الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«‌كان ‌يومُ ‌عاشوراء ‌تصومُهُ ‌قريشٌ ‌في ‌الجاهلية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومُه، فلمّا قَدِمَ المدينة صامه، وأمرَ بصيامه، فلمّا نَزَلَ رمضانُ كان رمضانُ الفريضة، وتَرَكَ عاشوراء، فكان مَن شاءَ صامه، ومَن شاءَ لم يصمْهُ».


رواه البخاري برقم: (4504) واللفظ له، ومسلم برقم: (1125)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وفي رواية لمسلم برقم: (1126)، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أيضًا: «وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامَه، والمسلمون قبل أن يُفْتَرَضَ رمضانُ».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«عاشوراء»:
ممدودة، والعامة تقصره، ويقال: ليس في الكلام فاعولاء ممدود إلا ‌عاشوراء، هكذا قال بعض البصريين، وهو اسم إسلامي، لم يُعرف في الجاهلية. غريب الحديث، للخطابي (3/ 240).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
عاشوراء: هو اليوم العاشر من المحرم، وهو اسم إسلامي، وليس في كلامهم فاعولاء بالمد غيره، وقد ألحق به تاسوعاء، وهو تاسع المحرم، وقيل: إن ‌عاشوراء هو التاسع، مأخوذ من العشر في أوراد الإبل. النهاية (3/ 240).

«الجاهلية»:
هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام؛ من الجهل بالله ورسوله، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر، وغير ذلك. النهاية، لابن الأثير (1/ 323).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
الجاهلية: المراد هنا: ما بين المولد النبوي والمبعث. التوشيح (6/ 2410).


شرح الحديث


قوله: «‌كانَ ‌يومُ ‌عاشوراءَ ‌تصومُهُ ‌قريشٌ ‌في ‌الجاهليةِ»، وفي رواية: «‌كانَ ‌يومُ ‌عاشوراءَ يومًا...»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية» يدل على أنَّ صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنَّه من شريعة إبراهيم وإسماعيل -صلوات الله وسلامه عليهما-؛ فإنهم كانوا ينتسبون إليهما، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما. المفهم (3/ 190-191).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما صيام قريش لعاشوراء، فلعلهم تَلَقَّوْه من الشرع السالف؛ ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، وغير ذلك، ثم رأيتُ في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير: عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء، يكفر ذلك، هذا أو معناه. فتح الباري (4/ 246).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وجدتُ في بعض الأخبار: أنهم كانوا أصابهم قحطٌ، ثم رُفع عنهم، فصاموه شكرًا. فتح الباري (7/ 149).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
عاشوراء هو اليوم العاشر، وقال الشافعي: التاسع، بدليل قوله -عليه السلام-: «لئن عشتُ لأصومنّ التاسع»، ولا حجة له فيه؛ لأن قوله: «التاسع» معناه مع العاشر، وليس فيه دليل على ترك العاشر، ونبيِّن ذلك بمثال؛ وذلك أنْ نقرأ كتاب الموطأ فتقول: لئن عشتُ إلى قابل لأقرأنَّ البخاري، وليس فيه دليل على ترك الموطأ، ودليلنا: أنَّ قوله: «عاشوراء» يتعلق اللفظ بكونه يوم العاشر، وهو مأخوذ من العشر، أي: عاشر أيام المحرم. المسالك (4/ 204).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
سُمي: «عاشوراء» على عادة العرب في الإظماء، وذلك أنهم: إذا وردوا الماء لتسعة سموه: عشرًا؛ وذلك أنهم: يحسبون في الإظماء يوم الورود، فإذا أقامت الإبل في الرعي يومين، ثم وردت في الثالث قالوا: وردت أربعًا، وإذا وردت في الرابع قالوا: وردت خمسًا؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده، وهذا فيه بُعْد؛ إذ لا يمكن أن يعتبر في عدد ليالي العشر وأيامه ما يعتبر في الإظماء، فتأمله.
وعلى القول الأول سعيد والحسن (البصري) ومالك وجماعة من السلف، وذهب قوم: إلى أنه التاسع، وبه قال الشافعي متمسكًا بما ذكر في الإظماء.
وذهب جماعة من السلف: إلى الجمع بين صيام التاسع والعاشر، وبه قال الشافعي في قوله الآخر، وأحمد وإسحاق، وهو قول مَن أشكل عليه التعيين، فجمع بين الأمرين احتياطًا. المفهم (3/ 190).
وقال العيني -رحمه الله-:
لمَ سُمِّيَ اليوم العاشر عاشوراء؟ اختلفوا فيه، فقيل: لأنه عاشر المحرم، وهذا ظاهر، وقيل: لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بعشر كرامات؛ الأول: موسى -عليه السلام- فإنه نُصر فيه، وفُلق البحر له، وغرق فرعون وجنوده، الثاني: نوح -عليه السلام- استوت سفينته على الجودي فيه، الثالث: يونس -عليه السلام- أُنجي فيه من بطن الحوت، الرابع: فيه تاب الله على آدم -عليه السلام- قاله عكرمة، الخامس: يوسف -عليه السلام- فإنه أُخرج من الجُبّ فيه، السادس: عيسى -عليه السلام- فإنه ولد فيه، وفيه رُفع، السابع: داود -عليه السلام- فيه تاب الله عليه، الثامن: إبراهيم -عليه السلام- وُلد فيه، التاسع: يعقوب -عليه السلام- فيه رُدّ بصره، العاشر: نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيه غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
هكذا ذكروا عشرة من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، قلتُ: ذكر بعضهم من العشرة: إدريس -عليه السلام-، فإنَّه رُفع إلى مكان في السماء، وأيوب -عليه السلام- فيه كشف الله ضره، وسليمان -عليه السلام- فيه أُعطي الملك. عمدة القاري (11/ 117-118).
وقال النووي -رحمه الله-:
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس الثاني يرد عليه؛ لأنه قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم عاشوراء، فذكروا أنَّ اليهود والنصارى تصومه، فقال: «إنه في العام المقبل يصوم التاسع»، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر.
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعًا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر، ونوى صيام التاسع...، قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى -والله أعلم-. المنهاج (8/ 12).

قوله: «وكان النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- يصومُه»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه» أي: ‌عاشوراء، وزاد أبو الوقت وذر وابن عساكر: «في الجاهلية». إرشاد الساري (3/ 421).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم عليه، كما وافقهم على أن حج معهم على ما كانوا يحجون، أعني: حجته الأولى التي حجها قبل هجرته، وقبل فرض الحج؛ إذ كل ذلك فعل خير.
ويمكن أن يقال: أَذِنَ الله تعالى له في صيامه، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن الحامل لهم على صومه؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس: إنه يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»؛ فحينئذٍ صامه بالمدينة، وأمر بصيامه، أي: أوجب صيامه، وأكد أمره؛ حتى كانوا يُصَوِّمون الصغار، فالتزمه -صلى الله عليه وسلم-، وألزمه أصحابه إلى أن فُرض شهر رمضان، ونُسخ وجوب صوم يوم عاشوراء، فقال إذ ذاك: «إن الله لم يكتب عليكم صيام هذا اليوم»، ثم خُيِّر في صومه وفطره، وأبقى عليه الفضيلة بقوله: «وأنا صائم». المفهم (3/ 191).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«كان ‌يصومه ‌في ‌الجاهلية» ‌أي: ‌قبل ‌أن ‌يهاجر ‌إلى ‌المدينة، وأفادت (أي: الرواية): تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء، وقد كان أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذٍ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية، وفي السنة الثانية فُرض شهر رمضان، فعلى هذا: لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فُوِّض الأمر في صومه إلى رأي المتطوِّع، فعلى تقدير صحة قول مَن يدَّعي أنه كان قد فُرض: فقد نُسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة. فتح الباري (4/ 246).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: هذا كلام غير موجَّه؛ لأن الجاهلية إنما هي قبل البعثة، فكيف يقول: وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه في الجاهلية؟ ثم يفسره بقوله: أي: قبل الهجرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أقام نبيًّا في مكة ثلاثة عشرة سنة؟ فكيف يقال: صومه كان في الجاهلية؟! عمدة القاري (11/ 121).

قوله: «فلما قَدِمَ المدينة صامه، وأمرَ بصيامِهِ»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فلما قدم» -عليه الصلاة والسلام- «المدينة»، وكان قدومه بلا ريب في ربيع الأول «صامه» على عادته «وأمر» الناس «بصيامه» في أول السنة الثانية. إرشاد الساري (3/ 421).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«صامه وأمر بصيامه» قال بعض الظاهرية: قوله: «أمر بصيامه» يقتضي الوجوب من وجهين: من جهة فعله، ومن جهة أمره. المسالك (4/ 204).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
«فلمَّا قدم رسول الله المدينة صامه...» إلخ، أي: لما هاجر إلى المدينة صام يوم ‌عاشوراء، وداوم على صيامه، ولم يصمه اقتداء بهم، فإن كان يصومه من قبل، وأمر الناس بصيامه؛ استئلافًا لليهود، كما استألفهم باستقبال قبلتهم، فإنه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- كان في مبدأ الهجرة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْهَ عنه، فقد روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم يوم ‌عاشوراء؛ فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بنى إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه»، ويأتي للمصنف بعدُ حديثٌ، ولا ينافي هذا ما رواه مسلم من حديث أبي موسى قال: كان يوم ‌عاشوراء يومًا تُعَظِّمُه اليهود، وتتخذه عيدًا، فقال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم-: «صوموه أنتم»؛ فإنه لا يلزم من اتخاذه عيدًا، وتعظيمهم له: أنهم كانوا لا يصومونه، بل كان من جملة تعظيمهم له صومه، كما جاء في رواية لمسلم عن أبي موسى أيضًا قال: كان أهل خيبر يصومون ‌عاشوراء يتخذونه عيدًا، ويلبسون نساءهم فيه حُلِيَّهُم وشارتهم، أي: الحسن الجميل. المنهل العذب المورود (10/ 202).

قوله في رواية مسلم: «وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامَه، والمسلمونَ قبلَ أن يُفْتَرَضَ رمضانُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامه» بنفسه «والمسلمون» صاموا معه، «قبل أن يُفترض» أي: يُفرض، وافتعل هنا بمعنى الثلاثي؛ أتى به للمبالغة في معنى الثلاثي، أي: قبل أن يُفرض صوم شهر «رمضان» في السنة الثانية في شعبان. الكوكب الوهاج (13/ 48-49).

قوله: «فلما نزل رمضانُ كانَ رمضانُ الفريضةَ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فلما نزل رمضان ترك» زاد مسلم في روايته: «فإن كنتَ مفطرًا فأطعم»، وللنسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله: «كنا نصوم عاشوراء؛ فلما نزل رمضان لم نؤمر به، ولم نُنْهَ عنه، وكنا نفعله»، ولمسلم من حديث جابر بن سمرة نحو هذه الرواية، واستدل بهذا الحديث: على أن صيام عاشوراء كان مفترضًا قبل أن ينزل فرض رمضان ثم نُسخ. فتح الباري (8/ 179).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «‌فلما ‌نزل ‌رمضان» أي: صوم رمضان. عمدة القاري (18/ 103).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فلما نزل فرض رمضان» ونسخ وجوب صوم يوم عاشوراء «كان هو الفريضة» الناسخة لما قبلها، المستمر ثبوتها. شرح سنن أبي داود (10/ 568).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
«فلما نزل رمضان» كان رمضان الفريضة، وهذا اللفظ مشير إلى فرضية عاشوراء قبل رمضان، والشافعية ينكرونها. فيض الباري (5/ 204).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فلما ‌نزل ‌رمضان» أي: صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة. إرشاد الساري (7/ 22).

قوله: «وتَرَكَ عاشوراءَ»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
معنى قول عائشة: «وترك يوم ‌عاشوراء» أي: ترك صومه على الإيجاب؛ إذ لا فرض غير رمضان. التمهيد (14/ 104).
وقال الباجي -رحمه الله-:
يريد أنَّ رمضان لما فُرِضَ ورد الشرع بنسخ وجوب يوم عاشوراء، وليس في الأمر بصوم رمضان ما يدل على منع وجوب يوم عاشوراء، إلا أنه قُرِنَ به ما يدل على أنه جميع الفرض من الصوم، وقد بيَّن ذلك -صلى الله عليه وسلم- في قوله للذي سأله عن فريضة الصوم، فقال له: «شهر رمضان» فقال: هل عليّ غيره؟ فقال: «لا، إلا أن تطوع». المنتقى شرح الموطأ (2/ 58).

قوله: «فكانَ مَن شاءَ صامَه، ومَن شاءَ لم يصمْهُ»:
قال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله: «فمَن شاء فليصمه، ومَن شاء فليفطر»؛ فإنها إباحة وردت بعد وجوب؛ وذلك أن طائفة من العلماء قالوا: إن صوم يوم ‌عاشوراء كان فرضًا، ثم نُسخ بشهر رمضان؛ فلهذا ما أخبرهم بهذا الكلام، واحتجوا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: «كان صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل في رمضان...» الحديث. الاستذكار (3/ 327).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «فمَن شاء صامه، ومَن شاء تركه» يريد أنه لاحِقٌ بسائر الأيام التي لم يمنع صومها، ولا وجب، ولكنه مستحب، بدليل ما جاء في حديث معاوية: «وأنا صائم، فمَن شاء فلْيصمْ، ومَن شاء فلْيفطر»، قال أشهب: صيام يوم عاشوراء يستحب؛ لما رُجِيَ من ثواب ذلك، وليس بواجب. المنتقى شرح الموطأ (2/ 58).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «مَن شاء صام» يعني: نسخه صوم شهر رمضان، وهذا من قبيل النسخ بالأثقل، وفيه: أن الوجوب إذا نُسخ بقي الندب. الكواكب الدراري (9/ 149).
وقال الكرماني -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: جواز نسخ السنة بالكتاب، ‌والنسخ ‌بلا ‌بدل. الكواكب الدراري (8/ 113).
وقال البرماوي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: مذهب الشافعي وجمع: أنَّ ‌عاشوراء لم يجب حتى يُنسخ، وبتقدير أنه كان واجبًا، فلا معارضة بينه وبين رمضان، فلا نسخ، وأما قوله: بلا بدل، فعجيب! فإنهم يمثلون به لما هو ببدل أثقل إذا قلنا بالنسخ. اللامع الصبيح (6/ 59).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فمَن شاء صامه، ومَن شاء تركه» فعلى هذا: لم يقع الأمر بصومه إلا في سنة واحدة، وعلى تقدير صحة القول فقد نُسخ، ولم يُروَ عنه أنه -عليه الصلاة والسلام- جدد للناس أمرًا بصيامه بعد فرض رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه، فإن كان أمر -عليه الصلاة والسلام- بصيامه قبل فرض صيام رمضان للوجوب، فإنه يبنى على أن الوجوب إذا نُسخ هل ينسخ الاستحباب أم لا؟ فيه اختلاف مشهور، وإن كان أمره للاستحباب، فيكون باقيًا على الاستحباب. إرشاد الساري (3/ 421-422).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
ففي هذه الآثار: نسخ وجوب صوم يوم عاشوراء، ودليل أنَّ صومه قد رُدّ إلى التطوع، بعد أن كان فرضًا، وقد رُوِيَتْ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آثار أُخَرُ، فيها دليل على أن صومه كان اختيارًا لا فرضًا. شرح معاني الآثار (2/ 75).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لا يختلف العلماء أنَّ يوم ‌عاشوراء ليس بفرض صيامه، وفي هذا الحديث: دليل على فضل صوم يوم ‌عاشوراء؛ لأنه لم يخُصّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بندبه أمته إلى صيامه، وإرشادهم إلى ذلك، وإخباره إياهم بأنه صائم له؛ ليقتدوا به إلا لفضل فيه، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة. الاستذكار (3/ 327).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أجمع المذهب على أن عاشوراء كان فرضًا قبل رمضان، بدليل حديث عائشة: «كان يوم عاشوراء فلما فرض رمضان كان هو الفرض»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمَن شاء فلْيصمْ، ومَن شاء فلْيفطر»، وكان يرسل إلى قرى الأنصار في يوم عاشوراء أن مَن أصبح صائمًا فلْيُتِمّ صيامه، ومَن أكل فليتمّ أكله، وقال: «إني لأحتسب على الله أن يكفر ذنوب سنة قبله»، وقال بعض الْمُحَدِّثَة: إن هذا الحديث ناسخ؛ لقوله: «فصامه، وأمر بصيامه»، واحتج أبو حنيفة بأن الصوم يجزئ بِنِيَّةٍ من النهار، بدليل قوله -عليه السلام-: «هذا يوم عاشوراء، فمَن كان صائمًا فليتمّ، ومَن كان مفطرًا فلْيمسك»، وهذا الحديث لا حجة له فيه؛ لأنه منسوخ، والحكم إذا نُسخ لا يُحْتَجُّ بما يثبت فيه، وهذه مسألة من أصول الفقه. المسالك (4/ 203).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختلف العلماء في صيام عاشوراء، فقيل: كان فرضًا فنُسِخَ برمضان على ظاهر لفظ الحديث، وقيل: لم يكن فرضًا، ولكنه كان مُرَغَّبًا فيه، فَخُفِّفَ أمره، وحصل التخيير في صيامه بعد ذلك، ورُوي عن بعض السلف: أن فرضه باقٍ ‌لم ‌يُنسخ، وقد انقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على خلافه. إكمال المعلم (4/ 78).
وقال العيني -رحمه الله-:
اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء سنَّة، وليس بواجب، واختلفوا في حكمه أول الإسلام، فقال أبو حنيفة: كان واجبًا، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين: أشهرهما: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكُ واجبًا قطُّ في هذه الأمة، ولكنه كان يتأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبًّا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبًا كقول أبي حنيفة. عمدة القاري (11/ 118).
وقال الطبري -رحمه الله-:
فإنْ قال لنا قائل: فما وجه كراهة من كره صومه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم؟
قيل: وجه كراهتهم ذلك: نظير كراهة من كره صوم رجب؛ إذ كان شهرًا كانت الجاهلية تُعَظِّمُهُ، فكَرِهَ مَن كره صومه أن يعظمه في الإسلام بصومه تعظيم أهل الجاهلية إياه في الشرك، فأراد بإفطاره وضع منار الكفر، وهدم أعلام الشرك، وكذلك عاشوراء، كان كما قد ذكرنا الخبر قبل عمن ذكرنا ذلك عنه يومًا يصومه أهل الشرك في الجاهلية، فأراد بإفطاره والنهي عن صومه من أفطره، وكره صومه: إبطال ما أبطله الله تعالى بما شرع لعباده من فرض صوم شهر رمضان من سنة أهل الجاهلية في صومه، ومن غير تحريم منه صومه على مَن صامه، ولا موئسه من الثواب الذي وعد الله تعالى صائميه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إذا صامه مبتغيًا بصومه إياه استنجاز وعده ذلك، لا مريدًا به إحياء سنة أهل الشرك، وكذلك ذلك في صوم رجب. تهذيب الآثار (1/ 397-398).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
يُستفاد منه: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الناس بصيام يوم ‌عاشوراء إلا بعد قدومه المدينة، واختلف في صومه هل كان فرضًا أم نفلًا؟ فذهب قوم إلى أنه كان فرضًا، فلما فُرض صوم رمضان نُسخ افتراضه، وبقي مستحبًّا، وذهب آخرون إلى أنه كان نفلًا مؤكدًا، فلما فُرض صوم رمضان خُفِّفَ في أمره. الفتح الرباني (9/ 240).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في ‌فوائده (أي: الحديث):
1. منها: بيان فضل صوم يوم ‌عاشوراء؛ لأنه لم يخصه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِنَدْبِهِ أُمَّتَهُ إلى صيامه، وإرشادهم إلى ذلك، وإخباره إياهم بأنه صائم له؛ ليقتدوا به، إلا لفضلٍ فيه، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة...
2. ومنها: بيان استحباب صوم يوم ‌عاشوراء، وأنه باقٍ لا نسخ فيه.
3. ومنها: بيان أن صوم ‌عاشوراء كان واجبًا قبل فرض رمضان، ثم نُسخ، وفيه اختلاف بين العلماء...
4. ومنها: بيان جواز النسخ في شريعتنا، ووقوعه أيضًا، وهو مجمع عليه بين المسلمين...
5. ومنها: بيان أن النسخ قد يكون بالأثقل، فإن صوم عاشوراء يوم واحد نسخ بصوم شهر رمضان.
6. ومنها: بيان أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان، وهذا مجمع.
7. ومنها: بيان أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوافق قريشًا على ما يفعلونه من الخير، كصوم يوم عاشوراء، وكالحج والعمرة.
8. ومنها: بيان أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يوافق أهل الكتاب أيضًا فيما يفعلونه حتى أُمر بمخالفتهم، فخالفهم...
9. ومنها: بيان مشروعية شكر الله تعالى بالصوم لمن حصل له خير من تفريج كرب، أو تيسير أمر.
10. ومنها: بيان أن ما حصل من النعم للأنبياء السابقين كنجاة نوح -عليه السلام-، ونجاة موسى -عليه السلام-، وغرق فرعون؛ ينبغي لنا أن نفرح به، ونشكر الله تعالى على ذلك؛ فإنه من جملة النعم الواصلة إلينا بالواسطة. البحر المحيط الثجاج (21/ 166-168).


ابلاغ عن خطا