الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

‌عن ‌ربيعةَ ‌قال: ‌حدَّثنِي ‌قَزَعَةُ، ‌قال: ‌أَتَيْتُ ‌أبا ‌سعيدٍ ‌الخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- ‌وهو ‌مَكْثُورٌ ‌عليه، ‌فلمَّا ‌تَفَرَّقَ ‌الناسُ ‌عنه، ‌قُلْتُ: ‌إنِّي ‌لا ‌أَسْأَلُكَ ‌عمَّا ‌يَسألك ‌هؤلاءِ ‌عنه، ‌سأَلْتُهُ ‌عنِ ‌الصومِ ‌في ‌السفرِ، ‌فقال: ‌سافرنا ‌مع ‌رسولِ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌إلى ‌مكة ‌ونحنُ ‌صيامٌ، ‌قال: فنزلنا ‌مَنزلًا، ‌فقال ‌رسولُ ‌الله -صلى الله عليه وسلم-: «‌إنَّكُم ‌قد ‌دَنَوْتُمْ ‌مِن ‌عدُوِّكُمْ، ‌والفِطْرُ ‌أَقْوَى ‌لكم» ‌فكانتْ ‌رُخْصَةً، ‌فمِنَّا ‌مَن ‌صامَ، ‌ومنَّا ‌مَن ‌أَفْطَرَ، ‌ثم نزلنا ‌منزلًا ‌آخَرَ، ‌فقال: «‌إنَّكُم ‌مُصَبِّحُو ‌عَدُوِّكُمْ، ‌والفِطْرُ ‌أَقوى ‌لكم؛ ‌فافطروا» ‌وكانتْ ‌عَزْمَةً، فأفطرنا، ‌ثم ‌قال: ‌لقد ‌رَأَيْتُنَا ‌نصومُ ‌مع ‌رسول ‌الله -صلى الله عليه وسلم- ‌بعدَ ‌ذلك ‌في ‌السَّفَرِ. 


رواه مسلم برقم: (1120)، من حديث أبي سعيد الخُدْرِي -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«مَكْثُورٌ»:
أي: كَثُرَ مَن يَطلب إليه معروفه. العين، للخليل (5/ 348).
وقال الحميدي -رحمه الله-:
مَكْثُور عليه معناه: الذي كَثُرَتْ الحقوق عليه. تفسير غريب ما في الصحيحين (ص: 492).

«‌مُصَبِّحُو ‌عَدُوِّكُمْ»:
بميم مَضْمُومَة، أي: تُوافونه صباحًا. التيسير، للمناوي(1/ 357).

«عَزْمَة»:
أي: حقٌّ من حقوق الله، أي: واجب مما أوجبه الله. تهذيب اللغة، للأزهري (2/ 92).
وقال القاضي عياض-رحمه الله-: ‌
عَزْمَةٌ، أي: حق واجب، بفتح العين وسكون الزاي، وقيل: إنها أمرُ شِدَّة، لا تراخي فيها، ومثله قوله في الجمعة: «إنها ‌عَزْمَة». مشارق الأنوار (2/ 80).


شرح الحديث


قوله: ‌«عن ‌ربيعةَ ‌قال: ‌حدَّثنِي ‌قَزَعَةُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«عن ربيعة» بن يزيد القصير الدمشقي، أبي شعيب الإيادي، فقيه أهل دمشق مع مكحول، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة (123هـ)، «قال» ربيعة «حدثني قزعة» بن يحيى الحرشي البصري. الكوكب الوهاج (7/ 300).

قوله: «‌قال: ‌أَتَيْتُ ‌أبا ‌سعيدٍ ‌الخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- وهو مَكْثُورٌ عليه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» قَزَعَة «أتيتُ أبا سعيد الخدري». الكوكب الوهاج (7/ 300).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«وهو مَكْثُورٌ عليه» أي: قد كثر الناس عليه، فعدّى الكثرة وهي لازمة، كما يقال: مرغوب فيه. كشف المشكل (3/ 170).
وقال النووي-رحمه الله-:
قوله: «‌وهو ‌مَكْثُورٌ ‌عليه» أي: عنده ناس كثيرون للاستفادة منه. شرح مسلم (4/ 176).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«‌مَكْثُورٌ عليه» أي :مغلوب بكثرة الناس عنده للاستفادة، يعني: اجتمع عنده ناس كثيرون؛ ليستفيدوا منه الحديث. الكوكب الوهاج (7/ 300).

قوله: «إنِّي لا أسألُكَ عما يسألُكَ هؤلاءِ عنه»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إني لا أسألك» يا أبا سعيد «عمَّا يسألك هؤلاء» المجتمِعون عندك. الكوكب الوهاج (7/ 300).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله- أيضًا:
«إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء» الناس «عنه» من الأسئلة المختلفة غير الضرورية. الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«لا أَسْأَلكَ عما يَسْأَلكَ هؤلاءِ عنه» أي: لكونه مما لا حاجة له إليه. البحر المحيط الثجاج (21/ 128).

قوله: «‌سألتُهُ ‌عن ‌الصومِ ‌في ‌السَّفرِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«‌سألته ‌عن ‌الصوم ‌في ‌السفر» والفطر فيه أيهما أفضل؟ الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«‌سألته ‌عن ‌الصوم ‌في ‌السفر» أي: عن حكمه، هل هو جائز أم لا؟ البحر المحيط الثجاج (21/ 128).

قوله: «‌فقال: ‌سافَرْنَا ‌مع ‌رسولِ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌إلى ‌مكَّةَ ‌ونحنُ ‌صيامٌ، ‌قال: ‌فَنَزَلْنَا ‌منزلًا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقال: سَافَرْنَا مَع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكَةَ» أي: في عام الفتح «ونحنُ صيامٌ» جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: صائمون؛ لمصادفة سفر الفتح شهر رمضان. البحر المحيط الثجاج (21/ 128).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«قال» أبو سعيد «فنزلنا منزلًا» في الطريق. الكوكب الوهاج (13/ 28).

قوله: «فقال ‌رسولُ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنكم قد دنوتُم من عدوِّكُم، والفطرُ أقوى لكم»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنكم قد دنوتم» أي: قَربْتُم «من عدوكم» المشركين، يقال: دنا منه، ودنا إليه، يدنو دنوًّا: إذا قرب إليه، كما في المصباح، «والفطر أقوى لكم» أي: أَفْيَد لكم في القوة والقدرة والغلبة على عدوكم. الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «‌إنكم ‌قد ‌دَنوتم ‌من ‌عدوِّكم، ‌والفطر ‌أقوى ‌لكم» دليل على أنَّ حفظ القوة بالفطر أفضل لمن هو منتظِر للقاء العدوِّ. المفهم (3/ 183).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قال المتولي من أصحابنا (الشافعية): لو لم يتضرر في الحال، لكن يخاف الضعف من الصوم، وكان سفر حج أو عمرة أو غزو، فالفطر أفضل، قال السبكي: ولم يخالفه غيره، والحديث حجة لذلك. شرح سنن أبي داود (10/ 384).

‌قوله: «فكانت ‌رخصةً»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «‌فكانت ‌رخصة» يعني: أنهم لم يفهموا من هذا الكلام الأمر بالفطر، ولا الجزم به، وإنما نبَّه به على أنَّ الفطر أولى لمن خاف الضعف.
وسُمِّي هذا رخصة: بناء على أنَّ كل مُكلَّف مخاطَب بصوم رمضان، كما قد أَفْهَمَهُ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} البقرة: 183، أو بالنسبة إليهم؛ إذ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صام من حين خروجه من المدينة، وصام الناس معه إلى أنْ بلغ الكديد، كما تقدَّم، فلما خاف عليهم الضعف نبَّهَهم على جواز الفطر، وأنه الأفضل، فسُمي ذلك رخصة بالنسبة إلى ترك ما كانوا قد اختاروه من الصوم. المفهم (3/ 183).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فكانت ‌رخصة» أي: فكانت الدعوة إلى الفطر عَرْضًا خفيفًا على هيئة الإذن والترخيص، وليس أمرًا قويًّا جازمًا، فَهِم ذلك أبو سعيد الخدري، كما فهمه الصحابة. فتح المنعم (4/ 573).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فكانت» خصلة الفطر «رخصة» لنا، والرخصة: الانتقال من صعوبة إلى سهولة. الكوكب الوهاج (13/ 28).

قوله: «فمنَّا من صام، ومنا من أفطر»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فَمِنَّا مَن صامَ، ومِنَّا مَن أفطَرَ» أي: حيث رأوها رخصة غير مُلْزِمة للفطر. البحر المحيط الثجاج (21/ 128).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ولما فهموا أن هذا من باب الرُّخص كان منهم من هو موفور القوة فصام، وكان منهم من خاف على نفسه فأفطر. المفهم (3/ 183).
قوله: «ثم نزلنا منزلًا آخرَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ثم» سِرْنَا من ذلك المنزل حتى قربنا إلى مكة فـ«ـنزلنا منزلًا آخر» أقرب إلى مكة. الكوكب الوهاج (13/ 28).

قوله: «إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطرُ أقوى لكم، فأفطروا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«إنكم» أيها الأصحاب «مُصَبِّحُو عدوِّكم» أي ملاقوهم صباحًا ومُغيْرون عليهم، يقال: صبَّحت فلانًا بالتشديد إذا أتيتَه صباحًا، «والفطر أقوى لكم» أي: أَفْيَدُ لكم في القدرة على قتالهم «فأفطِروا» بصيغة الأمر، أي: بيِّتُوا الفطر، ولا تُبَيِّتُوا الصوم. الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«والفطْرُ أَقْوَى لكُم، فأفطروا» هذا أمرٌ بالإفطار، وهو للوجوب. البحر المحيط الثجاج (21/ 129).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
أجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد، وفَعَله، وأفتى به لما نازل العدوُّ دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهين وقال: ليس سفرًا طويلًا، فقال الشيخ: هذا فِطر للتقوّي على جهاد العدو، وهو أَوْلَى من الفطر للسفر يومين سفرًا مباحًا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام، وهل يشكُّ فقيه أنَّ الفطر ها هنا أولى من فطر المسافر، وقد أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم؟! فعلَّل ذلك للقوة على العدو لا للسفر، والله أعلم.
قلتُ: إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما، وفِطْرُ مَن يُخَلِّصُ الغريق؛ ففِطْرُ المقاتلين أَولى. بدائع الفوائد (4/ 45).

قوله: «وكانت عزمةً، فأفطرنا»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وكانت» خصلة الفطر «عَزْمَةً» بسكون الزاي، أي: مُتَحَتِّمَة غير رخصة، والعزمة الانتقال من صعوبة إلى صعوبة. الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال عبد اللطيف بن الملك -رحمه الله-:
«فكانت عزمةً» أي: تلك الحالة، وهي الإفطار، فريضة؛ لأن الجهاد كان فرضًا في ذلك الوقت، وكان حاصلًا بالإفطار، والصوم كان جائزًا لهم، وترك الفرض لأجل الجائز لم يكن جائزًا لهم. مبارق الأزهار (1/428).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال أبو سعيد: «فأَفْطَرْنَا» امتثالًا لأمره بالإفطار. الكوكب الوهاج (13/ 28).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«وكانت عَزْمَةً» أي: كان الأمر بالإفطار في المرة الثانية على سبيل الإيجاب، والحديث صريح في أنَّ الأمر بالإفطار في طريق مكة وقع مرتين، وإذا جمعنا هذا الحديث مع ما تقدَّم من الأحاديث يحصل لنا أنه أمر بالإفطار في المرة الأولى بالكديد، وكان على سبيل الرخصة، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فلما وصل إلى حدود كراع الغميم، وأخبر بأنَّ الصوم قد شق على الناس، شَرِبَ الماء على مشهد من الناس، وأمرهم بالإفطار، وكان على سبيل الإيجاب؛ ولذلك قال فيمن بقي صائمًا بعده: «أولئك العصاة».
ويفيد الحديث أيضًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه صاموا في السفر بعد هذه القصة، فالأمر بالإفطار على سبيل الوجوب كان لظروف خاصة، ولم يكن لنَسْخِ جواز الصوم في السفر. منة المنعم (2/ 170).

قوله: «لقد رأيْتُنَا نصوم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في السفر»:
قال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «ثم ‌لقد ‌رأيتُنا ‌نصوم ‌مع ‌رسول ‌الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في السفر» دليل على أن الصوم هو الأصل والأفضل، وأن الفطر إنما كان لعلّة وسبب؛ ولما زال ذلك رجع إلى الأفضل، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 184).
وقال عبد اللطيف بن الملك -رحمه الله-:
قوله: «لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في السفر» هذا يدل على ثبوت التخيير لهم غير حالة الدنو من العدو. مبارق الأزهار (1/428).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«‌لقد ‌رأيتُنا ‌نصوم ‌مع ‌رسول ‌الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في السفر» أي: رأيتُ أنفسنا، وهذا يَرُدُّ فهم الزهري أن آخر الأمور الفطر في السفر. فتح المنعم (4/ 573).
وقال محمد بن الملك -رحمه الله-:
الصوم والإفطار كلاهما جائزان في السفر عند عامة العلماء، وقال ابن عباس وابن عمر: لا يجوز الصوم في السفر، واختُلِفَ في الأفضل، والأكثر على أن الصوم أفضل؛ لتبرئة الذمة، وبعضهم على أنَّ أفضل الأمرين أيسرهما عليه؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185. شرح المصابيح (2/ 529).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه دليل على أنَّ الفطر لمن وصل في سفره إلى موضع قريب من العدو أولى؛ لأنه ربما وصل إليهم العدو إلى ذلك الموضع الذي هو مظنة ملاقاة العدو؛ ولهذا كان الإفطار أولى ولم يَتَحَتَّم، وأما إذا كان لقاء العدو متحققًا فالإفطار عزيمة؛ لأن الصائم يَضعف عن منازلة الأقران، ولا سيما عند غليان مراجل الضِّراب والطِّعَان، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة لجنود المحقِّين، وإدخال الوهن على عامة المجاهدين من المسلمين. نيل الأوطار (4/ 268).


ابلاغ عن خطا