفَضْلُ الله -سبحانه وتعالى- ورحمته أوْسَعُ من غضبه، فإنه إذا كان يوم القيامة ألْقَى من يُلْقَى في النار، وهي تقول: هل من مزيد؟ يعني: أعطوني، أعطوني، زِيْدُوا، «فيضع الله عليها رِجْلَهُ»، وفي لفظ: «عليها قَدَمَهُ، فينزوي بعضها على بعض»، ينضم بعضها إلى بعض مِن أَثَرِ وَضْعِ الرب -عز وجل- عليها قدمه، وتقول: «قَطٍ قَطٍ» يعني: كفاية كفاية، وهذا مِلْؤُهَا.
أما الجنة: فإن الجنة واسعة، عَرْضُها السَّماوَاتِ والأرض، يدخُلُها أهلها، ويبقى فيها فَضْلٌ زائدٌ على أهلها، فيُنْشِئُ الله تعالى لها أقوامًا، فيدخلهم الجنة بفضله ورحمته؛ لأن الله تكفل لها بملئها. شرح رياض الصالحين (3/ 55).