«إنَّ للهِ مائةَ رحمةٍ، فمنها رحمةٌ بها يتراحمُ الخَلْقُ بينهم، وتسعةٌ وتسعونَ ليومِ القيامةِ».
رواه مسلم برقم: (2753)، من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
شرح الحديث
قوله: «إن لله مائة رحمة»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«إن لله مائة رحمة» رحمة الله تعالى غير متناهية، فلا يَعْتَوِرها التجزئة والتقسيم، وإنما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يضربَ لأُمَّته مثلًا، فيعرفوا به التناسب الذي بين الجزأين، ويجعلَ لهم مثالًا فيفهموا به التفاوت الذي بين القُسْطَين، قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة الـمَرْبُوبين في الأولى، فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمة في الدارين على الأقسام المذكورة؛ تنبيهًا على المستعْجِم، وتوقيفًا على المسْتَبْهِم، ولم يرد به تحديد ما قد جَلَّ عن الحد، أو تعديد ما تجاوز عن العد. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/548-549).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن أبي جمرة: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءًا، فإذا قُوْبِل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءًا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النِّقْمَة فيها، ويؤيده قوله: «غلبت رحمتي غضبي».
قلتُ: لكن تبقى مناسبة خصوص هذا العدد، فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة، فكأن كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، فمن نَالَتْهُ منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. فتح الباري (10/433).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
لعل المراد أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية، والمراد ضَرْبُ مَثَل لبيان المقصود تقريبًا إلى فهم الناس، أو هو من قبيل قوله: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» في أن الحصر باعتبار هذا الوصف، فافهم. لمعات التنقيح (5/ 175).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
لعل الحصر في المائة على سبيل التقريب إلى الأفهام؛ تقليلًا لما عند الخلق، وتكثيرًا لما عند الله -سبحانه وتعالى-. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/268).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«إن لله مائة رحمة» أي: غايتها، وهي النعمة؛ لاستحالة حقيقة الرحمة في حقه تعالى وتعددها. مرقاة المفاتيح (4/1639).
وتعقبه الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- بقوله:
لا يخفى بُعْد هذه المناسبات التي ذكروها هنا، فالأَوْلى والأوضح: تفويض هذا العلم إلى عالم الغيب والشهادة، وعدم الخوض في مثله؛ إذ لم نُكَلَّف بِعلمه، ولم يَرِدْ نص نتمسك به، ونعتمد عليه، فسلِّم تَسْلَم، وفوِّض تَغْنَم، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/624).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-:
دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان:
رحمة هي صفته؛ وصفاته غير مخلوقة، وإضافتها إلى الله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كما قال تعالى عن نبي الله سليمان -عليه السلام¬-: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين} النمل 19، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} الكهف 58، وقال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} النمل:30، فهذان الاسمان متضمنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدل على الرحمة الذاتية التي لم يزل ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدل على الرحمة الفعلية التابعة لمشيئته -سبحانه وتعالى-؛ كما قال تعالى: {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} الإسراء 54، وقال تعالى: {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} العنكبوت 21، وأهل السنة والجماعة يثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به سبحانه، والمعَطِّلَة ومن تبعهم ينفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى -ومنهم الأشاعرة-، ويؤولونها بالإرادة أو النعمة.
والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى: رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} الروم 50، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} آل عمران 107، وقوله سبحانه للجنة كما في الحديث القدسي: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء».
والرحمة المذكورة في الحديث هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها الله -عزَّ وجلَّ- في مائة جزء، والرحمة المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته -سبحانه وتعالى- ومقتضاها. تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري (10/ 432).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أن رحمة الله -عزَّ وجلَّ- صفة من صفات ذاته، وليست على معنى الرِّقة كما في صفات بني آدم، وإنما ضرب مثلًا بما يعقل من ذكر الأجزاء أو رحمة المخلوقين، والمراد أنه أرحم الراحمين. كشف المشكل (3/330-331).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
والمراد بالرّحمة في قوله: «إن لله مائة رحمة» بمقتضى الروايات المذكورة: هي التي جعلها في عباده وهي مخلوقة.
وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة. مرعاة المفاتيح (8/78).
قوله: «فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«يتراحم الخلق» أي: يرحم بعضهم بعضًا، وفي رواية: «بها يتراحمون، بها يعطف الوحش على ولدها»، وفي رواية: «تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض». فيض القدير (3/ 347).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يعني: كل شفقة ورحمة تصل من آدمي إلى آدمي، أو من جِنٍّ إلى جن، أو من حيوان إلى آخر من جنسه، أو غير جنسه، كلُّ ذلك نتيجة تلك الرحمة التي أنزلها الله بين خلقه. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 195).
وقال السندي -رحمه الله-:
أي: الخلائق كلها (يتراحمون بهذه الرحمة الواحدة)، فانظر إلى عِظَمِ رحمة الله في الآخرة بالنظر في رحمة الأم على ولدها، وفي أن أي قدر في الرحمة الواحدة جاء في نصيبها؟! فسبحانه ما أعظم شأنه! حاشية سنن ابن ماجه (2/ 575-576).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يتراحم الخلق» أي: يرحم أهل الأرض بعضهم بعضًا. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/209).
قوله: «وتسعة وتسعون ليوم القيامة»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ليوم القيامة»؛ ليرحم الله بها المؤمنين خاصة. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/209).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أي: قبل دخول الجَنَّة، وبعدها.
وفيه: إشارة إلى سَعة فضل الله تعالى على عباده المؤمنين، وإيماء إلى أنه أرحم الراحمين. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/ 629).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فإذا كان يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى التسع والتسعين، فيُظِلُّ بها خلقه، حتى إنَّ إبليس -رأس الكفرة- يطمع؛ لِمَا رأى من رحمته تعالى. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 290).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفيه: إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضًا، وصرَّح بذلك المهلب، فقال: الرَّحمة التي خلقها الله لعبادهِ وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم.
قال: ويجوز أن يَستعمل الله تلك الرحمة فيهم، فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء، وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي خلقها لهم.
قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض.
قلتُ: وحاصل كلامه: أن الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات، وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل، وهي المشار إليها هنا، ولكن ليس في شيء من طرق الحديث أن التي عند الله رحمة واحدة، بل اتفقت جميع الطرق على أن عنده تسعة وتسعين رحمة، وزاد في حديث سلمان أنه يكملها يوم القيامة مائةً بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق. فتح الباري (10/432).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ومقتضى هذا الحديث: أن الله تعالى عَلِمَ أن أنواع النعم التي ينعم بها على خلقه مائة نوع، فأَرْسَلَ منها فيهم في هذه الدار نوعًا واحدًا، فبه انتظمت مصالحهم، وحصلت مرافقهم، كما نبَّه عليها في بقية الحديث، فإذا كان يوم القيامة كمَّل لعباده المؤمنين ما بقي في علمه، وهو التسعة والتسعون، فكَمُلَتْ الرحمة كلها للمؤمنين، وهو المشار إليه بقوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 17، وهو الذي صرَّح به النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال لهم: «إن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما أَطْلَعَكُم عليه»، وعند هذا يفهم معنى قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الأحزاب: 43، فإن {رحيمًا} من أبنية المبالغة التي لا شيء أبلغ منها، ويُفهم من هذا: أن الكافرين لا يبقى لهم في النار رحمة، ولا تنالهم نعمة، لا من جنس رحمات الدنيا، ولا من غيرها، إذ كمل كل ما علم الله من الرحمات للمؤمنين، ختم الله لنا بما ختم للمؤمنين، ووقانا أحوال الكافرين.
وما قلناه في هذا الحديث أَوْلَى من قول من قال: إن معنى قوله: «إنَّ لله مائة رحمة» الإغراء والتكثير؛ لأنَّه لم تجرِ عادتهم بذلك في مائة، وإنما جرت بالسبعين، ولو جرت بذلك لكان ذلك مجازًا، وما ذكرناه حقيقة، فكان أولى، والله أعلم. المفهم (7/82-83).
وقال النووي -رحمه الله-:
هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأَكْدَار: الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء؟! شرح النووي على مسلم (17/68-69).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال ابن أبي جمرة: في الحديث: إدخال السرور على المؤمنين؛ لأن العادة أن النفس يكمل فرحها بما وُهِبَ لها إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا.
وفيه: الحث على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدَّخَرة. فتح الباري (10/433).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أن هذه الرحمة مخلوقة، فأما رحمة الله التي هي صفة من صفاته فقديمة غير مخلوقة؛ فكل ما يتراحم به أهل الدنيا حتى البهائم في رفعها حوافرها عن أولادها؛ لئلا تؤذيهن فإنه عن جزء مثبت في العالم فمن تلك الرحمة، وإن الله سبحانه أعد تسعًا وتسعين رحمة ادَّخَرها ليوم القيامة؛ ليضم إليها هذه الرحمة الأخرى، ثم يثبتها قلوب عباده ليرحم بعضهم بعضًا، يكون كل ما تراحم به المتراحمون مُذْ قامت الدنيا إلى يوم القيامة جزءًا من مائة جزء من الرحمة التي حددها الله -عزَّ وجلَّ- في قلوب عبادة يومئذٍ؛ ليعفو المظلوم عمَّن ظلمه رحمة له مما يرى من هول ذلك اليوم، فيعود شفيعًا فيه، وسائلًا في حقه، كالمشتوم عمَّن شتمه، والمغصوب عمَّن غصبه، والمؤذي عمَّن آذاه. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/74).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
ويدل هذا الحديث: على كثرة رحمة الله تعالى وقلة غضبه؛ لأن الرحمة عامة للمؤمن والكافر، والغضب خاص بالكافر. الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (25/207).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
في الحديث بيان سَعة رحمة الله. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (4/268).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: بيان عدد أقسام الرحمة، وأنه مائة جزء، والحق أنه لا يعلم حكمة التجزئة إلى هذا العدد إلا من أخبر بذلك، فالسلامة الإيمان به والتسليم.
ومنها: أن الرّحمة المنقسمة إلى هذا العدد هي الرحمة الفعلية التابعة لمشيئته -سبحانه وتعالى-، فإنها مخلوقة قابلة للتقسيم، وأما الرّحمة التي هي من صفات ذاته -سبحانه وتعالى- فإنها صفة قائمة به لا تتجزأ. البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (42/625).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)