«تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ برَكةً»
رواه البخاري برقم: (1923)، ومسلم برقم: (1095)، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«السَّحُور»:
بضم السين: الفعل، والسَّحور بفتح السين: اسم ما يُتسحَّر به. تفسير غريب ما في الصحيحين، للحميدي (ص:420).
قال ابن قرقول -رحمه الله-:
«السَّحور» اسم ما يؤكل في السَّحَر بالفتح، وكذلك الفطور اسم ما يُفطر عليه، وبالضم اسم الفعل، وأجاز بعضهم أنْ يكون اسم الفعل بالوجهين، والأول أشهر وأكثر. مطالع الأنوار (5/ 461).
شرح الحديث
قوله: «تسحَّرُوا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«تسحَّروا» أي: كُلوا الطعام في وقت السَّحَر؛ ليكون لكم قوَّة على الصوم. المفاتيح (3/ 17).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
الأمر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تسحَّروا» للندب والاستحباب. الأزهار مخطوط لوح (216).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
المعنى: أي: كُلوا عند إرادة الصوم شيئًا في السَّحَر، وهو من آخر الليل ما قبل الفجر الصادق، ندبًا لا وجوبًا، ويدل عليه تعليله -صلى الله عليه وسلم- بما يعود على نفع الصائمين. الكوكب الوهاج (12/ 388).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
هذا أمر ندب، لا أمر فرض، وقد أجمعوا على أن ذلك مندوب إليه مستحب، ولا إثم على من تركه. الإشراف على مذاهب العلماء (3/ 120).
وقال اللخمي المالكي -رحمه الله-:
ولا خلاف أنَّ السحور مستحبٌ غير واجب. التبصرة (2/ 779).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وأجمع الفقهاء على أنَّ السحور مندوب إليه، ليس بواجب. إكمال المعلم (4/ 33).
وقال الروياني الشافعي -رحمه الله-:
واعلم أنَّ السحور سُنة؛ لما روى أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تسحَّروا؛ فإنَّ في السحور بركة». بحر المذهب (3/ 270).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «تسحَّروا...» هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة، وهي حفظ القوة التي يخاف سقوطها مع الصوم الذي لا يُتسحَّر فيه. المفهم (3/ 155).
وقال الزيلعي الحنفي -رحمه الله-:
ثم اعلم أن التسحر مستحب، وقيل: سُنة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «تسحروا...» رواه الجماعة. تبيين الحقائق (1/ 343).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«تسحروا» أمر ندب، كما أجمعوا عليه، أي: تناوَلُوا شيئًا ما وقت السَّحَر. مرقاة المفاتيح (4/ 1380).
وقال المغربي -رحمه الله-:
قوله: «تسحَّروا» ظاهر الأمر الوجوب، ولكنه محمول على الندب هنا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واصلوا. البدر التمام (5/ 28).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب. فتح الباري (4/ 140).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«تسحروا» أمر ندب، ويحصل أصلُ السُّنة بقليل الطعام، لو جرعة ماء، ففي حديث عبد الله بن سراقة مرفوعًا: «تسحَّروا ولو بجرعة من ماء» رواه ابن عساكر، وبكثيره. دليل الفالحين (7/ 39).
وقال السفاريني -رحمه الله-:
وكمال فضيلة السحور تحصل بالأكل؛ لحديث عمرو بن العاص، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر» رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما، والأمر به للندب. كشف اللثام (3/ 498).
قوله: «فإنَّ في السَّحُور برَكةً»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَة» الفاء للتعليل؛ لأنَّ في السحور بركة. البحر المحيط الثجاج (20/ 550).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
البركة: النماء والزيادة. العدة (2/ 845).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«فإن في السَّحور بركة» المحفوظ عند أصحاب الحديث بفتح السين، وقد قيل: إن الصواب أن تُضَم، وأرى الوجه المستقيم فيه على المقاييس اللغوية الضم؛ لأنه بالضم المصدر، وبالفتح: الاسم لما يُتسحَّر به. الميسر (2/ 463).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «فإن في السَّحور بركة» أصل البركة الزيادة، وقد تكون هذه البركة القوة على الصيام، وقد جاء كذلك مفسرًا في بعض الآثار، وقد تكون الزيادة في الأكل على الإفطار، وهو مما اختصت به هذه الأمَّة في عمومها، وقد تكون البركة في زيادة الأوقات المختصة بالفضل، وهذا منها؛ لأنه في السَّحَر، ومنه اشتُق اسم السحور، وقد جاء في فضل ذلك الوقت، وقبول الدعاء فيه، والعمل فيه، وتنزل الرحمة ما جاء، وقد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسحِّر مِن ذِكْرٍ أو صلاة أو استغفار، وغيره من زيادات الأعمال التي لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائمًا عنها، وتاركًا لها، وتجديد النية للصوم؛ ليخرج من الاختلاف، والسحور بنفسه بنية الصوم، وامتثال الندب طاعة، وزيادة في العمل. إكمال المعلم (4/ 32).
وقال ابن قرقول -رحمه الله-:
قوله: «السَّحور بركة» أي: زيادة في الأكل المباح للصائم، وفي القوة على الصوم، وفي الحياة؛ لأن النوم موت، أو زيادة في الخير والعمل؛ لأن من قام للسحور ذَكَرَ الله، وربما صلى، أو جدد نيته لصومه بالعقد، أو بالأكل لسحوره. مطالع الأنوار (1/ 475، 476).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
إنَّ الله سبحانه رحمنا -كما بينَّاه في الأحكام- بإباحة أكل الليل بعد أنْ كان حرامًا علينا إذا نُمْنَا، كما كان على أهل الكتاب مِن قبلنا؛ رحمةً لنا لقدرنا، وتمييزًا لمنزلتنا، وتشريفًا في حُرمة نبينا، فمن لم يفعل ذلك ولو بجرعة ماء فليس منا.
والبركة: هي الإنماء والزيادة، وهي من خمسة أوجه:
قبول الرخصة، وإقامة السُّنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي على الطاعات، وفراغ البال من تعلقه بالحاجة إلى الطعام، فربما لم يفِ بالمقاساة له، والصبر عليه، وقد ذكروا فيها أوجهًا كثيرة لا يتعلق بهذا، بيانها في الكتاب الكبير، فانظروها فيه إن شاء الله. عارضة الأحوذي (3/182)
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فإن في السحور بركة» وهي: القوة على الصيام، وقد جاء مفسرًا في بعض الآثار، وقد لا يبعد أن يكون من جملة بركة السحور ما يكون في ذلك الوقت مِن ذِكْرِ المتسحِّرين لله تعالى، وقيام القائمين، وصلاة المتهجدين؛ فإنَّ الغالب ممن قام ليتسحَّر أنه يكون منه ذكر ودعاء، وصلاة واستغفار، وغير ذلك مما يُفعل في رمضان. المفهم (3/ 155).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«بركةً» بالنصب اسم إنَّ، وفي معنى كونه بركة وجوه: أن يبارك في اليسير منه؛ بحيث تحصل به الإعانة على الصوم. إرشاد الساري (3/ 365).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
البركة في الفعل باستعمال السُّنة لا في نفس الطعام. الميسر (2/ 463).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما البركة التي فيه فظاهرة؛ لأنه يقوِّي على الصيام، وينشط له، وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام؛ لخفة المشقة فيه على المتسحِّر، فهذا هو الصواب المعتمد في معناه، وقيل: لأنه يتضمن الاستيقاظ والذِّكْر والدعاء في ذلك الوقت الشريف، وقت تنزل الرحمة، وقبول الدعاء والاستغفار، وربما توضَّأ صاحبه وصلى، أو أدام الاستيقاظ للذِّكْر والدعاء والصلاة، أو التأهب لها حتى يطلع الفجر. المنهاج (7/ 206).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
هذه البركة يجوز أنْ تعود إلى الأمور الأخروية؛ فإن إقامة السُّنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أنْ تعود إلى الأمور الدنيوية؛ لقوة البدن على الصوم، وتيسيره من غير إجحاف به...، و«البركة» محتملة لأنْ تُضاف إلى كل واحد من الفعل، والمتسحَّر به معًا.
وليس ذلك من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، بل من باب استعمال المجاز في لفظ «في»، وعلى هذا يجوز أنْ يُقال: فإنَّ في السحور -بفتح السين- وهو الأكثر، وفي السحور -بضمِّها-.
ومما علل به استحباب السحور: المخالفة لأهل الكتاب؛ فإنه يمتنع عندهم السحور، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأمور الأخروية. إحكام الأحكام (2/ 9، 10).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«فإن في السحور بركة» المراد بالبركة الأجر والثواب فيُناسب الضم؛ لأنه مصدر بمعنى التَّسَحُّر، أو البركة؛ لكونه يقوِّي على الصوم، وينشِّط له، ويُخفف المشقة فيه، فيُناسب الفتح؛ لأنه ما يتسحر به، وقيل: البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأَولى أنَّ البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السُّنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبُّب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبُّب للذِّكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. فتح الباري (4/ 140).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ومن بركته أيضًا: أنَّ المتسحِّر يقوم في آخر الليل فيذكر الله تعالى، ويستغفره، ثم يصلي صلاة الفجر جماعة، بخلاف من لم يتسحر، وهذا مشاهَد؛ فإنَّ عدد المصلين في صلاة الصبح مع الجماعة في رمضان أكثر من غيره؛ من أجل السحور. تيسير العلام (ص: 317).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فمن بركة السحور: امتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وامتثال أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كله خير، كله أجر وثواب.
ومن بركته: أنه معونة على العبادة؛ فإنه يُعين الإنسان على الصيام، فإذا تسحَّر كفاه هذا السحور إلى غروب الشمس، مع أنه في أيام الإفطار يأكل في أول النهار، وفي وسط النهار، وفي آخر النهار، ويشرب كثيرًا، فيُنزل الله البركة في السحور، يكفيه من قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ومن بركته: أنه يحصل به التفريق بين صيام المسلمين، وصيام غير المسلمين؛ ولهذا بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ فصل ما بيننا وبين صيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر، يعني: السحور؛ لأن أهل الكتاب يصومون من نصف الليل، فيأكلون قبل منتصف الليل، لا يأكلون في السحر، أما المسلمون -ولله الحمد- فيأكلون في السَّحر في آخر الليل، والتمييز بين المسلمين والكفار أمر مطلوب في الشرع؛ ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التشبُّه بهم. شرح رياض الصالحين (5/ 284).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يُؤخَذ من الحديث:
1. استحباب السحور، وامتثال الأمر الشرعي بفعله؛ لما يحصل فيه من البركة، فلا ينبغي تركه، والبركة تُحْمَلُ على الفعل وعلى المتسحَّر به، ولا يعدُّ هذا من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، وإنَّما يُستفاد من صيغتي الفتح والضم.
2. ظاهر الأمر الوجوب، ولكن ثبوت الوصال عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يَصرف الأمر إلى الاستحباب.
3. يرى الصوفية أنَّ مدة تناول السحور كمدة الإفطار، وهذا مُخِلٌّ بالحكمة من الصوم، وهي كَسْرُ شهوتَي الطعام والنكاح، ولا يمكن ذلك إلا بتقليل الغذاء، وأجاب عليهم الآخرون: بأنَّ حكمة الصوم ليست منوطة بتقليل الطعام والشراب، بل بامتثال أمر الله تعالى. تيسير العلام (ص: 317- 318).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
1 . منها: بيان استحباب السحور، وهو يحصل بأقلّ ما يتناوله المرء من مأكول، ومشروب...
2. ومنها: بيان بركة السحور؛ ففيه اتباع السُّنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتّقَوِّي على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخُلُق الذي يُثيره الجوع، والتسبّب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنّة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام.
3. ومنها: بيان فضل الله تعالى على هذه الأمَّة؛ حيث جعل أكلها وشربها في هذا الوقت سببًا لحصول صلاة الله تعالى، وملائكته على المُتسحِّر.
4. ومنها: بيان عناية الشرع بمخالفة أهل الكتاب؛ حيث شرع لنا السحور من أجله، ففي حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الآتي مرفوعًا: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (20/ 552-553).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)