رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلتِهِ يومَ النَّحرِ، ويقول: «لِتَأْخُذُوا مَناسِكَكُمْ؛ فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أَحُجُّ بعد حجَّتِي هذه».
رواه مسلم برقم: (1297)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
وفي لفظ للنسائي برقم: (4002) «خذوا مناسككم لعلي لا أَلقاكم بعد عامي هذا».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يومَ النَّحْرِ»:
أي: يوم العيد، وهو العاشر من ذي الحجة. عون المعبود، للعظيم أبادي (4/ 358).
قال المرزوقي -رحمه الله-:
يوم النَّحر: سُمِّي به؛ لأنَّهم كانوا ينحرون البُدْنَ. الأزمنة والأمكنة(ص: 167).
«مناسككم»:
المناسكَ أي: مواضع متعبَّدات الحج، والمَنْسَكُ: موضع الذبح، ومنه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} الحج: 34، وقيل: مَذْهبًا في الطاعة. مطالع الأنوار، لابن قرقول (4/ 214).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
قد تكرَّر ذِكْر المناسِك والنُّسُك والنَّسِيكة في الحديث، فالمناسك: جمع مَنْسَك، بفتح السين وكسرها، وهو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحج كلها مناسك. النهاية (5/ 48).
شرح الحديث
قوله: «رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلتِهِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرمي» جمرة العقبة حالة كونه راكبًا «على راحلته» أي: ناقته. الكوكب الوهاج (14/ 295).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «يَرْمِي على راحلته» أي: يرمي وهو راكبٌ على ناقته، وهذا يدلُّ على أن رميَ الجِمار يجوزُ راكبًا. المفاتيح (3/ 312).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وكونه -صلى الله عليه وسلم- رَمَى راكبًا؛ لِيُظهر للناس فعله على ما قررناه في طوافه وسعيه. المفهم (3/ 400).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «يرمي على راحلته» ليس من سُنة الرمي الركوب له، ولا الترجُّل، ولكن يرمي الرَّجُل على هيئته التي يكون حينئذٍ عليها من ركوبٍ أو مشيٍ، ولا ينزل إن كان راكبًا لرميٍ، ولا يركب إن كان ماشيًا، وهذا في جمرة العقبة، وأما الأيام بعدها فيرمي ماشيًا؛ لأن الناس نازلون بمنى منازلهم فيها، فيمشون للرمي ولا يركبون؛ لأنه خروج عن التواضع حينئذٍ، هذا مذهب مالك.
واستحب أحمد وإسحاق الرمي ماشيًا، وروي ذلك عن بعض الصحابة. إكمال المعلم (4/ 379).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
حُكي عن إبراهيم بن الجَرَّاح قال: دخلتُ على أبي يوسف -رحمه الله- في مرضه الذي تُوفي فيه ففتح عينيه وقال: الرمي راكبًا أفضل أم ماشيًا؟ فقلتُ: ماشيًا، فقال: أخطأت، فقلت: راكبًا، فقال: أخطأت، ثم قال: كُلُّ رمي بعده وقوف فالرمي ماشيًا أفضل، وما ليس بعده وقوف فالرمي راكبًا أفضل، فقمتُ من عنده فما انتهيت إلى باب الدار حتى سمعتُ الصراخ بموته، فتعجبتُ من حرصه على العلم في مثل تلك الحالة. فتح القدير(2/ 501).
وقال قاضي خان -رحمه الله-:
وعن أبي يوسف -رحمه الله تعالى-: الأفضل أنْ يكون هذا الرمي (يوم العيد) راكبًا، وما سواه ماشيًا، وقال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله تعالى-: الرمي كله راكبًا أفضل. فتاويه (1/ 146).
وقال ابن نجيم الحنفي -رحمه الله-:
ولو قيل: بأنه ماشيًا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة في اليوم الأخير، فهو راكبًا أفضل؛ لكان له وجه، باعتبار أنه ذاهب إلى مكة في هذه الساعة كما هو العادة، وغالب الناس راكب، فلا إيذاء في ركوبه، مع تحصيل فضيلة الاتباع له -صلى الله عليه وسلم-. البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 376).
وقال الملا خسرو الحنفي -رحمه الله-:
وقد شاهدتُ أذية الراكب خصوصًا ممن يكون في محفَّة، ومعه أتباعه من الجند ركبانًا، مع ضيق المحل بكثرة الحاج. درر الحكام (1/ 231).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
أول ما يبدأ به الحاج يوم النحر هو رمي الجمرة الكبرى؛ لتكون فاتحة أعمال ذلك اليوم الجليلة. تيسير العلام (ص: 429).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
أجمع كل مَن نحفظ عنه من أهل العلم على أنَّه لا يُرمى يوم النحر إلا جمرة العقبة. الإشراف (2/378).
قوله: «يومَ النَّحْرِ»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
قوله: «يومَ النَّحْرِ» هو اليوم العاشر من ذي الحجة (يوم العيد). بذل المجهود (7/ 80).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«ويوم النحر» هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة؛ لأنَّ الناس ينحرون فيه الضحايا، وسُمَّي يوم النحر تغليبًا لما هو أكبر وأفضل، وهي: الإبل، وإلا فإنَّ فيه نحرًا، وفيه ذبحًا. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 274).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «يوم النحر» ضُحًى، فيه الركوب يوم النحر. شرح سنن أبي داود (9/ 87).
قوله: «ويقولُ: لتَأْخُذُوا مناسكَكُمْ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ويقول» عطف على «يرمي» فيكون من قبيل: عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا، أو الجملة حاليَّة. مرقاة المفاتيح (5/ 1814-1815).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «لتأخذوا مناسككم» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيتُ بها في حجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقْبَلُوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناس. شرح مسلم (9/ 45).
وقال الطيبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
ويجوز أنْ تكون اللام للتعليل، والمعلَّل محذوف (أي يقول: إنَّما فعلتُ لتأخذوا عني مناسككم). الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1998).
وقال عبيد الله المباركفوي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
ويُؤيد الأول (أنَّ اللام للأمر) ما ورد عند النسائي والبيهقي بلفظ: «خذوا عني مناسككم». مرعاة المفاتيح (9/ 179).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «لتأخذُوا عني مناسِكَكم» أي: تَعْلَّمُوا منِّي أحكامَ الحجِّ. المفاتيح (3/ 312).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «خذوا عني مناسككم» أي: عباداتكم؛ وذلك أنَّ الحج المأمور به في الكتاب والسُّنة مجمل اتفاقًا، ولا يتم الامتثال له والعمل به إلا بعد بيانه، وقد بيَّنه الله تعالى على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره؛ ولذا قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} النحل: 44، والبيان بالأفعال أوضح منه بالأقوال؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «صلوا كما رأيتموني أصلي» مع أنَّه قد بيَّنها بأقواله، وتعليم العباد إياها من أركانها وشرائطها، كذلك الحج بيَّنه -صلى الله عليه وسلم- بأفعاله، ثم أمرهم بأخذه، أعْنِي من أفعاله وأقواله، والمناسك جمع منسك، وهي العبادة، والمراد هنا عبادات الحج؛ إذ السياق فيه إلا أنَّه لا يقصر العام على سببه، فكل عبادة إنما تُؤخَذ منه -صلى الله عليه وسلم-، فقوله: «خذوا عني» شامل لكل عبادة، وقد تقرر أنَّ أفعاله -صلى الله عليه وسلم- هي بيان الإجمال تفيد الوجوب لما بيَّنه، وكل ما فعله -صلى الله عليه وسلم- في حجه من عبادة فالأصل فيها الوجوب، حتى يأتي دليل على خلافه؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «نحرتُ هنا ومنى كلها مَنْحَر، ووقفتُ هنا وعرفات كلها موقف»؛ دفعًا لتوهم أنه يتعين محلات مناسكه؛ لأنها من بيان المجمل، فدفع ذلك، ومنه قوله: «ارمِ ولا حرج» ونحوه مما يأتي. التحبير (3/ 386).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «خذوا» هو أمر للاقتداء به، وحوالة على فعله الذي وقع به البيان لمجملات الحج في كتاب الله، وهذا كقوله لما صلى: «صلُّوا كما رأيتموني أصلي»، ويلزم من هذين الأمرين: أنْ يكون الأصل في أفعال الصلاة والحج الوجوب؛ إلا ما خرج بدليلٍ؛ كما ذهب إليه أهل الظاهر، وحُكي عن الشافعي. المفهم (3/ 399-400).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «خذوا مناسككم» أي: تعلَّموها مني، واحفظوها، وهذا لا يدل على وجوب المناسك، وإنما يدل على وجوب الأخذ والتعلُّم، فمن استدل به على وجوب شيء من المناسك، فدليله في محل النظر، فليتأمل. حاشية السندي على سنن النسائي (5/270- 271).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الذي قاله السندي -رحمه الله- من أنَّ قوله -صلى الله عليه وسلم-: «خذوا عني...» إلخ لا يدل على وجوب جميع أفعال المناسك، وإنَّما يدل على وجوب الأخذ والتعلُّم منه -صلى الله عليه وسلم- هو الأظهر مما ذكره القرطبي، وغايته أنَّه يدل على وجوب تعلُّم جميع المناسك، وأما وجوب كل عمل من أعمال المناسك، فلا بد من شيء زائد، كالأمر به، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (23/ 657).
قوله: «فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أَحُجُّ بعدَ حَجَّتِي هذه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فإني لا أدري» مفعوله محذوف، أي: لا أعلم ماذا يكون؟ «لعلي لا أحج بعد حَجَّتي» بفتح الحاء، وهي محتمل أنْ يكون مصدرًا، وأنْ يكون بمعنى السَّنة «هذه» أي: التي أنا فيها. مرقاة المفاتيح (5/ 1815).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
و«لعلي» مستأنَف، أي: لا أدري ما يُفعل بي، أي: أظن إني لا أحج، ويحتمل أنْ يكون للتحقيق، كما يقع في كلام الله تعالى كثيرًا. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1998).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «لعلي لا أحج بعد حَجَّتي هذه» فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقُرْب وفاته -صلى الله عليه وسلم-، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدِّين، وبهذا سُمِّيت حجة الوداع، والله أعلم. شرح مسلم (9/ 45).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «لعلِّي لا أحج بعد عامي هذا» بيَّن البيهقي في رواية سببه: وذلك أنها أنزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} النصر: 1، في أوسط أيام التشريق، فعرف أنَّه الوداع، فأَمَرَ براحلته القصواء فَرُحِلَتْ، فركب ووقف بالعقبة، واجتمع الناس فقال: «أيها الناس...» وذكر الحديث. التحبير (3/ 387).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قوله: «فإني لا أدري لعلي لا أحجُّ بعد حَجَّتي هذه» هذا قاله في حجة الوداع؛ حثًّا لهم على تعلُّم أعمال الحج، وإحكام أحكامها، وإعلامًا لهم بدنو أجله. فيض القدير (5/ 260).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «يرمي» يدل أنه رميٌ لا طرحٌ، ولا وَضْعٌ، وهو قول أصحابنا: إنَّ الطرح والوضع لا يجزئ، وقال أصحاب الرأي: يجزئ الطرح، ولا يجزئ الوضع، ووافقنا أبو ثور، إلا أنه قال: إن كان يُسمَّى الطرح رميًا أجزأ. إكمال المعلم (4/ 379).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
هذا يدل على أنَّ رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا أفضل من رميها راجلًا وماشيًا. مرعاة المفاتيح (9/ 178).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه: إنَّه يُستحب لمن وصل منى راكبًا أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، ولو رماها ماشيًا جاز.
وأما مَن وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا، وهذا في يوم النحر، وأما اليومان الأوَّلان من أيام التشريق فالسُّنة أنْ يرمي فيهما جميع الجمرات ماشيًا، وفي اليوم الثالث يرمي راكبًا، وينفر، هذا كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما، وقال أحمد وإسحاق: يُستحب يوم النحر أن يرمي ماشيًا. شرح مسلم (9/ 45).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
وهذا الحديث: أصلٌ عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أُصلي». شرح صحيح مسلم(9/ 45).