الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«ما العملُ في أيامِ العَشْرِ أفضلَ مِن العملِ في هذه، قالوا: ولا الجهادُ؟ قال: ولا الجهادُ، إلا رجلٌ خرج يُخاطِرُ بنفسهِ ومالهِ فلم يَرْجِعْ بشيءٍ»


رواه البخاري برقم: (969)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
رواه أحمد برقم: (1968) وأبو دواد برقم: (2438) والترمذي برقم: (757) وابن ماجه برقم: (1727) بلفظ: «ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيامِ، يعني أيامَ العَشْرِ..».
ورواه البيهقي في الشعب برقم: (3476) والدارمي برقم: (1815) بلفظ: «ما مِن عملٍ أزكى عندَ اللهِ -عز وجل- ولا أعظمَ أجرًا مِن خيرٍ يعملُهُ في عشرِ الأضحى».


شرح مختصر الحديث


 


غريب الحديث


«يُخَاطِرُ»:
والخَطَر: الإِشراف على الهَلاكِ، يُقال: خاطر بنفسه، والخطر: السبق الذي يُتَراهَن عليه، وقد أَخْطَرَ المالَ، أي: جعلَه خَطَرًا بين المُتَراهِنين، وخاطَرَهُ على كذا. الصحاح، للأزهري (2/ 648).


شرح الحديث


قوله: «ما العملُ في أيَّامِ العَشْرِ أفضلَ مِن العملِ في هذه»:
قال ابن رجب – رحمه الله –:
قوله: «ما العملُ في أيام أفضلُ منها في هذه الأيام - يعني: أيام العَشرِ-»، قالوا: ولا الجهادُ؟ قال: «ولا الجهادُ، إلَّا رجلٌ يَخرجُ يُخاطِرُ بنفسِه ومالِه، فلم يَرجِعْ بشيءٍ».
هكذا في أكثرِ النُّسَخِ المعتمدةِ، وفي أكثر (بعض) النُّسخِ: «ما العملُ في العَشْرِ أفضلُ منه في هذه الأيامِ» - وكأنه يُشيرُ إلى أيام التشريق -، والحديث بهذا اللفظِ غيرُ معروفٍ.
وفيه: تفصيلُ العملِ في أيام التشريق وأيام العشر جميعًا.
ولعلَّ هذا مِن تَصرُّفِ بعضِ الرواة، حيثُ أَشكل عليه إدخالُ الحديثِ باللفظِ المشهورِ في (باب: فضلِ العَملِ في أيام التشريق).
والبخاري اتَّبعَ عبد الرزاق؛ فإنَّهُ أخرج هذا الحديث في مصنفه في بابِ: (فضلِ أيام التشريق) - أيضًا.
وقد ذُكِرَ أنَّ البخاري وإن بوَّبَ على أيام التشريق، لكنه ذَكر في البابِ فضل أيام العَشر وأيام التشريقِ جميعًا، ولهذا ذَكَرَ عن ابنِ عباس تفسير الأيام المَعلوماتِ، والأيام المَعدوداتِ، وعن ابنِ عمر وأبي هريرة التَّكبير في أيام العَشر، وعن محمد بنِ علي التكبير في أيام التشريق خلف النوافل، فعُلِمَ أنه أراد ذِكْرَ فضائلِ هذه الأيام جميعها، وليس في فضل العملِ في أيام التشريق حديثٌ مرفوعٌ، فأخرج فيه حديثَ فضلِ العمل في أيام العَشرِ.فتحُ الباري (6/ 114).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه» كذا لأكثر الرواة بالإبهام، ووقع في رواية كريمة عن الكشميهني: «ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه»، وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه الأيام، إن فسرت بأنها أيام التشريق. وعلى ذلك جرى بعض شراح البخاري، وحمله على ذلك ترجمة البخاري المذكورة، فزعم أن البخاري فسر الأيام المبهمة في هذا الحديث بأنها أيام التشريق، وفسر العمل بالتكبير، لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط.
وقال ابن أبي جَمرة: الحديث دال على أن العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيرها. قال: ولا يُعكر على ذلك كونها أيام عيدٍ كما تقدم من حديث عائشة، ولا ما صح من قوله – عليه الصلاة والسلام – «إنها أيام أكل وشرب» كما رواه مسلم، لأن ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد شُرع فيها أعلى العبادات وهو ذِكر الله تعالى، ولم يمنع فيها إلا الصيام. قال: وسِرّ كون العبادة فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها، وأيام التشريق أيام غَفلة في الغالب، فصار للعابد فيها مزيد فضلٍ على العابد في غيرها، كمَن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام.
وفي أفضلية أيام التشريق نُكتة أخرى، وهي أنها وقعت فيها مِحنة الخليل بولده، ثم منّ الله عليه بالفِداء، فثبت لها الفضل بذلك. اهـ.
وهو توجيه حَسن، إلا أن المنقول يعارضه، والسياق الذي وقع في رواية كريمة شاذ مخالفٌ لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ، عن الكُشميهني شيخ كريمة، بلفظ: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر». وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالإسناد المذكور، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال: «في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة»، وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة.
ووقع في رواية وكيع المُقدّم ذكرها: «ما مِن أيام العَمل الصالح فيها أَحبُّ إلى الله مِن هذه الأيام – يعني: أيام العَشر»، وكذا رواه ابن ماجه من طريق أبي معاوية عن الأعمش، ورواه الترمذي من رواية أبي معاوية فقال: «مِن هذه الأيام العشر» بدون "يعني".
وقد ظنَّ بعض الناس أن قوله: "يعني أيام العشر" تفسير من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أَنه من نفس الخبر. وكذا وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ: «ما مِن عمل أزَكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأَضحى»، وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: «ما مِن أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذِي الحِجّة».
فظهر أنَّ المراد بالأيام في حديث الباب: أَيام عشر ذي الحِجّة، لكنه مُشكل على ترجمة البخاري بأيام التشريق، ويُجاب بأجوبة:
أحدها: أنَّ الشيء يُشرف بمجاورته للشيء الشريف، وأيام التَّشريق تقع تلو أَيام العَشر، وقد ثبتت الفضيلة لأيام العَشر بهذا الحديث، فثبتت بذلك الفضيلة لأيام التشريق.
ثانيها: أنّ عَشر ذِي الحِجّة إِنما شرف لوقوع أعمال الحج فيه، وبقية أعمال الحج تقع في أيام التشريق كالرمي والطواف وغير ذلك من تمامه، فصارت مُشتركة معها في أصل الفضل، ولذلك اشتركت معها في مشروعية التكبير في كل منها، وبهذا تظهر مناسبة إيراد الآثار المذكورة في صدر الترجمة لحديث ابن عباس، كما تقدمت الإشارة إليه.
ثالثها: أن بعض أيام التشريق هو بعض أيام العشر، وهو يوم العيد، وكما أنه خاتمة أيام العشر، فهو مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت لأيام العشر من الفضل شاركتها فيه أيام التشريق، لأن يوم العيد بعض كل منها، بل هو رأس كل منها، وشريفه، وعظيمه، وهو يوم الحج. فتح الباري(2/ 459).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام -يعني: أيام العشر-»... فإن قيل: هل المراد تفضيل العمل في هذه العشر على العمل في كل عشر غيره من أيام الدنيا، فيدخل في ذلك عشر رمضان وغيره، أم على العمل في أكثر من عشر أخر من الأيام وإن طالت المدة؟
قيل: أما تفضيل العمل فيهِ على العمل في كل عشر غيره، فلا شك في ذلك.
ويدل عليه: ما خرجه ابن حبان في صحيحه، من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة» فقال رجل: يا رسول الله، هنَّ أفضل أو عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: «هنَّ أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله -عز وجل-» فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر رمضان.
لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار، ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من فرائض غيره، كما سبق تقريره في الحج والجهاد، وحينئذٍ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن الفرض أفضل من النفل، وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.
وأما تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في أكثر من عشرة أيام من غيره، ففيه نظر...
وفي مسند البزار من وجه آخر عن جابر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أفضل أيام الدنيا العشر» وروي مرسلًا، وقيل: إنه أصح، وقد سبق قول ابن عمر في تفضيل أيام العشر على يوم الجمعة الذي هو أفضل أيام الدنيا، وقال مسروق في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} الفجر: 2: هي أفضل أيام السَّنة، وهذه العشر تشتمل على يوم عرفة، وفي صحيح ابن حبان عن جابر مرفوعًا: «إنه أفضل أيام الدنيا» وفيه: «يوم النحر» وفي حديث عبد الله بن قرط، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر» خرّجه أبو داود وغيره، وقد سبق في الحديث المرفوع: «أنَّ صيام كل يوم منه بسنة، وقيام كل ليلة منه يعدل ليلة القدر».
وهذا يدل على أنَّ عشر ذي الحجة أفضل من عشر رمضان، لياليه وأيامه، وقد زعم طائفة من أصحابنا: أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر، وقد تقدم عن ابن عمر أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة، فلا يستنكر حينئذٍ تفضيل ليالي عشر ذي الحجة على ليلة القدر، وعلى تقدير أن لا يثبت ذلك، فقال بعض أعيان أصحابنا المتأخرين: مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا تفضل عليها غيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم...، وهذا كله يدل على أنَّ شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم؛ حيث كان أعظمها حرمة، وروي عن الحسن: أن أفضلها المحرم، وأما ما قاله بعض الفقهاء الشافعية: إنَّ أفضلها رجب، فقوله ساقط مردود، والله تعالى أعلم. فتح الباري (9/ 12-20).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. مجموع الفتاوى (25/ 287).
وقال ابن القيم -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيهما يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية.
وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمَن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أنْ يدلي بحجة صحيحة. بدائع الفوائد (3/ 162).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
قوله: «العمل» يشمل الصلاة والصدقة والصيام والذكر والتكبير وقراءة القرآن وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق وحسن الجوار وغير ذلك...، كل الأعمال الصالحة، ما من أيام في السَّنة يكون العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر...، ففي هذا دليل على فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة من صيام وغيره. شرح رياض الصالحين (5/ 303).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وإنما كان العمل الصالح في هذه العشرة أفضل لفضل هذه الأيام؛ لأنها أيام الشهر الحرام، والحُجَّاج يشتغلون في هذه الأيام بزيارة بيت الله الحرام والبلد الحرام، ولا شَكَّ أنَّ الوقتَ إذا كان أفضل من غيره يكونُ العمل الصالح فيه أفضل. المفاتيح (2/ 351).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
المراد أن العمل الصالح في الأيام العشر المذكورة يعطى الإنسان عليه أجرًا عظيمًا لا يعطاه عليه لو عمله في غيرها، جهادًا كان أو غيره، ولعل استغراب الصحابة دخول الجهاد في هذه الأعمال لِمَا يترتب على الجهاد فيها من ضياع أعمال الحج، ويحتمل أن المراد أن العمل الصالح في الأيام العشر وإن قلّ أفضل من العمل في غيرها وإن عَظُم؛ ولذا استغرب الصحابة دخولَ الجهاد في الأعمال المفضولة؛ لأنهم كانوا يرونه أفضل الأعمال، فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: «لا أجده» قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أنْ تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟» قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة: «إنَّ فرس المجاهد ليستن في طِوَله، فيكتب له حسنات» وقوله: «ليستن» أي: يمرح، والطِّول بكسر الطاء، وفتح الواو: الحبْل الذي تشدّ به الدابة، ويجمع بين هذا الحديث وحديث الباب: بأنَّ هذا الحديث عام مخصوص بحديث الباب، فكأنَّ النبي -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- قال: لا أجد عملًا صالحًا يساوى الجهاد، أو يفضله إلا العمل الصالح في عشر ذي الحجة، ويحتمل أنْ يكون المراد بالجهاد في حديث البخاري جهاد رجل خرج ولم يرجع لا بنفسه ولا بماله، كما ذكره المصنف بقوله: «إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» فإن عمله أفضل الأعمال مطلقًا؛ لأنه بلغ مبلغًا لا يكاد يتفاوت بشرف الزمان والمكان؛ لأن الله تعالى رزقه الشهادة، أو أنه فقد جميع ماله في سبيل الله، وإنْ رجع هو بنفسه. المنهل العذب المورود (10/ 196).

قوله: «قالوا: ولا الجهادُ؟ قال: ولا الجهادُ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟» أي: المفعول في غيرها أفضل من غيره من عمل البر فيها؟ «قال: ولا الجهاد في سبيل الله» أي: فلا يفوق عمل البر فيها. دليل الفالحين (7/ 58).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «ولا الجهاد في سبيل الله؟» يدل على تقرير أفضلية الجهاد عندهم، وكأنهم استفادوه من قوله -صلى الله عليه وسلم- في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال: «لا أجده» كما في البخاري من حديث أبي هريرة. نيل الأوطار (3/ 372).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
فقول السائل: «ولا الجهاد؟ » عطف تلقين على قوله -صلى الله عليه وسلم- : «ما العمل» فيكون التقدير: ما الأعمال ولا الجهاد في أيام بأفضل من أنواعه في هذه الأيام، ولو بلغ ما بلغ من صفات الكمال غير الزمان. النظر الفسيح (ص: 23).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «ولا الجهادُ؟» أي: ليس مطلق الجهاد كله بموجب، بل الموجب ما ذكر من المخاطرة بالنفس والمال، ففضله لا يحاط به. التوضيح (8/ 113).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:

قوله: «ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟» أي: في أيام أُخر. لمعات التنقيح (3/ 577).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
قوله: «قال: ولا الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟» وحاصلُ الحديث -على ما قالوا- أَنَّ العملَ في هذه الأيام أفضل من ذلك العملِ إذا كان في غير هذه الأيام، فليس فيه تفضيلُ الشيء على نَفْسه باعتبار زمان واحدٍ ليلزم المُحال، بل باعتبار الأزمنة المختلفة، ثم قالوا: إنه ماذا يكون حينئذٍ معنى قوله: «ولا الجهادُ في سبيل الله»؟ فقالوا: إنَّ كونَهُ مَفْضُوْلًا أيضًا معقولٌ؛ لأن الاشتغال بالجهاد فيها يوجِب فواتَ الحج.
أقول: والصوابُ عندي أنْ تفضيل الأَعمال المختَصَّة بهذه الأيام على جميع الأعمال في سائر السَّنة، وقد علمت أنها بعد التتبع ليست إلا الصيام والتكبير، وإذَن معناه: أَنَّ التكبير والصيام في هذه الأيام أَفضَلُ من سائر الأعمال فيما سواها، فالعملُ وإن كان عامًّا في اللفظ لكنه خَصَّصْناه بهذين نظرًا إلى الخارج، ولا ريب أن الفَضْل في تقديم الوظيفةِ الوقتية، وهذا الشرح أخذتُهُ مِنْ الزَّيْلعي، ثم هذا كلُّه إذا لم يكن الجِهَادُ فرضًا، فإن الكلام في الفضائل دون الفرائض. فيض الباري (2/ 472).

قوله: «إلا رجلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنفسِهِ ومالِهِ»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«إلا رجلٌ» قيل: هو متصل، والرفعُ على البدل، وهو على حذف مضاف؛ أي: إلا عملُ رجلٍ، وقيل: منقطع؛ أي: لكنْ رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء أفضل من غيره.
قلتُ: إنما يستقيم هذا على اللغة التميمية، وإلا فالمنقطع عند غيرهم واجب النصب. مصابيح الجامع (3/ 21).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«إلا رجلٌ» على حذف مضاف؛ أي: إلا جهاد من خرج. اللامع الصبيح (4/ 367).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«يخاطر بنفسه» أي: يُشرف بها على الهلاك، «فلم يرجع بشيء» أي: بشيء من ماله، وتسلم نفسه، أو بشيء منهما؛ بأن يذهبَ ماله، ويُستشهد. مصابيح الجامع (3/ 21).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «يخاطر بنفسه» جملة حالية، أي: يكافح العدو بنفسه وسلاحه وجواده، فيسلم من القتل أو لا يسلم، فهذه المخاطرة، وهذا العمل أفضل من هذه الأيام وغيرها، مع أنَّ هذا العمل لا يمنع صاحبه من إتيان التكبير والإعلان به، وفي رواية المستملي: «ولا الجهاد إلا من خرج يخاطر». عمدة القاري (6/ 291).
قوله: «فلم يَرْجِعْ بشيءٍ»:
قال الدماميني -رحمه الله-:
«فلم يرجع بشيء» أي: بشيء من ماله، وتسلم نفسه، أو بشيء منهما؛ بأن يذهبَ ماله، ويُستشهد. مصابيح الجامع (3/ 21).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فلم يرجع بشيء» أي: من ماله، ويرجع هو، ويحتمل أن لا يرجع هو ولا ماله، فيرزقه الله الشهادة، وقد وعد الله عليها الجنة، قيل: قوله: «فلم يرجع بشيء» يستلزم أنه يرجع بنفسه ولا بد، ورُدّ بأنَّ قوله: «بشيءٍ» نكرة في سياق النفي، فتعم ما ذُكر. عمدة القاري (6/ 291).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
«فلم يرجع بشيء» لأنه أنفق جميع ذلك في سبيل الله، ولم يرجع بنفسه، أي: يقاتل فيقتل، فيكون شهيدًا، والله أعلم. فتح القريب المجيب (6/ 135).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «فلم يرجع من ذلك بشيء» يعني: مَنْ أُخِذَ مالُه، وأهَرِيقَ دَمُهُ في سبيل الله تعالى، فهذا الجهادُ أفضلُ من العبادة في هذه الأيام؛ لأن الثوابَ يكون بقدر المشقَّة في سبيل الله تعالى، ولا مشقة ولا رياضة في عمل من الأعمال الصالحة، أشدُّ من أن يُهَرَاقَ دمُ الرجل في سبيل الله تعالى. المفاتيح (2/ 351).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«فلم يرجع بشيء» أي: منهما (بنفسه وماله) إن قتل شهيدًا، أو من ماله إن رجع سالمًا، فعلى الأول النفي راجع إلى القيد والمقيد معًا، وعلى الثاني إلى القيد فقط. منحة الباري (3/ 40-42).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فلم يرجع من ذلك بشيء» وذلك فضل الشهادة وليس بعمل، فافهم. لمعات التنقيح (3/ 577).
وقال ابن عاشور -رحمه الله-:
استثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جهادًا يقع على صفة عظيمة، فيكون بذلك أفضل من نوعه إذا وقع في الأيام العشر على غير تلك الصفة، وهو الجهاد الذي تعقبه الشهادة في غير أيام العشر، فهو أفضل من جهاد لا تعقبه الشهادة في أيام العشر، فهذا نوع واحد من العمل تفاضل بصفته، ولم يتفاضل بوقوعه في أيام العشر.
ثم من المعلوم أنَّ الجهاد المعقب بالشهادة في أيام العشر هو أفضل من مثله الواقع في غير أيام العشر، فقد استوعب هذا الكلام النبوي الأقسام كلها بمنطوقه ومفهومه وفحواه. النظر الفسيح (ص: 23).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: فضيلة العشر الأول من ذي الحجة، وأنَّه كذلك من حيث أنه أول شهر حرام بين شهرين حرامين فيه أيام الإحرام من الحاج، وأيام رفع الأصوات بالتلبية، وقصد الناس بيت الله الحرام للحج الذي جعل الله فيه لمن شهده منافع. الإفصاح (3/ 149).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
هذا الحديث نصٌّ في أنَّ العمل المفضول يصير فاضلًا إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛ لفضل زمانه.
وفي أنَّ العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يُستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء، وقد سُئل: أي الجهاد أفضل؟ قالَ: «مَن عُقر جواده، وأهريق دمه» وسمع رجلًا يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقالَ لهُ: «إذن يُعقر جوادك، وتستشهد» فهذا الجهاد بخصوصٍ يَفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها...
فإن قيل: فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد؛ لأن الحج يختص بهذه العشر وهو من أفضل أعماله، ومع هذا فالجهاد أفضل منه؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه قال: «أفضل الأعمال الإيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور» قيل: للجمع بينهما وجهان:
أحدهما: بأن يكون الحج أفضل من سائر أنواع الجهاد، إلا الجهاد الذي لا يرجع صاحبُه منه بشيء من نفسه وماله، فيكون هذا الجهاد هو الذي يفضل على الحج خاصة، وقد روي عن طائفة من الصحابة تفضيل الحج على الجهاد، ومنهم: عمر وابنه وأبو موسى وغيرهم، عن مجاهد وغيره، فيحمل على تفضيله على ما عدا هذا الجهاد الخاص، ويجمع بذلك بين النصوص كلها.
الوجه الثاني: أنَّ الجهاد في نفسه أفضل من الحج، لكن قد يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك، فيكون الجهاد أفضل منه حينئذٍ، ولذلك أمثله:
منها: أنْ يكون الحج مفروضًا، فيكون حينئذ أفضل من التطوع بالجهاد، هذا قول جمهور العلماء...
ومنها: أنْ يكون الحاج ليس من أهل الجهاد، فحجُّه أفضل من جهاده، كالمرأة...
ومنها: أنْ يستوعب عملُ الحج جميعَ أيام العشر، ويُؤتَى به على أكمل وجوه البر؛ من أداء الواجبات، وفعل المندوبات، واجتناب المحرمات والمكروهات، مع كثرة ذكر الله -عز وجل- والإحسان إلى عباده، وكثرة العَجِّ والثَّجِّ؛ فهذا الحج قد يفضل على الجهاد.
وقد يحمل عليه ما روي عن الصحابة من تفضل الحج على الجهاد، كما سبق، وإنْ وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر، ولم يؤت به على الوجه الكامل من البر، فإن الجهاد حينئذٍ أفضل منه. فتح الباري (9/ 15).
وقال العيني -رحمه الله-:
فيه: تعظيم قدر الجهاد، وتفاوت درجاته، وأنَّ الغاية القصوى فيه بذل النفس لله تعالى.
وفيه: تفضيل بعض الأزمنة على بعض، كالأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السَّنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام، أو علَّق عملًا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يومًا منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعًا بين حديث الباب وحديث أبي هريرة مرفوعًا: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» رواه مسلم، وقال الداودي: لم يرد -صلى الله عليه وسلم- أنَّ هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، فيلزم تفضيل الشيء على نفسه، ورد بأنَّ المراد أنَّ كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السَّنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره؛ لاجتماع الفضيلتين فيه، والله أعلم. عمدة القاري (6/ 291).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فيه دليل على فضيلة هذه الحال النادرة: أنْ يخرج الإنسان مجاهدًا في سبيل الله بنفسه وماله -ومالُه يعني: سلاحه ومركوبه- ثم يُقتل، ويؤخذ سلاحه ومَركوبه -يأخذه العدو- فهذا فقَدَ نفسَه ومالَه في سبيل الله؛ فهو من أفضل المجاهدين، فهذا أفضل من العمل الصالح في أيام العشر، وإذا وقع هذا العمل في أيام العشر تضاعف فضله. شرح رياض الصالحين (5/ 303).


ابلاغ عن خطا