«أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العَشْرَ الأواخر من رمضان حتَّى توفَّاه الله -عزَّ وجلَّ-، ثم اعتكف أزواجه من بعده».
رواه البخاري برقم: (2026)، ومسلم برقم: (1172)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وفي لفظ للبخاري: «كان يعتكف في كُلِّ رمضان».
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قولها: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«كان» فعلٌ ماضٍ، قال العلماء: وإذا كان خبرها فعلًا مضارعًا دلَّت على الاستمرار غالبًا لا دائمًا. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 294).
قال النووي -رحمه الله-:
فإنَّ المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة «كان» لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعلٌ ماضٍ يدل على وقوعه مرَّة، فإنْ دلَّ دليل على التكرار عُمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها. شرح صحيح مسلم(6/ 21) .
وقال السندي -رحمه الله-:
«كان يعتكف العشر الأواخر» أي: يُديم على اعتكافها أداءً أو قضاءً؛ وذلك لما عُلِمَ أنه فاتَتْهُ أحيانًا لمانع، وإن حُمل على الأداء فهو من باب إجراء الغالب مجرى الدوام، أو المراد: يديم عليه بلا مانع، على أن دلالة كان يعتكف على الدوام ممنوعة عند كثير من المحققين، فلا إشكال، والله تعالى أعلم. فتح الودود (2/ 696).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«العَشر الأواخر» لما بعد العشرين منه، ولو كان ناقصًا، فإطلاق العَشر عليه تغليب. دليل الفالحين (7/ 69).
وقال العراقي -رحمه الله-:
العَشر الأواخر هي الليالي، وكان يعتكف الأيام معها أيضًا، فلم يكن يقتصر على اعتكاف الليالي، وإنما اقْتُصِر على ذكرها على عادة العرب في التأريخ بها، وهذا يدل على دخوله محلَّ الاعتكاف قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، وإلا لم يكن اعتكف عَشرًا أو شهرًا، وبه قال الأئمة الأربعة، وحكاه الترمذي عن الثوري. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 167-168).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بهذا الحديث (يعني حديث عائشة في دخول رسول الله معتكفه بعد الفجر) مع ثبوته وصحته في وقت دخول المعتكِف موضع اعتكافه، إلا الأوزاعي والليث بن سعد، وقد قال به طائفة من التابعين. الاستذكار (3/ 400).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
خَصَّ الاعتكاف بالعَشر الأواخر طلبًا لليلة القدر. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 294).
قولها: «حتَّى توفَّاه الله -عزَّ وجلَّ-»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«حتى توفّاه الله» غاية لِمَا دلّت عليه «كان» من الدوام، قيل: لغة، وقيل: عُرفًا. دليل الفالحين (7/ 69).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قولها: «حتى قبضه الله» استمرار هذا الحكم، وعدم نسخه، وأكدت ذلك بقولها: «ثم اعتكف أزواجه من بعده» فأشارت إلى استمرار حُكمه حتى في حق النساء، فكنَّ أمهات المؤمنين يعتكفن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير نكير، وإن كان هو في حياته قد أنكر عليهن الاعتكاف بعد إذنه لبعضهن، كما هو في الحديث الصحيح، فذاك لمعنى آخر، وهو كما قيل: خوف أن يكنَّ غير مخلصات في الاعتكاف، بل أَرَدْنَ القُرْبَ منه لغيرتهن عليه، أو لغيرته عليهن، أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكَف، أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن، والله أعلم...، يُستثنى بما ذكرته من استمراره -عليه الصلاة والسلام- على ذلك إلى وفاته سَنة ترك ذلك لمعنى، وعوَّض عنه بعد ذلك روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه، وإنه أمر بخبائه فضُرب لَمَّا أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأَمَرت زينب بخبائها فضُرب، وأَمَرَ غيرها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبائها فضُرب، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر نظر فإذا الأخبئة، فقال آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟ فأمر بخبائه فقُوِّضَ، وتَرَك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأُوَل من شوال» لفظ مسلم، وقال البخاري: «اعتكف عشرًا من شوال»، وفي لفظ له «اعتكف في آخر العشر من شوال». طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 168-169).
قولها في لفظ البخاري: «كان يعتكف في كلِّ رمضان».
قال ابن بطال -رحمه الله-:
هذا يدل على أن الاعتكاف من السُّنن المؤكدة؛ لأنه مما واظَب عليه النبي -عليه السلام-، فينبغي للمؤمنين الاقتداء في ذلك بنبيِّهم، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبي -عليه السلام- لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام في العشر الأواخر حتى قبضه الله!. شرح صحيح البخاري(4/١٨١).
قولها: «ثم اعتكف أزواجه من بعده»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ثم اعتكف أزواجه بعده» أي: في العَشر المذكور. دليل الفالحين (7/ 69).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وكون أزواجه اعتكفن بعده حُجَّة على مَن منع اعتكاف النساء في المسجد؛ فإنَّهن إنما اعتكفن على نحو ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف؛ لأن الراوي عنهن ساق اعتكاف النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتكافهن مساقًا واحدًا، ولو خالَفْنَه في المسجد لَذَكَرَه، وكان يقول: غير أن ذلك في بيوتهن. المفهم (3/ 248-249).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ثم اعتكفَ أزواجُه» أي: في بيوتهن؛ لِمَا سبق مِن عدم رضائه لِفِعْلِهن، ولذا قال الفقهاء: يستحب للنساء أن يعتكفن في مكانهن، «مِن بعده» أي: من بعد موته؛ إحياءً لسُنته، وإبقاءً لطريقته.مرقاة المفاتيح (4/ 1446).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
للمرأة أن تعتكف في كُل مسجد، ولا يشترط إقامة الجماعة فيه؛ لأنها غير واجبة عليها، وبهذا قال الشافعي، وليس لها الاعتكاف في بيتها، وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعَلَته للصلاة منه، واعتكافها فيه أفضل؛ لأن صلاتها فيه أفضل، وحكي عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة؛ «لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الاعتكاف في المسجد لَمَّا رأى أَبْنِيةَ أزواجه فيه، وقال: آلبِرَّ تُرِدْنَ؟»، ولأنَّ مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها، فكان موضع اعتكافها، كالمسجد في حق الرجل. المغني (3/ 190-191).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
المرأة تعتكف مع التستُّر وعدم الإضرار بالمصلين. الحلل الإبريزية (2/ 172).
وقال النجمي -رحمه الله-:
والذي يترجح لي أن المرأة تُمنع من الاعتكاف في المسجد وحدها إلا أن يكون معها مَحْرَم، وبشرط ألا تضيِّق على الرجال المصلين في المسجد؛ لأن المرأة مأمورة بالاحتجاب، وعدم التبرج، واعتكافها في المسجد وحدها أو مع مَحْرَمها أو زوجها مع الإضرار بالرجال المصلين في المسجد ومضايقتهم أن ذلك يختلف عما أُمِرت به، ويُعَرِّضها للفتنة.
أما زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- فلِمَكانتهن في المجتمع الذي كُنَّ فيه انتفت الفتنة في حقهن؛ لأنهن كلهن أمهات للمؤمنين.
والشرط الثالث: أن تكون متَسَتِّرة حتى لا يؤدي ذلك إلى افتتانها أو الافتتان بها. تأسيس الأحكام (3/ 235).
وقال القاضي عياض رحمه الله:
ذَكَرَ مسلم أحاديث اعتكاف النبي -عليه السلام- ففيها: أنها عبادة مُرغّب فيها؛ اقتداء بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليست بواجبة، وقد أجمع المسلمون على ذلك فيها، وأنه يصح أن تكون بصوم، وإن لم يكن مشترطًا لها ومختصًا بها؛ لاعتكافه في رمضان، فالصوم مختص به، ولا خلاف في هذا الاعتكاف لتطوع به.
وفيه: استحباب كونه في العشر الأواخر من رمضان؛ لمواظبة النبي -عليه السلام- على ذلك؛ لقوله: «كان يعتكف»، وأكثر ما يُستعمل هذا فيما كان يداوم عليه، مع ما دلَّت عليه نصوص الآثار مِن تكراره؛ ولأن ليلة القَدر مطلوبة في ذلك العشر. إكمال المعلم (4/ 150-151).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث فيه: دلالة على أن الاعتكاف سُنة مؤكدة مواظَب عليها، فإنَّ (كان) مع الفعل المضارع يدل على الاستمرار. البدر التمام (5/ 142-143).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأما قول ابن نافع عن مالك: فكَّرت في الاعتكاف وتَرْكِ الصحابة له مع شدة اتِّباعهم للأثر فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته، ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن. اهـ.
وكأنه أراد صفةً مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومن كلام مالك أَخَذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي، وقال: إنه سُنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال: في مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تأكده، وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافًا أنه مسنون. فتح الباري (4/ 272).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه: استحباب الاعتكاف وتأكده؛ حيث واظب عليه حتى توفي -صلى الله عليه وسلم-، والإِجماع قائم على استحبابه، وأنه غير واجب، وأنه متأكَّد في العَشر الأواخر من رمضان؛ لأنه خاتمة الصيام، ولعله يصادف ليلة القدر، وقد أَشْعَرَ تأكدًا استحبابه بقولها: «ثم اعتكف أزواجه بعده»، وبقولها في: «كل رمضان».
(و) فيه: استواء الرجل والمرأة في شرعية الاعتكاف، نعم إن كانت مزوَّجة فلا يجوز إلَّا بإذن الزوج بالإِجماع، فلو أذن لها ثم منعها فقال الشافعي وأحمد وداود: له ذلك في زوجته وأَمَتِه في اعتكاف التطوع وإخراجهما منه، ومنعها مالك إذا دخلا فيه، وجوزه أبو حنيفة في الأمَة دون الزوجة. الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، باختصار (5/ 428-432).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
أجمع العلماء على أنه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فقال الشافعي وأصحابه وموافقوهم: أقله لحظة واحدة، وضابطه عندهم: أنه مُكْثٌ يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة.
وفي المذهب وجهٌ شاذ: أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لُبث، فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة، أو لشغل أجر من آخرة أو دنيا، أن ينوي الاعتكاف، فيُحسب له، ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج ثم دخل، جدَّد نية أخرى.
وليس للاعتكاف ذكر مخصوص، ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنيَّة الاعتكاف، ولو تكلم بكلام دُنيا، أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها، لم يبطل اعتكافه. العدة في شرح العمدة (2/ 923).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: جواز أن يقال: رمضان من غير ذكر الشهر، وبه قال البخاري ونقله النووي في شرح مسلم عن المحققين، قالوا: ولا كراهة في ذلك، وقالت طائفة: لا يُقال رمضان على انفراده، وإنما يقال: شهر رمضان، وهو قول المالكية، وتعلَّقوا في ذلك بأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فلا يُطلق على غيره إلا بقيد، وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني: إن كان مثال قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا فيكره، فيقال: صُمنا رمضان ونحوه، ويكره جاء رمضان ونحوه، فهذه ثلاثة مذاهب. طرح التثريب (4/ 168).
وقال النووي -رحمه الله-:
المذهبان الأوَّلان (الأخيران) فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، وقولهم: إنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يصح في شيء، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تُطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة، وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الرد على المذهبين، ولهذا الحديث نظائر كثيرة في الصحيح في إطلاق رمضان على الشهر من غير ذكر الشهر. شرح صحيح مسلم (7/ 188).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وفيه: استحباب الاستمرار على ما اعتادَه من فعل الخير، وأنه لا يقطعه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر: «يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فتركه». طرح التثريب (4/ 169).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن فوائد الحديث:
فضيلة العشر الأواخر؛ لتخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بالاعتكاف.
ومن فوائده: أهمية ليلة القَدر، وأن الإنسان ينبغي أن يكون مستعدًّا لها.
ومن فوائده: أن أفضل مكان للخلوة بالله بيوت الله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنها بيوته، أضافها الله إلى نفسه في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} البقرة: 114، وأضافها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله في قوله: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله». فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 298).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)