السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

عن عمر بنِ أبي سلمة أنَّه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سَلْ هذه» لأُمِّ سَلَمَةَ، فأَخْبَرَتْهُ أنَّ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يصْنَعُ ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غَفَرَ اللهُ لك ما تقدَّمَ مِنْ ذنبِك وما تأخَّرَ، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَا والله، إنِّي لَأَتْقَاكُمْ للَّه، وأَخْشَاكُمْ له».


رواه مسلم برقم: (1108)، من حديث عُمر بن أبي سلمة -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


شرح الحديث


قوله: «عنْ عُمرَ بنِ أبي سلمةَ أنَّه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيقبِّل الصائم؟»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أَيُقَبِّلُ» أي: هل ‌يُقَبِّل «‌الصائم» زوجه في حال صيامه، ولعله مسألة لغيره؛ إذ ذاك كان من الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. الكوكب الوهاج (12/ 426).
وقال النووي -رحمه الله-:
وسواء قَبَّلَ ‌الخدَّ ‌أو ‌الفم أو غيرهما. المجموع (6/ 355).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء؛ لأن عُمر حينئذٍ كان شابًّا، ولعله كان أوَّل ما بَلَغَ. فتح الباري (4/ 151).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: قوله: «يقبِّل وهو صائم» ولا يلزم منه أنْ يكون في رمضان، قلتُ: في رواية الترمذي: «كان يقبِّل في شهر الصوم» وهذا يلزم منه أن يكون في رمضان؛ لأنه شهر الصوم، وقد جاء صريحًا في رواية مسلم: «كان يقبِّل في رمضان وهو صائم».
فإن قلتَ: لا يلزم من قوله: «في رمضان» أنْ يكون بالنهار، قلتُ: في رواية عن عائشة في الصحيحين: «كان يقبِّل ويباشر وهو صائم» فبيَّن أنَّ ذلك في حالة الصيام. عمدة القاري (11/ 10).

قوله: «فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «سَلْ هذه» لأم سلمة»:
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يقول لعُمر: «‌سل ‌هذه» يعني: أمَّه. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 548).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «سل هذه» المرأة عما سألتَني عنه تجبك، مشيرًا «لأم سلمة» أُمَّهُ: هند بنت أبي أمية. الكوكب الوهاج (12/ 426).

قوله: «فأخبرَتْه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك»:
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فأخبرته» عطف على مقدَّر؛ أي: فسألها عنه، فأخبرته «أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصْنَعُ ذلك» أي: يُقبِّل وهو صائم. البحر المحيط الثجاج (20/ 654).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأخبرته» أم سلمة «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك» التقبيل في حال صومه. الكوكب الوهاج (12/ 427).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
وانظر إلى قول أم سلمة للمرأة في جواب سؤالها: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، ولم تقل لها إن ذلك جائز؛ ليكون جوابها آكد في قبولها له، وأَبَتّ عندها، وأن للمسلمين في الاقتداء بفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة، وفي ذلك من مزية الاستدلال، وفضيلة الفهم والمعرفة ما لا خفاء به. الشافي (3/ 184).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لا حياء في الدِّين، فإن عمر بن أبي سلمة سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قُبلة الصائم أمام أمِّه، وأحال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإجابة على أمِّه، فأجابته بما يفعله معها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فتح المنعم (4/ 546).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
ونحن نقول: إنَّ القُبلة للصائم تُفسد الصوم؛ لأنها تبعث الشهوة وتستدعي المذي، وكذلك نقول في المباشرة.
فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه معصوم، وتقبيله في الصوم أهله كتقبيل الوالد ولده، والأخ أخاه، ويدلك على ذلك قول عائشة -رضي الله عنها-: «وأيُّكم يملك إربه كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملك إربه؟»، وكذلك نقول في نوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنه لا يوجب الوضوء؛ لقوله: «إن عيني تنام ولا ينام قلبي»، ولذلك كان ينام حتى يسمع فخيخه (الغطيط)، ثم يصلي من غير أن يتوضأ، وأحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُخالف أحكام أمَّته في غير موضع. تأويل مختلف الحديث (ص: 354).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
وقولهم (الفقهاء): يُكره للصائم تقبيل حَلِيلته في الفم أو غيره إنْ أَمِنَ الجِماع والإنزال وإن الْتَذَّ، ومن قال: يحرم إنْ الْتَذَّ فقد غلط؛ لما صح عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه هشَّ، أي: نشط وارتاح، فقبَّل، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: صنعتُ أمرًا عظيمًا، فقال له: «أرأيتَ لو تمضمضتَ من الماء وأنت صائم؟ قال: قلتُ: لا بأس، قال: فَمَهْ؟!»، وإنْ خاف مِن القُبلة جماعًا أو إنزالًا حرمت إنْ كان صائمًا فرضًا ولو شيخًا؛ لأن فيها حينئذٍ تعريضًا لإفساد العبادة...، وإنما كُرهت مع أَمْنِ ما ذُكر، أي: كانت خلاف الأَولى حسمًا للباب؛ لأنه قد يظنها غير مُحرِّكة، وهي مُحرِّكة؛ ولما مر أنَّه ليس له القضاء؛ خروجًا من خلاف مَن أوجَبه، والمرأة كالرجل فيما ذُكر، ومحرَّم على الْمُفْطِرة لنحو حيض تمكينه إنْ لم يأمن ذلك، كما يحرم عليه إنْ أفطر لنحو سفر تمكينها إن لم تأمن ذلك. فتح الإله في شرح المشكاة (6/483).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
واختلف الناس في جواز القُبلة للصائم، فكرهَتْهَا طائفة، نهى عنها ابن عمر، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: مَن فعل ذلك قضى يومًا مكانه، وعن ابن المسيب مثل ذلك.
وقال ابن عباس: يُكره ذلك للشاب، ويرخَّص فيه للشيخ، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس.
ورخص فيها عمر بن الخطاب، وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن.
وقال الشافعي: لا بأس بها إذا لم تُحَرِّك منه شهوة، وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال الثوري: لا تفطره، والتنزه أحب إليّ. معالم السنن (2/ 113، 114).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
القُبلة للصائم جائزة في رمضان وغيره، شابًّا كان أو شيخًا. التمهيد (3/ 525).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فينبغي أن تُعتبر حالة المقبِّل، فإن كانت القُبلة تثير منه الإنزال كانت محرَّمة عليه؛ لأن الإنزال المكتسَب يُمنع منه الصائم، فكذلك ما أوقع فيه وأدَّى إليه، وإن كان إنما يكون عنها المذي فيجري ذلك على حكم القضاء منه، فمن رأى أن القضاء منه واجب، أوجب الكفَّ عن القُبلة، ومن رأى أن القضاء منه مستحب، استحب الكفَّ عن ذلك، وإن كانت القُبلة لا تؤدي إلى شيء مما ذكر، ولا تحرك لذَّة، فلا معنى للمنع منها إلا على طريقة من يخشى الذريعة، فيكون للنهي عن ذلك وجه. إكمال المعلم (4/ 43).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقد ‌اختُلف ‌في ‌القُبلة ‌والمباشرة للصائم، فكرهها قوم مطلقًا، وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن ابن عمر أنه كان يكره القُبلة والمباشرة، ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية، البقرة : 187، فمنع المباشرة في هذه الآية نهارًا، والجواب عن ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبيِّن عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارًا، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قُبلة ونحوها، والله أعلم، وممن أفتى بإفطارِ مَن قبَّل وهو صائم: عبد الله بن شبرمة -أحد فقهاء الكوفة- ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمِّهم، وألزم ابن حزم أهل القياس أن يُلحقوا الصيام بالحج في منع المباشرة ومقدمات النكاح؛ للاتفاق على إبطالهما بالجماع. وأباح القُبلة قوم مطلقًا، وهو المنقول صحيحًا عن أبي هريرة، وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبَّها، وفرَّق آخرون بين الشاب والشيخ، فكرِهها للشاب، وأباحها للشيخ، وهو مشهور عن ابن عباس. فتح الباري (4/ 150).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
وأما القُبْلة والمباشرة للرَّجُل مع امرأته وأَمَتِهِ المباحة له فهما سُنة حسنة، نستحبها للصائم، شابًّا كان أو كهلًا أو شيخًا، ولا نبالي أكان معها إنزال مقصود إليه أو لم يكن. المحلى بالآثار (4/ 338).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا قول ضعيف جدًّا (سنية التقبيل)؛ لأن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس على سبيل التقرُّب والتعبُّد، لكنه بمقتضى الجِبِلَّة والطبيعة، وما كان كذلك فإنه لا يقال: إنه مستحب، لكنَّ فِعْلَهُ في الصيام يدل على الجواز، نعم لو فُرض أن الإنسان فعله ليبين جوازه فهذا قد يقال: إنه يؤجر، لا من أجل التقبيل أو المباشرة، ولكن من أجل بيان السُّنة وتثبيتها؛ لأن الناس قد يَقْبَلُون السُّنة بالفعل أكثر مما يَقْبَلُونها بالقول. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 209).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
لا يصح عنه -صلى الله عليه وسلم- التفريق بين الشاب والشيخ، ولم يجئ من وجه يثبت، وأجود ما فيه حديث أبي داود عن نصر بن علي، عن أبي أحمد الزبيري: حدثنا إسرائيل، عن أبي العنبس، عن الأغر، عن أبي هريرة «أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم، فرخَّص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب»، وإسرائيل وإن كان البخاري ومسلم قد احتجَّا به وبقية الستة، فعِلَّة هذا الحديث أن بينه وبين الأغر فيه أبا العنبس العدوي الكوفي، واسمه الحارث بن عبيد، سكتوا عنه. زاد المعاد (2/ 55-56).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفرَّق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك، كما أشارت إليه عائشة...، ورأى بعض أهل العلم أنَّ للصائم إذا ملك نفسه أن يُقبِّل، وإلا فلا؛ لِيَسْلَمَ له صومُه، وهو قول سفيان والشافعي. فتح الباري (4/ 150، 151).
وقال الصقلي المالكي -رحمه الله-:
قال ابن القاسم: شدَّد مالك في القُبلة للصائم في الفرض والتطوع، قال أشهب: ولمس اليد أيسر منها، والقُبلة أيسر من المباشرة، والمباشرة أيسر من العبث بالفرج على شيء من الجسد، وترك ذلك كله أحب إلينا.
قال ابن حبيب: والقُبلة من الدواعي في من تُخَامِرُه اللذة؛ ولأنه لا يملك نفسه بعدها فلا يُقبِّل.
قال مالك: والقُبلة والملاعبة والجسة والمباشرة والمجاذبة وإدامة النظر تنقص أجر الصائم، وإن لم تفطره، وكان مالك يشدِّد في القُبلة في الفريضة، ويرخِّص فيها في التطوع، وتركه أحب إليه من غير تضييق، ويشدد فيها على الشاب في الفريضة، ما لا يشدده على الشيخ. الجامع لمسائل المدونة (3/ 1104-1105).
وقال سحنون -رحمه الله-:
قال مالك: وقد كان رجال من أهل الفضل ممن مضى وأدركناهم وإنهم لَيَتَجَنَّبُون دخول منازلهم نهارًا في رمضان؛ خوفًا على أنفسهم، واحتياطًا من أنْ يأتي من ذلك بعض ما يكرهون. المدونة (1/ 270).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال الشافعي والأصحاب: ‌القُبلة ‌في ‌الصوم ‌ليست ‌محرَّمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأَولى له تركها، ولا يقال: إنها مكروهة له، وإنما قالوا: إنها خلاف الأَولى في حقِّه، مع ثبوت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعلها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُؤْمَنُ في حقه مجاوزة حدِّ القُبلة، ويُخاف على غيره مجاوزتها، كما قالت عائشة: «كان أَمْلَكَكُم لِإِرْبِهِ»، وأما مَن حرَّكت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا، وقيل: مكروهة كراهة تنزيه. شرح صحيح مسلم (7/ 215).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
تُكره القُبلة على مَن حركت شهوته وهو صائم، ولا تكره لغيره، لكن الأَولى تركها، ولا فرق بين الشيخ والشاب في ذلك، فالاعتبار بتحريك الشهوة، وخوف الإنزال، فإن حركت شهوة شاب أو شيخ قوي كرهت، وإن لم تحركها لشيخ أو شاب ضعيف لم تكره، والأَولى تركها، وسواء قبَّل الخد أو الفم، أو غيرهما. المجموع (6/ 355).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قلتُ: أعدل الأقوال عندي: ما ذهب إليه سفيان الثوري والشافعي من أن الصائم إذا ملك نفسه جاز له التقبيل، وإذا لم يأمن تركه، وبه يحصل الجمع والتوفيق بين الأحاديث المختلفة، وهو قول أبي حنيفة -رحمه الله-. تحفة الأحوذي (3/ 351).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قد تبيَّن مِن ذكر هذه المذاهب وأدلّتها ومناقشتها أنَّ المذهب الراجح هو الأول، وهو أنَّ القُبلة للصائم جائزة مطلقًا، فرضًا كان الصوم أو نفلًا، شابًّا كان المقبِّل أو شيخًا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في نصوصه الصحيحة الصريحة أباحها على الإطلاق، ولم يستفصل من ذلك شيئًا، ولم يقيّد بشيء من ذلك، ولا سيّما وقد غضب على من راجعه بأنه ليس مثل أمَّته، وأغلظ له القول، فقال: «أما إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له».
ومن المعلوم أنَّ الباعث على التقبيل غالبًا هو تحرّك الشهوة، وهو -صلى الله عليه وسلم- يعلم بذلك حين أباح التقبيل على الإطلاق، وقد تبيَّن ذلك في قول عمر -رضي الله عنه- حين سأله، فقال: هَشَشْتُ، فقبّلتُ، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيتَ لو مضمضتَ من الماء، وأنت صائم؟ فقال: لا بأس به، قال: فَمَهْ؟» فقد ذكر له -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الباعث له على التقبيل هو ارتياحه له، فلم يُنكر ذلك عليه، بل شبّهه بالمضمضة، فهل بعد هذا مجال للنقاش؟ كلّا، بل هذا هو الحقّ الصريح، والدليل المقنع الصحيح، وكذلك القول ببطلان الصوم إذا أمنى أو أمذى مما لا دليل عليه، وقد فنّده ابن حزم -رحمه الله- في المحلّى، ورجَّح القول بعدم البطلان؛ لعدم الدليل، وهو الذي لا يظهر لي غيره، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (20/ 633-634).
وقال الماوردي -رحمه الله-:
وذهب سائر الفقهاء: إلى أنَّ القُبلة لا تفطر الصائم، إلا أنْ ينزل معها، فإن أنزل أفطر، ولزمه القضاء، ولا كفارة، وإنما لم يُفطر بالقُبْلة إذا لم ينزل. الحاوي الكبير (3/ 438).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
الْمُقَبِّل لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون ذا شهوة مُفرطة، يغلب على ظنه أنه إذا قبَّل أنزل أو أمذى، فهذا تحرم عليه القُبلة؛ لأنها مفسدة لصومه أَشْبَهَت الأكل.
الثاني: أن يكون ذا شهوة، لكنه لا يغلب على ظنه ذلك، فيُكره له التقبيل؛ لأنه يعرِّض صومه للفطر، ولا يأمن عليه الفساد...
الثالث: أن يكون ممن لا تحرِّك القُبلة شهوته كالشيخ الكبير، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تُكره له، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُقَبِّل وهو صائم؛ لما كان مالكًا لإربه، وغير ذي الشهوة في معناه، وقد روى أبو هريرة «أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم، فرخص له، فأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب»، أخرجه أبو دواد؛ ولأنها مباشرة لغير شهوة أشبهت لمس اليد لحاجة.
والثانية: يُكره؛ لأنه لا يأمن حدوث الشهوة؛ ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء، فاستوى في القُبلة فيها من تُحرك شهوته، ومن لا تحرك كالإحرام. الشرح الكبير (3/ 74).

قوله: «فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
«‌ما ‌تقدم ‌من ‌ذنبك ‌وما ‌تأخر» فقيل: ما كان قبل النبوة، والمتأخر عصمك بعدها، وقيل: المراد به ذنوب أمَّته -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: المراد ما وقع منه عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبري، واختاره القشيري، وقيل: ما تقدم لأبيك آدم، وما تأخر من ذنوب أمَّتك، وقيل: المراد أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان، وقيل: هو تنزيه له من الذنوب. إكمال المعلم (1/ 575).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «غَفَر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» اختلف الناس في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافًا كثيرًا، والذي ينبغي أن يقال: إن الأنبياء معصومون مما يُناقِضُ مدلول المعجزة عقلًا، كالكفر بالله -تعالى- والكذب عليه، والتحريف في التبليغ، والخطأ فيه، ومعصومون من الكبائر، وعن الصغائر التي تزري بفاعلها، وتحط منزلته وتسقط مروءته إجماعًا عند القاضي أبي بكر (ابن الباقلاني)، وعند الأستاذ أبي إسحاق (الإسفراييني) أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم.
واختلف أئمتنا في وقوع الصغائر منهم، فمِن قائل: بالوقوع، ومِن قائل بمنع ذلك، والقول الوسط في ذلك: أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوبٍ من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم، وتنصلوا منها، واستغفروا وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة، لا تقبل التأويلات بجملتها، وإن قبل ذلك آحادها.
لكن الذي ينبغي أن يقال: إن الذي أضيف إليهم من الذنوب ليس من قبيل الكبائر، ولا مما يُزري بمناصبهم على ما تقدم، ولا كَثُر منهم وقوع ذلك، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم، وعوتبوا عليها يخف أمرها بالنسبة إلى غيرهم، وإنما عُدِّدت عليهم، وعوتِبُوا عليها بالنسبة إلى مناصبهم، وإلى علو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس (رائض الدواب ومدربها)، ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهم وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخِلّ ذلك بمناصبهم، ولا قَدَحَ ذلك في رتبتهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى يوم الدين-، والكلام على هذه المسألة تفصيلًا يستدعي تطويلًا، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية. المفهم (1/ 434).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
والصواب: أن معنى الغفران للأنبياء الإحالة بين الأنبياء وبين الذنوب، فلا يصدر منهم ذنب؛ لأن الغَفْرَ هو الستر، فالستر إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وبين عقوبته، ‌فاللائق ‌بالأنبياء القسم الأول، واللائق بالأمم الثاني. اللامع الصبيح (1/ 168).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قول السائل له: «قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر» محمول على أنه اعتقد تجويز مثل هذا منه لا من غيره، ولأنه قد غُفر له مثل هذا، ويدل عليه قوله -عليه السلام-: «إني أتقاكم لله»، وما روي في غير مسلم من غضبه لهذا، وقد يحتمل أنه اعتقد تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، بدليل ما جاء في الموطأ: «يحلُّ الله لرسوله ما شاء»، ففي جملة هذا كله وجوب الاقتداء بأفعال النبي -عليه السلام-، والوقوف عندها، وأن حكمه فيها حكمنا، إلا ما جاء تخصيصه ببيان.
وفيه دليل على أصح القولين: أن الصغائر والمكرهات لا تقع منه؛ إذ لو كان هذا لم يصح الاقتداء بأفعاله وجوبًا أو ندبًا أو إباحة؛ إذ لا يتميز لنا ذلك من المحظور والمكروه. إكمال المعلم (4/ 46).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك» قول من خطر بباله: إنه يلزم من كونه مغفورًا له مسامحته في بعض الممنوعات، وهذا الخاطر مهما أُصغي إليه لزم منه إسقاط التكاليف، وكذلك قد يقع مثله أيضًا عند سماع قوله -صلى الله عليه وسلم- في حق التائب بعد الثالثة: «اعمل ما شئت فقد غَفرت لك» وهذا الخاطر باطل، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لأتقاكم لله، وأشدكم له خشية»، وبدليل الإجماع المعلوم على أنَّ التكاليف لا تَسقط عمن حصلت له شروطها. المفهم (3/ 164).
وقال النووي -رحمه الله-:
سبب قول هذا القائل: قد غفر الله لك: أنه ظن أن جواز التقبيل للصائم من خصائص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل؛ لأنه مغفور له، فأنكر عليه -صلى الله عليه وسلم- هذا وقال: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدكم خشية» فكيف تظنون بي أو تجوزون عليَّ ارتكاب منهي عنه ونحوه؟! شرح صحيح مسلم (7/ 219).

قوله: «فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«أَمَا» أداة استفتاح، وتنبيه، كـ(أَلَا). البحر المحيط الثجاج (20/ 655).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: «وإني ‌لأتقاكم ‌لله» ذَكَرَ قوله: «أخشاكم» مقرونًا بالرجاء، وذكر قوله: «أتقاكم» على القطع، ورجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع؛ لأنه لم يخب ظنه بربه، وقطعه قطع؛ لأنه خبر عن حقيقة حاله، أعلمهم بذلك على سبيل الاعتقاد والإعلام في الدِّين، لا على سبيل الفخر على المسلمين. المسالك (4/ 182).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له» أي: لأكثركم تقوى، وقد قدمنا أن التقوى بمعنى الوقاية، والخشية: الخوف، وقد فرق بعض الناس بينهما، فقال: الخشية أشد الخوف، وقيل: الخوف: التطلع لنفس الضرر، والخشية: التطلع لفاعل الضرر، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس لله خشية؛ لأنه أعظمهم له معرفة. المفهم (3/ 165).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- أيضًا:
فإنه -صلى الله عليه وسلم- سوى بينه وبين غيره في إباحة ذلك. المفهم (3/ 164).
وقال العراقي -رحمه الله-:
«والله ‌إني ‌لأتقاكم ‌لله، ‌وأخشاكم ‌له» وهذا صريح في أن ذلك ليس من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-. طرح التثريب (4/ 138).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فدلَّ على أنَّ الشيخ والشاب سواء؛ لأنَّ عمر حينئذٍ كان شابًّا، لعله كان أول ما بلغ.
وفيه: دلالة على أنَّه ليس من الخصائص. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 241).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
دليل على أنَّ القُبلة لا تَمنع صحة الصوم، ولا خلاف في ذلك، إلا أنه يُكره لمن لا يأمن نفسه ولا يملكها؛ لئلا يكون سببًا إلى ما يفسد الصوم، والمباشرة في ذلك تجري مجرى القُبلة؛ لأنها مما يتلذذ بها، وهي من باب الاستمتاع، وربما كانت سببًا إلى مذي أو مني. المسالك (4/ 182).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وفيها جواز الإخبار عن أمثال هذا مما يكون بين الزوجين على الجملة؛ لضرورة تدعو إليه. إكمال المعلم (4/ 46).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واختُلف فيما إذا باشر أو قبَّل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون (الأحناف) والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء، وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك، ويُكفِّر إلا في الإمذاء فيقضي فقط، واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يُطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك، وتُعقِّب بأن الأحكام عُلِّقت بالجماع ولو لم يكن إنزال فافترقا، وروى عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبَّل فأَنْعَظ (أنعظ الرَّجُل: إذا تحرك ذَكَرُه) ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك، وأبلغ من ذلك ما روى عبد الرزاق عن حذيفة: "من تأمَّل خلق امرأته وهو صائم بطل صومه"، لكن إسناده ضعيف، وقال ابن قدامة: إن قبَّل فأنزل أفطر بلا خلاف، كذا قال، وفيه نظر؛ فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل، وقوى ذلك وذهب إليه. فتح الباري (4/ 151).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)


ابلاغ عن خطا