«إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا تَقُومُوا حتى تروني، وعليكم بالسَّكينةِ».
رواه البخاري برقم: (638) واللفظ له، ومسلم برقم: (604)، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.
وفي رواية عند مسلم برقم: (604): «حتى تروني قد خرجتُ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«بالسَّكِينَة»:
أي: الوقار والتأني في الحركة والسير. النهاية، لابن الأثير (2/385).
شرح الحديث
قوله: «إذا أقيمت الصلاة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«إذا أقيمت الصلاة» أي: إذا ذُكِرت ألفاظ الإقامة ونُودِي بها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/32).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «أذا أقيمت الصلاة» أي: إذا نادى المؤذن بالإقامة، وأُقِيْمَ الـمُسَبَّب مقام السبب. الكاشف عن حقائق السنن (3/923).
قوله: «فلا تقوموا حتى تروني»:
قال العيني -رحمه الله-:
«فلا تقوموا حتى تروني» أي: تبصروني، وفي الرواية التالية: «حتى تروني قد خرجت»، وفي رواية ابن حبان من طريق عبد الرزاق: «حتى تروني خرجتُ إليكم»، ولا بد فيه من التقدير، أي: لا تقوموا حتى تروني خرجت، فإذا رأيتموني خرجت فقوموا. عمدة القاري (5/153).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«فلا تقوموا حتى تروني» هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مُكَاتبة، وقد رواه عن يحيى غير واحد: شيبان، وحجاج الصواف، وأيوب، وأبان العطار، ومعمر وغيرهم.
وخرجه البخاري من رواية شيبان، وخرجه مسلم من رواية حجاج ومعمر، وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر: «حتى تروني قد خرجتُ»، وقال أبو داود: لم يذكر «قد خرجتُ» إلا معمر، وذكر البيهقي أنها قد رويت عن حجاج أيضًا، وخرجها ابن حبان في صحيحه من رواية معمر، ولفظه: «حتى تروني قد خرجتُ إليكم»، وهذه اللفظة يستدل بها على مراده -صلى الله عليه وسلم- برؤيته: أن يخرج من بيته، فيراه من كان عند باب المسجد، ليس المراد: يراه كل من كان في المسجد. فتح الباري (5/414).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فلا تقوموا إليها حتى تروني» فإنها كانت تُقام الصلاة -أي: يأخذ المؤذن في إقامتها- وهو -صلى الله عليه وسلم- في منزله لم يخرج، فنهاهم عن القيام إليها حتى يروه قد خرج من منزله، كما أفاده قوله: «قد خرجتُ» في الزيادة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/588).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
وقد أخرج البخاري: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» فدل على أنَّ المقيم يقيم وإنْ لم يحضر الإمام، فإقامته غير متوقفة على إذنه، كذا في الشرح؛ ولكن قد ورد: «أنه كان بلال قبل أن يقيم يأتي إلى منزله -صلى الله عليه وسلم- يُؤْذِنه بالصلاة»، والإيذان لها بعد الأذان استئذان في الإقامة. سبل السلام (1/ 194).
وقال النووي -رحمه الله-:
وقوله في رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-: «فيأخذ الناس مَصَافَّهم قبل خروجه»؛ لعله كان مرة أو مرتين ونحوهما لبيان الجواز، أو لعذر، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «فلا تقوموا حتى تروني» كان بعد ذلك.
قال العلماء: والنهي عن القيام قبل أن يروه؛ لئلا يطول عليهم القيام؛ ولأنه قد يعرض له عارض فيتأخر بسببه. شرح النووي على مسلم (5/ 103).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله-:
هذا من رفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّتِه، وحرصه على دفع الحرج عنها والمشقة عليها -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه-، وهو الذي وصفه الله في كتابه العزيز بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة:128. شرح سنن أبي داود (75/3).
وقال الإمام مالك -رحمه الله-:
وأما قيام الناس حين تقام الصلاة، فإني لم أسمع في ذلك بحدٍّ يُقام له، إلا أني أرى ذلك على قدر طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف، ولا يستطيعون أن يكونوا كرجلٍ واحد. الموطأ (4/ 70).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
«فلا تقوموا حتى تروني» هذا إذا كان الإمام غائبًا، فإن كان حاضرًا، فقال مالك: ليس في ذلك حد معروف، وإنما ذلك على قدر حال الناس.
وقال غيره: وقت القيام عند قوله: «قد قامت الصلاة»، وإنما أخذوها من هذا اللفظ، والأذان الثاني (أي: الإقامة) من التكبير إلى التهليل كله إقامة، فلذلك جعله مالك -رضي الله عنه- كله وقتًا للقيام؛ لأنه كله لفظ للإشعار بالصلاة، والإعلام بحضورها، فيتأهب كل أحد على قدر حاله. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (204).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد اختلف السلف والعلماء متى يقوم الناس في الصلاة؟ ومتى يكبر الإمام؟
ومذهب مالك وجمهور العلماء: أنه ليس لقيام الناس حد عند الإقامة، لكن استحب عامتهم قيامهم إذا أخذ المؤذن في الإقامة، وروي عن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة.
وذهب الكوفيون (الأحناف) إلى أنهم يقومون في الصف إذا قال: حي على الفلاح، فإذا قال: قد قامت الصلاة، كبَّر الإمام، فإن لم يكن معهم كُرِهَ لهم القيام في الصف وهو غائب، ووافق الشافعي وأصحاب الحديث في هذا الموضع إذا لم يحضر الإمام. إكمال المعلم (2/557).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إذا أقيمت الصلاة ولم يكن الإمام حاضرًا لم يُسَن قيام المأموم؛ لأن القيام لا يراد لنفسه، بل للشروع في الصلاة، فإذا قام ولم يشرع صار فعله عبثًا.
فأما إذا كان الإمام حاضرًا فأي وقت يسن قيام المأمومين؟
عندنا أنهم يقومون عند قوله: «قد قامت الصلاة»، ويكبرون للصلاة إذا فرغ من الإقامة، وعند أبي حنيفة يقومون عند الحيعلة، ويكبرون عند ذكر الإقامة، وعند الشافعي لا يقومون إلا عند الفراغ من الإقامة. كشف المشكل (3/141).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
فأما قيام الناس إلى الصلاة عند إقامة المؤذن فينبغي لمن كان منهم شيخًا بطيء النهضة أن يقوم عند قوله: «قد قامت الصلاة»، ومن كان منهم شابًّا سريع النهضة أن يقوم بعد فراغه من الإقامة، فيختلف ذلك بحسب اختلاف القائمين؛ ليسْتَوُوا في صفوفهم قيامًا في وقت واحد. الحاوي الكبير (2/ 59).
وقال يحيى العمراني -رحمه الله-:
دليلنا (الشافعية) ما روي: أنَّ بلالًا لما أخذ في الإقامة قال النبي -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-: «أقامها الله وأدامها»، وقال في سائر الإقامة كقوله، وهذا يُبْطِل قول أبي حنيفة؛ ولأن قبل الفراغ من الإقامة ليس بوقت للدخول، فلا معنى للقيام، والقيام فرض في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه. البيان في مذهب الإمام الشافعي (2/ 159).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في الحديث الآخر عن بلال: «أنه كان لا يقيم حتى يخرج النبي -عليه السلام-، فإذا خرج أقام حين يراه»، وفي حديث أبي هريرة: «أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام مقامه»، وفي حديثه الآخر: «كانت تقام الصلاة فيأخذ الناس مَصَافَّهُم قبل أن يقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقامه».
يُجْمَع بين مختلف هذه الأحاديث: بأن بلالًا كان يراقب خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حيث لا يراه غيره أو إلا القليل، فَلِأَوَّل خروجه أقام هو، ثم لا يقوم الناس حتى يظهر للناس ويروه، ثم لا يقوم مقامه حتى يعدلوا صفوفهم، وأن الرواية الأخرى عن أبي هريرة: «وأخذ الناس مَصَافَّهم قبل خروجه» كانت مرة أو لعذر، ولعل نهيه في حديث أبي قتادة كان بعدها، بدليل طول انتظارهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، وللأمر الذي شغله عنهم. إكمال المعلم (2/556-557).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
ومعنى الحديث: أن جماعة المصلين لا يقومون عند الإقامة إلا حين يرون أن الإمام قام للإمامة. عون المعبود شرح سنن أبي داود (2/ 171).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«حتى تروني» قيل ذلك؛ لئلا يَطْرأ عليه عارض يمسكه عن الإسراع للخروج، فيشق على الناس انتظاره قيامًا. إكمال المعلم (2/556).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قال بعض أصحابنا: وروي عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وداود: أنه إن كان الإمام خارجًا من المسجد فلا تقوموا حتى تروه، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد؛ حملًا للرؤية في الحديث على العمل، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا، وإن كان الإمام في المسجد، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم، لكن هل يكتفي برؤيته قاعدًا، أو لا بد من رؤيته قائمًا متهيئًا للصلاة؟ هذا محل نظر، والمنصوص عن أحمد أنه إذا كان في المسجد فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن: «قد قامت الصلاة» وإن لم يقم الإمام، والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام، إذا كان حاضرًا في المسجد، وللمأمومين معه، واختلفوا في موضع القيام من الإقامة على أقوال:
أحدها: أنهم يقومون في ابتداء الإقامة، روي عن كثير من التابعين، منهم: عمر بن عبد العزيز، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وهو غريب عن أحمد.
والثاني: إذا قال: «قد قامت الصلاة»، روي عن أنس بن مالك، والحسن بن علي، وعطاء والحسن، وابن سيرين والنخعي، وهو قول ابن المبارك وزُفَر وأحمد وإسحاق.
والثالث: إذا قال: «حي على الفلاح»، وحكي عن أبي حنيفة ومحمد.
والرابع: إذا فرغت الإقامة، وحكي عن مالك والشافعي.
وحكى ابن المنذر عن مالك: أنه لم يُوقِّت في ذلك شيئًا.
وقال الماوردي من الشافعية: إن كان شيخًا بطيء النهضة قام عند قوله: «قد قامت الصلاة»، وإن كان سريع النهضة قام بعد الفراغ؛ ليستووا قيامًا في وقت واحد.
فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحيانًا يناجي بعض أصحابه طويلًا، فهل يتأخر قيام المأمومين إلى حين؟
الأظهر: نعم، ويدل عليه ما خرجه البخاري -وسيأتي قريبًا إن شاء الله- عن أنس قال: «أقيمت الصلاة والنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يناجي رجلًا في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم»، ونومهم يدل على أنهم كانوا جلوسًا؛ إذ لو كانوا قيامًا ينتظرون الصلاة كان أبعد لنومهم. فتح الباري (5/ 417-419).
قوله: «وعليكم بالسكينة»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «السكينة» وذلك لأن السكينة لازمة عند الوقوف بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، وفي القيام إلى الصلاة اشتغال مجال الوقوف بين يديه. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/32).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
ذِكْرُ الإقامة ليس بقيد لما في حديث أبي قتادة عند البخاري: «إذا أتيتم الصلاة»؛ فإنه يتناول ما قبل الإقامة، فالمراد الذهاب والمشي إلى الصلاة، وإنما ذَكَر الإقامة في حديث أبي هريرة؛ لأنها هي الحاملة في الغالب على الإسراع، وهي محل توهُّم جواز الإسراع لإدراك أول الصلاة مع الإمام، فإن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجَّى إدراك فضيلة التكبير الأولى، فإذا لم يجز الإسراع مع وجود هذه المصلحة فعند انتفائها بالأَوْلَى. مرعاة المفاتيح (2/388).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فائدة هذا الحديث: أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام، وأمرهم -عليه السلام- ألا يطيعوا المؤذن في ذلك؛ خشية التراخي والمهلة بين الإقامة والدخول في الصلاة، فينتظرونه قيامًا؛ لأن شأن الدخول في الصلاة اتصاله بالإقامة من غير فصل، فلذلك نهاهم عن القيام قبل خروجه. شرح صحيح البخاري (2/ 264).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيه: جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها.
وفيه: أن القيام للصلاة لا يلزم بالإقامة، أو قوله: "قد قامت الصلاة"، أو "حي على الفلاح"...، وإنما يلزم بخروج الإمام. إكمال المعلم (2/556).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه: لا بأس بالأخذ في إقامة الصلاة قبل دخول الإِمام المسجد إذا علم أنه داخل مُدْرِكٌ للصلاة. التنوير شرح الجامع الصغير (1/588).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
فوائده أي: هذا الحديث:
منها: بيان الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة، وهو وقت رؤيتهم الإمام خارجًا إلى الصلاة...
ومنها: بيان حرص الصحابة -رضي الله عنهم- في المبادرة إلى الخير؛ حيث إنهم كانوا يقومون للصلاة قبل خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- مبادرة إليها.
ومنها: بيان شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أُمَّتِهِ؛ حيث نهاهم عن القيام قبل أن يخرج إليهم؛ لئلا يشق عليهم، كما قال الله -عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة: 128.
ومنها: بيان سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها؛ حيث خفَّفت في مواطن المشقة؛ دفعًا للحرج، وقد بيَّن الله تعالى ذلك حيث قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «بعثتُ بالحنيفية السَّمْحَة».
ومنها: أنه يفيد أن المؤذن لا يقيم حتى يرى الإمام قد خرج للصلاة؛ لأن ذلك يؤدي إلى تطويل القيام على الناس؛ انتظارًا له، وربما لا يكون مستعدًّا، أو يَعْرِضُ له عارض في طريقه، فيتأخر عليهم، وأَصْرَحُ منه حديث جابر بن سَمُرَة -رضي الله عنه- الآتي بلفظ: «كان بلال يُؤذِّن إذا دَحَضَتْ أي: زالت الشمس عن وسط السماء، فلا يقيم حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-». البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (13/326).
وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هل ورد في السُّنة وقت محدد للقيام للصلاة عند الإقامة؟
فأجاب بقوله: لم ترد السُّنة محدِّدة لموضع القيام، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوموا حتى تروني»، فمتى قام الإنسان في أول الإقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها فكل ذلك جائز. مجموع الفتاوى (13/16).