أَتَانَا رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- فَرَأَى رجلًا شَعِثًا قد تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فقال: «أَمَا كان يَجِدُ هذا ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهُ، ورأى رجُلًا آخَرَ وعليه ثيابٌ وَسِخَةٌ، فقال: أَمَا كان هذا يَجِدُ ماءً يَغْسِلُ به ثوبَهُ؟».
رواه أحمد برقم: (14850)، وأبو داود برقم: (4062) واللفظ له، والنسائي برقم: (5236)، وابن حبان برقم: (5483)، والحاكم برقم: (7380)، وأبو يعلى الموصلي برقم: (2026)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (493)، صحيح سنن النسائي برقم: (4832).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«شَعِثًا»:
أي: مُتفرِّق شعرِ الرأس. المفاتيح، للمظهري (5/ 20).
وقال البندنيجي -رحمه الله-:
لشَّعَثُ: تغيُّر الشَّعر وفساده إذا لم يُدْهَن. التقفية في اللغة(ص:229).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
أي: شَعِثُ الشَّعر، بعيد العهد بالتسريح والغُسل والدهن، فهو منتفِش الشَّعر، قائم إلى جهة فوق. الشافي (1/ 338).
«ما يُسَكِّنُ»:
أي: ما يَلُمُّ شَعَثَهُ، ويجمع تفرُّقه، فعبَّر بالتسكين عنه. عون المعبود، للعظيم أبادي (11/ 76).
شرح الحديث
قوله: «أَتَانَا رسولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فرأى رجلًا شَعِثًا قد تفرَّق شَعْرُهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أتانا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-» زائرًا «فرأى» أي: في الطريق أو عندنا «رجلًا شَعِثًا» بفتحٍ فكسر، وتفسيره قوله: «قد تفرَّق شَعره» بفتح العين ويسكَّن. مرقاة المفاتيح (7/ 2784).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فرأى رجلاً ثائرَ الرَّأسِ» أي: مُنْتَشِرٌ شَعْرُ رأسِه، منْ قلّة دُهنه، وفي رواية أبي داود: «فرأى رجلًا شَعِثًا، قد تفرّق شَعره». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (38/ 347).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«فرأى رجلًا شَعِثًا» يعني: أنَّ شَعره مُتفرِّق؛ لقلَّة الرفاهية. كشف المشكل (1/ 223).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
ولفظ النسائي: «أتانا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فرأى رجلًا ثائر الرأس» أي: منتشِر شَعْر الرأس قائمه، فحذف المضاف (شعر). شرح سنن أبي داود (16/ 277).
قوله: «فقال: أَمَا كان هذا يجد ما يُسكِّن به شَعره؟»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أَمَا» استفهام توبيخي «كان عند هذا» الرجل الشَّعِثُ الذي تفرّق شَعره وثَارَ، «ما يُسَكِّنُ به رأسه» أي: شَعْرَ رأسه، أي: يضُمُّه ويُليِّنه ويلبِّده من نحو زيت. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 229).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ما يُسَكِّنُ به رأسه» أي: يَلُم به شَعثه، ويجمع تفرقه، فعبَّر بالسكون عنهما. الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2902).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا كان يجد هذا ما يُسَكِّنُ رأسه» استفهام إنكار. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (389).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فقال: أَمَا» بتخفيف الميم «كان يجد هذا ما يُسكِّن» بضم أوله، وتشديد الكاف المكسورة، «به شَعْرَهُ» أي: يضم بعضه على بعض، ويليِّنه بالدهن والزيت والغسل، وغير ذلك. شرح سنن أبي داود (16/ 277).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فإن لنفس العبد عليه حقّها؛ بإكرام شَعره بتعهُّده بالتسريح والدهن غِبًّا. التنوير (10/ 371).
قوله: «ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ثياب وسخة» الوسخ: هو ما يعلق بالثوب وغيره؛ مِن قلَّة التعهد بالغسل ونحوه. شرح سنن أبي داود (16/ 278).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة» والوَسَخُ: هو ما يعلو الثوب وغيره من الدَّنَس. بذل المجهود (12/ 89، 90).
قوله: «فقال: أما كان هذا يجد ما يَغسل به ثوبه؟»:
قال العظيم أبادي -رحمه الله-:
قوله: «ما يَغسل به ثوبه؟» أي: من الصابون أو الأشْنَان (شجر ينبت في الأرض الرملية يُستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي)، أو نفس الماء، وفي بعض النُّسخ «ماءً يغسل به ثوبه» بالمد والتنوين. عون المعبود شرح سنن أبي داود(9/ 87).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أَمَا كان يجد هذا» الرَّجُل الدَّنِسة ثيابه، الوسخة أَطْمَارُه «ما يغسل به ثيابه» من نحو صابون، والاستفهام إنكاري، أي: كيف لا يتنظف مع إمكان تحصيل الدهن والصابون؟ والنظافة لا تنافي النهي عن التزين في الملْبَس، والأمرَ بلبسِ الخَشِنِ، ومَدْح الشَّعث الغبر كما مرّ ويأتي. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 229).
وقال العزيزي -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وظاهر كلام المناوي أنَّ «ما» موصولة، فإنه قال: من نحو صابون. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 325).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ما كان يجد هذا» (ما) نافية، وهمزة الإنكار مقدَّرة، أنكر عليه بَذَاذته لما يُؤدِّي إلى ذِلَّته. الكاشف عن حقائق السنن (9/ 2902)
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: الأمر بغسل الثوب إذا كثر وسَخُه، ولو بماء فقط، فإنَّ في غسله إزالة الوسخ والنجاسة إن كانت، ولو لم ينوِ إزالة النجاسة، فإنَّها ليست بشرط على المذهب، فإنَّ المقصود الأعظم طهارة الثوب، فإنَّها شرط لصحة الصلاة، قيل لبعضهم: ثوبك مُخرَّق، قال: ولكنه مِن وجهٍ حلال، قيل له: وهو وسخ، قال: ولكنه طاهر من النجاسة، فمُعظم الاعتبار في الثوب أن يكون حلالًا طاهرًا. شرح سنن أبي داود (16/ 278).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
يُستحب لمن يصحب الناس التنظيف بالسواك، وأخذ الشَّعر، واستعمال الطِّيب، وقطع الروائح الكريهة، وحُسن الأدب معهم، لتزيد المودة والوقار، وأن يتمسك بصحبته الصديق الصدوق. الأنوار (1/71).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
الزهد في الدنيا والعبادة ليس بلباس الخَشِن الوسخ من الثياب؛ فإن الله تعالى جميل يحبُّ الجمال، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأُسْوة الحسنة. الاستذكار (8/ 297).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله- أيضًا:
من السُّنة: التجمُّل بالثياب لمن قدر عليها. الاستذكار (8/ 296).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
قال القاضي (أبو يعلى) وغيره: يُستحب غسل الثوب من الوسخ والعَرَق، نصَّ عليه (أحمد) في رواية المروذي وغيره، واحتج بأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما يجد هذا ما يغسل به ثوبه؟» ورأى رجلًا شعثًا فقال: «ما كان يجد هذا ما يُسَكِّنُ به رأسه؟» رواه الإمام أحمد والخلال من حديث جابر -رضي الله عنه-، وعلَّله الإمام أحمد -رضي الله عنه- بأنَّ الثوب إذا اتسخ تقطع.
وقال الميموني: ما أعلم أني رأيتُ أحدًا أنظف ثوبًا، ولا أشد تعاهدًا لنفسه في شاربه، وشَعر رأسه وبدنه، ولا أنقى ثوبًا، وأشده بياضًا من الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-.
وروى وكيع عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يُعجبه إذا قام إلى الصلاة الرائحة الطيبة والثياب النقية، وروى أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "مِن مُروءة الرجل نقاء ثوبه". غذاء الألباب (2/ 202).
وقال الباجي -رحمه الله-:
الإسلام لا ينافي التجمل، والتجمل مشروع فيه، ومندوب إليه في الأسماء وغيرها، والله أعلم وأحكم. المنتقى (7/ 297).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
التجمل بالثياب غير مُنكَر في الشريعة. كشف المشكل (2/ 488).
وقال المظهري -رحمه الله-:
أراد بهذا الحديث: أنَّه لا ينبغي للرجل أن يُشبِّه نفسه بالحيوان غير الآدمي، بل ليتطهر وليتطيب وليتزين، فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الإسراء: 70، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة: 222. المفاتيح (5/ 20).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
الصواب: أنَّ البذاذة -وهي القناعة بالدون من الثياب- لا تُنافي النظافة التي ورد أنها من الدِّين، ولا تستلزم المذلَّة عند أرباب اليقين. مرقاة المفاتيح (7/ 2784).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
والحاصل: أنَّ الله جميل يُحب الجمال، فمن زعم أنَّ رضاه في لبس الخلقان والمرقعات، وما أفرط في الغلظ من الثياب، فقد خالف ما أرشد إليه الكتاب والسُّنة. نيل الأوطار (8/ 258).
قال العلقمي -رحمه الله-:
فيه: الأمر بغسل الثوب إذا كثر وسخه، ولو بماء فقط، فإنَّ في غسله إزالة الوسخ والنجاسة إن كانت. الكوكب المنير شرح الجامع الصغير مخطوط لوح (160).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
فيه: حثٌّ على التطهير والتنظيف والتدهين، ونهي وزجر عن التَّشَعُّث والتفرُّق. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (389).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: استحباب تنظيف شعر الرأس بالغسل، والترجيل والتدهين بالزيت ونحوه؛ لإزالة التفث، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدهن الشَّعر ويُرَجِّلُه غِبًّا (الغِبُّ: أن يفعل يومًا ويترك يومًا) ويأمر به، وروى النسائي عن محمد بن المنكدر عن أبي قتادة، وكانت له جُمَّة (هي الشَّعر النازل إلى الأذنين ونحوهما) ضخمة، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره أن يحسن إليها. شرح سنن أبي داود (16/ 277).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فِي فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما ترجم له المصنّف (النسائي) رحمه الله تعالى، وهو استحباب تسكين الشَّعر بدهنه، وتسريحه.
ومنها: استحباب تنظيف الشَّعر بالغسل والترجيل بالزيت، ونحوه. ومنها: طلب النظافة من الأوساخ الظاهرة على الثوب والبدن...، والله تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (38/ 347).