قالت: «السُّنَّة على المُعْتَكِف ألَّا يَعُود مريضًا، ولا يَشْهَدَ جنازة، ولا يَمَسَّ امرأة، ولا يُبَاشرها، ولا يَخرج لحاجة إلا لِمَا لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع».
رواه أبو داود برقم: (2473)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
صحيح أبي داود برقم: (2135).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«اعْتِكَاف»:
الاعتكاف في اللغة: الحَبْسُ، والْمُكْثُ، واللُّزوم.
وفي الشرع: المكثُ في المسجد مِن شخص مخصوص، بصفة مخصوصة، سُمي بذلك لملازمة المسجد، قال الله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187. طرح التثريب (4/ 166).
شرح الحديث
قولها: «السُّنة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
يعني: الدّين والشرع أَوْجَبَ على المعتكِفِ ألَّا يخرج من المسجد لعيادة المريض أو صلاة جنازة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 60).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقبًا:
الأظْهَر: أي: الطريقة اللازمة. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قولها: «السُّنة» إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا أو فعلًا فهي نصوص لا يجوز خلافها، وإن كانت أرادت به الفُتْيَا على معاني ما عَقَلَتْ من السُّنة فقد خالَفَها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، على أن أبا داود قد ذَكَر على إثر هذا الحديث أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه: إنها قالت: «السُّنة»، فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها، وليس برواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. معالم السنن (2/ 141).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله- متعقبًا للخطابي:
قلتُ: القاعدة المقرَّرة عند المحدثين تأبى الاحتمال الثاني، لأن مذهبهم أن قول الصحابي السُّنة كذا في حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن الظاهر أنه أراد بذلك سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا سُنة غيره، وعلى هذا فحديث عائشة هذا مرفوع حُكمًا. مرعاة المفاتيح (7/ 161).
وقال ابن التركماني -رحمه الله-:
مذهب المحدِّثين أن الصحابي إذا قال: السُّنة كذا، فهو مرفوع، والسُّنة: السيرة والطريقة، وذلك قدر مشترك بين الواجب والسُّنة المصطلح عليها، ومثله حديث «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب»، «ومَن سَنَّ سُنَّة حسنة» ولم تكن السُّنة المصطلح عليها معروفة في ذلك الوقت، وذِكْرُ سُنة الصوم للمعتكِف مع ترك المس والخروج دليل على أن المراد الوجوب لا السنة المصطلح عليها. الجوهر النقي (4/ 317).
قولها: «على المعْتَكِفِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: اعتكافًا مَنْذُورًا متتابعًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
قولها: «ألَّا يعُود مريضًا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ألا يعود مريضًا» أي: بالقصد والوقوف. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قولها: «لا يعود مريضًا» أي: لا يخرج مِن مُعْتَكَفِهِ قاصدًا عيادته، وأنه لا يضيق عليه أن يمرَّ به فيسأله غير مُعَرِّج عليه، كما ذَكَرتْه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث القاسم بن محمد. معالم السنن (2/ 142).
قولها: «ولا يشهد جنازة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«ولا يشهد» أي: ولا يحضر. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 60).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ولا يشهد» أي: الصلاة عليها. شرح سنن أبي داود (10/ 635).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يشهد جنازة» أي: خارج مسجده مطلقًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وبظاهره أخذ مالك، وقال: لا يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة المريض، ولا لتشييع الجنازة، ولا للصلاة عليها، ولو تَعَيَّنَتْ، فإن خرج بَطَل اعتكافه.
ولو مرض أحد أبويه أو هما خرج وبطل اعتكافه، ولا إثم عليه؛ لأن في عدم خروجه عقوقًا، أما جنازتهما معًا فلا يخرج على مشهور المذهب بخلاف جنازة أحدهما فيخرج؛ لئلا يكون عدم خروجه عقوقًا للحيِّ منهما، وهو قول عطاء والزهري وعروة ومجاهد، وفرَّقت الحنفية بين الاعتكاف المستحَب والمسنون والواجب، ففي الأخيرين يحرُم الخروج مِن مُعْتَكَفه ليلًا أو نهارًا إلا لحاجة شرعية كصلاة جمعة وعيد، أو طبيعية كالطهارة ومقدماتها من البول والغائط، وإزالة نجاسة، واغتسال مِن جنابة باحتلام، أو لحاجة ضرورية كانهدام المسجد، وإخراج ظالم كرهًا، وخوف على نفسه أو ماله من ظالم، فلا يفسد اعتكافه، ولا يحرم عليه الخروج، أما لو خرج لعيادة مريض أو شهود جنازة وإن تعيَّنت عليه، أو لإنقاذ غريق أو حريق أو جهاد تعين عليه فإنه يفسد اعتكافه ولا إثم عليه. المنهل العذب المورود (10/ 247).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
لا يجوز له الخروج سواء تعيَّنت عليه (يعني: الصلاة على الميت) أم لا؛ لأنها إن لم تَتَعين عليه قام غيره مقامه، فلا يترك المتعيِّن عليه لغير المتعيِّن، وإن تعيَّنت عليه أمكن فعلها في المسجد بإحضار الميت إليه، فهو غير محتاج إلى الخروج؛ فإن خرج بطل اعتكافه، وفي وجهٍ حكاه الماوردي وغيره: إن كان الميِّت ذوي رحمه وليس له من يقوم بدفنه خرج له؛ لأنه مأمور بالخروج، فإذا رجع بنى، وفي قول أنه يستأنف، ولو خرج لقضاء حاجته فصلى في طريقه على جنازة فإن وقف ينتظرها أو عَدَل عن طريقه إليها بطل اعتكافه قطعًا، وإن لم ينتظرها ولا عَدَلَ عن طريقه عنها ففيه أربع طرق: أصحها وبه قال الجمهور: أنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه زمن يسير. شرح سنن أبي داود (10/ 636).
قال الدميري -رحمه الله-:
هل الأفضل للمتطوع الخروج لعيادة المريض، أم دوام الاعتكاف؟
قال الأصحاب: هما سواء.
وقال ابن الصلاح: "هذا مخالفٌ للسنة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخرج لذلك، وكان اعتكافه تطوعًا."
وقال بعض المتأخرين: "ينبغي أن يكون موضع التسوية في عيادة الأجانب، أما الأقارب وذوو الأرحام، كالأب والأم ونحوهما، والأصدقاء والجيران..فالظاهر أن الخروج لعيادتهم أفضل، لا سيما إذا عُلِم أنه يشُقّ عليهم تخلّفه، وعبارة القاضي حسين مصرّحة بذلك، والله الموفق."النجم الوهاج في شرح المنهاج(3/٣٩٠)
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:
اتفق الفقهاء على عدم جواز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة؛ لعدم الضرورة إلى الخروج، إلا إذا اشترط الخروج لهما عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
ومحل ذلك ما إذا خرج لقصد العيادة وصلاة الجنازة، أمّا إذا خرج لقضاء الحاجة ثم عرّج على مريض لعيادته، أو لصلاة الجنازة، فإنه يجوز بشرط ألَّا يطول مكثه عند المريض أو بُعد صلاة الجنازة عند الجمهور، بأن لا يقف عند المريض إلا بقدر السلام، لقول عائشة -رضي الله عنها-: "إن كنتُ أدخل البيت للحاجة، والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارةٌ".
وفي سنن أبي داود مرفوعًا عنها: «أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يمر بالمريض، وهو معتكف، فيمر كما هو، ولا يعرج يسأل عنه»، فإن طال وقوفه عُرفًا، أو عدل عن طريقه وإن قلّ، لم يجز. وعند أبي يوسف ومحمد لا ينتقض الاعتكاف إذا لم يكن أكثر من نصف النهار.
أما المالكية، فإنهم مع الجمهور في فساد الاعتكاف بالخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة، إلا أنهم أوجبوا الخروج لعيادة أحد الأبوين المريضين أو كليهما، وذلك لبرهما، فإنه آكد من الاعتكاف المنذور، ويبطل اعتكافه به ويقضيه.الموسوعة الفقهية(5/٢٢٢ ـ 223) .
قولها: «ولا يمسَّ امرأة»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قولها: «لا يمس امرأة» تريد الجماع، وهذا لا خلاف فيه أنه إذا جامع امرأته فقد بطل اعتكافه. معالم السنن (2/ 142).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يمسَّ امرأة» أي: ولا يفضي بيده إلى امرأة بشهوة، أما بغير شهوة فلا بأس؛ لِمَا تقدم عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يُخرج إليها رأسه فتغسله وتُسَرِّحه، فإن كان بشهوة حَرُمَ عند الأئمة الأربعة، وفسد اعتكافه. المنهل العذب المورود (10/ 250).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
لا يكره اللمس بغير شهوة، ولا التقبيل على سبيل الشفقة، والإكرام والمصالحة عند الغيظ، أو عند قدومها من السفر ونحوه؛ لأن عائشة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُدني إليها رأسه فتغسله وتمشطه، ولا يخلو ذلك عن مسٍّ، وأما قوله في الحديث: «لا يمس امرأته» فمحمول على المسِّ بشهوة، والله أعلم. شرح سنن أبي داود (10/ 637).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
فالمسيس يُراد به الجماع، والمباشرة يراد بها التقاء البَشْرَتين بتَلَذُّذٍ. شرح سنن أبي داود (288/ 29).
قولها: «ولا يباشرها»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يباشرها» أي: لا يجامعها ولو حُكمًا. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «ولا يباشرها» المباشرة في الأصل: الْتِقَاء البشرتين، والمراد بها هنا الجماع. المنهل العذب المورود (10/ 250).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ولا يباشرها» أي: فيما دون الفرج بشهوة. مرعاة المفاتيح (7/ 163).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
المراد بالمباشرة هنا الجماع؛ بقرينة ذكر المس قبلها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ويؤيده ما روى الطبري وغيره من طريق قتادة في سبب نزول الآية، يعني قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187 أنهم كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامَعَها إن شاء فنزلت. نيل الأوطار (4/ 316).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فإن جامع في الفَرْجِ عالمًا بتحريمه ذاكرًا للاعتكاف بطل اعتكافه إجماعًا؛ للحديث، ولقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187 سواء جامع في المسجد أو في غيره حيث خرج لعذر كقضاء الحاجة...
ولو جامع ناسيًا للاعتكاف أو جاهلًا بتحريمه فالمذهب وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين: هو على الخلاف في فطره بالصوم، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يفسد بجماع الناسي كما يفسد بجماع العامد، ولا فرق بين جماع وجماع.
ولنا (الشافعية) قوله -صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ عن أمَّتي الخطأ والنسيان»، وروى المزني عن نص الشافعي في الأم في بعض المواضع: أنه لا يفسد الاعتكاف مِن الوطء إلا بما يوجِب الحد. شرح سنن أبي داود (10/ 637-638).
وقال المغربي -رحمه الله-:
اتفقوا على فساده (يعني: الاعتكاف) بالجماع، حتى قال الحسن والزهري: من جامع فيه لزمته الكفارة، وعن مجاهد يتصدق بدينارين. البدر التمام (5/ 149).
وقال المظهري -رحمه الله-:
وإن مسَّها بشهوة ففي قولٍ بطل اعتكافه، وفي قولٍ لا يبطل اعتكافه، وفي قول إن أَنْزَل بَطَل، وإن لم ينزل لم يَبْطُل، هذه الأقوال للشافعي، وأما عند أبي حنيفة: إن أنزل بطل، وإن لم ينزل لم يبطل. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 60).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
لو قبَّل أو باشر فيما دون الفرج فقد اختلفوا فيه، فذهب قوم إلى أنه لا يبطل وإن أنزل، كما لا يفسد به الحج، وهو أظهر قولَي الشافعي، ذكر الإمام الرافعي -رحمه الله- في الشرح الكبير: لو لمس -أي: المعتكف- أو قَبَّل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج متعمدًا، فهل يفسد اعتكافه؟ فيه طريقان:
أظهرهما: أن المسألة على القولين:
أحدهما: -ويروى عن الإملاء- أنها تفسده.
والثاني: -ويروى عن الأم-: أنها لا تفسد؛ لأنها مباشَرة لا تُبطل الحج، فلا يبطل الاعتكاف، كالقُبلة بغير شهوة.
والطريق الثاني: القطع بأنها لا تفسد، حكاه الشيخ أبو محمد أو المسعودي، ثم قال الإمام: لو اختصرت الخلاف في المسألة قلت: فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يفسد الاعتكاف أنزل أم لم ينزل.
والثاني: تفسده أنزل أم لم ينزل، وبه قال مالك.
والثالث وبه قال أبو حنيفة، والمزني، وأصحاب أحمد: أن ما أنزل منها أفسد الاعتكاف، وما لا فلا، والمفهوم من كلام الأصحاب بعد الفحص: أن هذا القول أرجح، وإليه مال أبو إسحاق المروزي، وإن استبعده صاحب المهذب (يعني: الشيرازي) ومن تابعه.
أقول (يعني: الطيبي نفسه): أما الاستدلال بنص القرآن فإن قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187 نهي عُطِفَ على الأمر من قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} البقرة: 187، ولا يُسْتَراب أن المراد منه الجماع؛ لما سبق من قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ثم قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة: 187 فقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} البقرة: 187 رخصة فيها بعد ما كانت منهية، فيجب الحمل على الجماع فقط، ليتجاوب النظم، فينبغي أن يُحمل أظهر قولي الشافعي على هذا. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1632).
قولها: «ولا يَخرج لحاجة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ولا يخرج لحاجة» أي: دنيوية وأخروية. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
قولها: «إلا لما لا بُدَّ منه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إلا لما لا بد منه» أي: إلا لحاجة لا فِرَاق فيها، ولا محِيْصَ من الخروج لها، وهو البول والغائط؛ إذ لا يُتصور فِعْلُهما في المسجد، ولذا أجمعوا عليه بخلاف الأكل والشرب، أو لأمر لا بد من ذلك الأمر، وهو كناية عن قضاء الحاجة وما يتبعه من الاستنجاء والطهارة. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختلفوا في غيرهما (البول والغائط) من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفَصْدُ لمن احتاج إليه...، وروينا عن علي والنخعي والحسن البصري: إن شهد المعتكف جنازة، أو عاد مريضًا، أو خرج للجمعة بطل اعتكافه، وبه قال الكوفيون وابن المنذر في الجمعة، وقال الثوري والشافعي وإسحاق: إنْ شَرَطَ شيئًا من ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل اعتكافه بفعله، وهو رواية عن أحمد. فتح الباري (4/ 273).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفي معناه (يعني: الغائط والبول) الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له مَن يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه، وإن وجد من يأتيه أو وجد الماء في المسجد، أما الخروج للأكل ففيه وجهان:
أحدهما: ما رجَّحه الإمام البغوي أنه لا يجوز.
والثاني: وبه قال الأكثرون وهو نصه في الأم: يجوز؛ لأن الأكل في المسجد يُستحيى به، ويشق عليه، وهذا قول مردود؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان أكثر الناس حياء وأعظمهم مُرُوءة، ويدل عليه هذا الحديث. شرح سنن أبي داود (10/ 639).
وقال ابن رشد -رحمه الله-:
واختلفوا أيضًا هل للمعتكف أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك؟
فأكثر الفقهاء على أنَّ شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي: ينفعه شرطه، والسبب في اختلافهم: تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كِلَيْهِما عبادة مانعة لكثير من المباحات، والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَهِلِّي بالحج، واشترطي أن محلِّي حيث حبَسْتَني»، لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف. بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 81).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
الظاهر عندنا هو قول من لم يقل بالاشتراط في الاعتكاف؛ لأنه لا دليل عليه من سُنة صحيحة أو ضعيفة، ولا مِن أثر صحابي، ولا من قياس صحيح. مرعاة المفاتيح (7/ 163).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
وهذا قول (يعني: منع الاشتراط) قوي -في نظري-؛ لأن الاعتكاف عبادة، والعبادات توقيفية، والمرجِع في أحكام الاعتكاف إلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد اعتكف مرات عديدة ولم يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه اشترط، وقد كان يخرج لحاجته، ولم يَرِدْ أنه كان يشترط في ذلك، ثم إن الخروج الزائد على حاجة الإنسان التي لا بد منها بناء على الشرط ينافي الاعتكاف لغة وشرعًا، والله أعلم. منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 105).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وإذا خرج لما لا بد منه فلا يجب عليه قضاؤه لعلتين:
أحدهما: أن الاعتكاف مستمِر فيها على الصحيح، وقطع به بعضهم.
والثاني: أن زمن الخروج لما لا بد منه مستثنى، وإن خرج لما له بد منه عامدًا بطل اعتكافه إلا أن يكون اشترط. شرح سنن أبي داود (10/ 639).
قولها: «ولا اعتكاف إلا بصوم»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا اعتكاف إلا بصوم» وبه قال أبو حنيفة ومالك، وعند الشافعي: يصح بدون الصوم. شرح المصابيح (2/ 566).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قولها: «لا اعتكاف إلا بصوم» أي: لا اعتكاف كاملًا، أو فاضلًا، وإلا فالاعتكاف يصح بدون الصوم. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1632).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقبًا:
وعندنا (الأحناف) أي: لا اعتكاف صحيح. مرقاة المفاتيح (4/ 1450).
وقال عبد الرحمن العقل -حفظه الله-:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: قول الجمهور، أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية قالوا: إن الصوم شرط في صحة الاعتكاف، فلا يصح اعتكاف إلا بصوم.
القول الثاني: قول الإمام الشافعي والرواية المشهورة في مذهب الإمام أحمد، أن الصوم ليس شرط في الاعتكاف، فيصح الاعتكاف ولو لم يكن معه صوم.
أدلة الجمهور: استدلوا بأن مشروعية الاعتكاف لا تُعرف إلا مع الصوم؛ فإنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتكف من غير صيام، فاعتكف العشر الأواخر، ولا ريب أنه صائم، وقالوا: إنَّ ذكر الاعتكاف جاء في آيات الصيام في قولة تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى أن قال: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187 فدل على ارتباط الاعتكاف بالصوم، وأنه لا انفصال بينهما، واستدلوا بما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنه-: «ولا اعتكاف إلا بصوم» وسبق ترجيح وقْفِه.
أدلة من قال بعدم اشتراط الصيام في الاعتكاف: ما جاء في الصحيح أن عمر -رضي الله عنه- قال: «يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فَأَوْفِ بنذرك»، ومعلوم أن الليل ليس محلًا للصوم، فدل على صحة الاعتكاف بدون صوم، والراجح مذهب الجمهور؛ لقوة أدلتهم. شرح كتاب الصيام من البلوغ (ص: 98).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
أما اشتراط الصوم فيه خلاف أيضًا، وهذا الحديث الموقوف دال على اشتراطه، وفيه أحاديث منها في نفي شرطيته، ومنها في إثباته، والكل لا ينهض حجَّة، إلا أن الاعتكاف عُرِفَ مِن فِعله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يعتكف إلا صائمًا، واعتكافه في العشر الأُول من شوال الظاهر أنه صامها، ولم يعتكف إلا من ثاني شوال؛ لأن يوم العيد يوم شغله بالصلاة والخطبة والخروج إلى الجَبَّانَة، إلا أنه لا يقوم بمجرد الفعل حُجة على الشرطية. سبل السلام (1/ 595).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
القول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية. زاد المعاد (2/ 83).
وقال المغربي -رحمه الله-:
واتفقوا على أنه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فمَن شرط فيه الصيام قال: أقلُّه يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة.
وعن مالك يشترط عشرة أيام، وعنه يومان أو يوم، ومن لم يشرط الصوم قالوا: أقلُّه ما ينطلق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود، وقيل: يكفي المرور مع النية كوقوف عرفة، وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي: «إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا مُعتكفًا». البدر التمام (5/ 149).
قولها: «ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قولها: «لا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع» فقد يحتمل أن يكون معناه نفي الفضيلة والكمال. معالم السنن (2/ 142).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«ولا اعتكاف» معناه: نفي الفضيلة والكمال؛ لأن الأكثر على صحته في جميع المساجد، قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187، ولم يفصل. شرح المصابيح (2/ 566).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والمراد من كونه جامعًا: أن تُقام فيه الصلوات، وإلى هذا ذهب أحمد وأبو حنيفة، وقال الجمهور: يجوز في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة. سبل السلام (1/ 595).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وإنما يُكره الاعتكاف في غير الجامع لمن نذر اعتكافًا مِن جمعة (يعني: أسبوعًا)؛ لئلا تفوته صلاة الجمعة، فأما مَن كان اعتكافه دون ذلك فلا بأس به، والجامع وغيره سواء في ذلك، والله أعلم. معالم السنن (2/ 142).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
إنما اشترط ذلك (يعني: المسجد الجامع)؛ لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرَّجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا مع إمكان التحرُّز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف، إذ هو لزوم المعتكَف، والإقامة على طاعة الله فيه، ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكِف رجلًا. المغني (3/ 189).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
قال مالك والشافعي: إذا كان اعتكافه أكثر مِن سِتة أيام فيجب أن يكون في المسجد الجامع؛ لئلا ينقطع اعتكافه بالخروج إلى الجمعة، وإن كان أقلَّ، أو المعتكف ممن لا جمعة عليه، اعتكف في أي مسجد شاء. شرح المصابيح (2/ 566).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي، فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المُعدُّ للصلاة فيه، وفيه قول الشافعي قديم، وفي وجه لأصحابه، وللمالكية يجوز للرجال والنساء؛ لأن التطوع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك، وخصَّه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة. فتح الباري (4/ 272).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
هل له التبكير إلى الجمعة؟ قولان:
الأول: أن له التبكير فيخرج إلى الجمعة في الوقت الذي كان يخرج فيه، وهذا قول أبي الخطاب وابن عقيل؛ لعموم الأحاديث الدالة على فضل التبكير إلى الجمعة، وهي تشمل المعتكِف وغيره؛ ولأن هذا خروج جائز ومأذون فيه فجاز تعجيله، كالخروج لحاجة الإنسان؛ ولأنه قد انتقل من مكان عبادة إلى مكان عبادة، واللبث حاصل في مسجد اعتكافه أو في هذا المسجد الذي انتقل إليه.
الثاني: أنه لا يُبكِّر بل يخرج متأخرًا؛ لئلا يطول زمن خروجه عن معتكفه، وقد رخص له للحاجة وهي حضور الجمعة، وهذا يتم إذا حضرها وصلى مع الناس، وهو مشغول بعبادة قد شرع فيها، فصارت أَولى، وهذا قول الحنفية، والأول أظهر؛ لقوة مأخذه، والله تعالى أعلم. منحة العلام شرح بلوغ المرام (ص: 106).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على المنع من الخروج لكل حاجة من غير فرق بين ما كان مباحًا أو قُربة أو غيرهما، إلا الذي لا بد منه كالخروج لقضاء الحاجة وما في حكمها.
(و) فيه: دليل على أنه لا يصح الاعتكاف إلا بصوم.
(و) فيه: دليل على أن المسجد شرط للاعتكاف. نيل الأوطار، باختصار (4/ 316).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
فيه: دليل على أنه لا يخرج المعتكِف لعيادة المريض وشهود الجنازة، وفيه خلاف بين العلماء.
وفيه: دليل على أن المسجد شرط في الاعتكاف، واتفق العلماء على ذلك إلا ما روي عن بعض العلماء أنه أجازه في كل مكان. مرعاة المفاتيح، باختصار (7/ 161-163).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
فيه: دليل لمن قال باشتراط المسجد الجامع الذى تقام فيه الجمعة والجماعة للاعتكاف. المنهل العذب المورود (10/ 252).