السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

أتيتُ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، فقلتُ: مُرْنِي بأمرٍ آخُذُهُ عنك، قال: «عليك بالصومِ؛ فإنَّه لا مِثْلَ له».


رواه أحمد برقم: (22149)، والنسائي برقم: (2220) واللفظ له، وابن حبان برقم: (3425)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-.
ولفظ أحمد: أتيتُ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: مُرْنِي بعملٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ، قال: «عليك بالصوم؛ فإنَّه لا عِدْلَ له»، ثم أَتَيْتُهُ الثانية، فقال لي: «عليك بالصيامِ».
صحيح الجامع برقم: (4044)، صحيح سنن النسائي برقم: (2097 ـ 2010).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«لا عِدْلَ له»:
بكسر العين، أو فتحها، أي: لا مِثْل له. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 165).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
تكرر العِدْل بالكسر والفتح في الحديث، وهما بمعنى المثْل، وقيل: هو بالفتح ما عَادَلَه من جنسه، وبالكسر ما ليس من جنسه، وقيل: بالعكس. النهاية (3/ 191).


شرح الحديث


قوله: «أتيتُ رسولَ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فقلتُ: مُرْنِي بأمرٍ آخُذُهُ عنك» وفي رواية: «مُرْنِي بعملٍ يُدْخِلُنِي الجنَّةَ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «مُرْنِي» أي: علِّمني، بصيغة الأمر؛ ليكون أقوى في العمل به. شرح سنن أبي داود (19/ 302).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فقلتُ: مُرْنِي» بضم الميم، وسكون الراء، فِعْلُ أمر من الأمر بحذف فاء الفعل، تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، ومثله (كُلْ) أَمْرٌ من الأكل، و(خُذْ) أمرٌ من الأخذ... «بِأَمْرٍ» أي: بشيء من العبادات. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 90).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وإذا أمرتَ من هذا الفعل (أَمَرَ) ولم يتقدَّمه حرف عطف حذفت الهمزة على غير قياس، وقلتَ: مُرْهُ بكذا، ونظيره (كل) و(خذ)، وإنْ تقدَّمه حرف عطف فالمشهور ردُّ الهمزة على القياس، فيقال: وأْمُر بكذا، ولا يُعرف في (كُلْ) و(خُذْ) إلا التخفيف مطلقًا، وفي (أَمَرْتُه) لغتان، المشهور في الاستعمال: قصر الهمزة، والثانية مدها. المصباح المنير (1/ 21).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وكان أبو أُمامة وامرأته وخادمه (يعني: بعد هذه الوصية) لا يُلْفَوْنَ إلا صيامًا، فإنْ رأوا عندهم نارًا أو دخانًا بالنهار في منزلهم، عرفوا أنْ قد اعتراهم ضيف. التبصرة (2/ 247).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
الصحابة -رضي الله عنهم- إذا سألوا عن الكمال لا يريدون مجرد العلم بالكمال، لكنهم يطبقون ويعملون؛ ليسوا كحال أكثر الناس اليوم؛ حيث إن أحدهم يسأل عن الكمال وعن الأفضل ثم لا يعمل به! لم يكن حال الصحابة هكذا، إنما هم لا يسألون إلا من أجل أن يعْلَمُوا، وهذه صفة المؤمن، وهؤلاء هم المؤمنون الذين إذا علموا الحق عملوا به، أما أن يعلموه ويجعلوه في صدورهم كنُسخ من الكُتُب لا تتجاوز الصدور، فهذا ليس من خصال المؤمنين، وليس من صفاتهم، صفة المؤمن أنه متحرك عامل لا يتأخر...، فهكذا ينبغي للمسلم، بل يجب على المؤمن أن يكون هكذا كلما عَلِمَ شيئًا عَمِلَ به ما استطاع. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 460).
وقال الشاطبي -رحمه الله-:
النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال، وعرَّف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حُمل على إطلاقه أو عمومه؛ لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل، ففي الصحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- سُئل: «أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور»، وسُئل -عليه الصلاة والسلام-: «أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قال: ثم أيْ؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»، وفي النسائي عن أبي أمامة قال: «أتيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثْلَ له»...، إلى أشياء من هذا النمط، جميعها يدل على أنَّ التفضيل ليس بمطلق، ويُشعِر إشعارًا ظاهرًا: بأنَّ القصد إنَّما هو بالنسبة إلى الوقت، أو إلى حال السائل. الموافقات (5/ 26-31).

قوله: «قال: «عليكَ بالصَّوْمِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«عليك بالصوم» هو خطاب لأبي أُمامة. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 272).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عليك بالصوم» أي: الْزَمْهُ. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 137).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «عليك بالصَّومِ» أي: الزم الصوم، وأكْثِرْ منه، والمراد به الصوم الشرعيّ؛ إذ هو المتبادَر عند إطلاق الشارع. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 90).
وقال السندي -رحمه الله-:
«عليك بالصوم» أي: الشرعي؛ فإنه المتبادر...، ويحتمل أنَّ المراد بالصوم: كفُّ النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلها، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: 13. حاشيته على سنن النسائي (4/ 165).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الاحتمال بعيد، واللَّه تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 90).
قوله: «فإنَّه لا مِثْلَ له» وفي رواية: «فإنَّه لا عِدْلَ له»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّه لا مِثْلَ له» الفاء للتعليل، أي: لأنه لا نظير له في كثرة الثواب، أو في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمّارة، والشيطان، والأَوَّل أقرب؛ لقوله في الرواية الآتية: «أيّ العمل أفضل؟». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 90).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإنه لا مِثْل» لا عِدْل «له»؛ لأنه يقوِّي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، ومنافعه جمة، وفضائله كثيرة. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 272).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
العِدْل: الْمِثْل، كما فسَّرته الرواية الأخرى، فالمصنف (السيوطي) أتى بلفظ مأخوذ من الروايات، لا أنَّه لفظ أحدها. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 183).
وقال السندي -رحمه الله-:
«فإنه لا مِثْل له» في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمارة، والشيطان، أو لا مِثْل له في كثرة الثواب. حاشيته على سنن النسائي (4/ 165).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإنه لا مِثْل له»؛ لما فيه من حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والهوى. فيض القدير (4/ 331).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
وإذا صام المرء اعتاد قلَّة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة. فيض القدير (4/ 330).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
ولا مِثْل للصوم لمن يريد الطاعة التي هي خالصة. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 274).

قوله: «ثم أَتَيْتُهُ الثَّانيةَ، فقال لي: «عليك بالصِّيامِ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «ثم أَتَيْتُهُ الثَّانيةَ» لأمر الصوم، فعاد إليَّ بالجواب الأول؛ تعظيمًا لأمره، وإنَّه يكفي، والله تعالى أعلم. حاشيته على سنن النسائي (4/ 166).
وقال العراقي -رحمه الله-:
«عليك بالصوم؛ فإنه لا مِثْل له» ومن هنا قال بعض العلماء: إنَّ الصوم أفضل العبادات البدنية، ولكن المشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة» رواه أبو داود وغيره. طرح التثريب (4/ 92).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
أشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسْبك بكون الصيام جُنَّة من النار فضلًا، وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أُمامة قال: «قلتُ: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم، فإنه لا مِثْل له» وفي رواية: «لا عِدْل له» والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة. فتح الباري (4/ 104).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «فإنه لا عِدْل له» قيل: إنه أفضل حتى من الصلاة، لكن الأصح تفضيلها؛ لخبر أبي داود: «واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة» فهي أفضل العبادات البدنية. أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل (ص: 418).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
روى النسائي وغيره من حديث أبي أُمامة مرفوعًا: «عليك بالصوم، فإنه لا مِثْل له» لكن يعكر على هذا، الحديث الصحيح: «واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة». فتح الباري (4/ 108).
وقال العيني -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: لا يعكر أصلًا؛ لأنه إنما قال ذلك بالنسبة إلى سؤال المخاطبين. عمدة القاري (10/ 260).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي أنَّ ما قاله الجمهور أرجح؛ لحديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: سألتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي العمل أحبّ إلى اللَّه؟ قال: «الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيّ؟ قال: ثم برّ الوالدين، قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل اللَّه...» الحديث متفق عليه؛ ولحديث أحمد وابن ماجه والدارميّ بإسناد صحيح وفيه: «واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة».
فتُحمَل خيرية الصوم المذكورة في حديث الباب على غير الأمور المذكورة في حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، ونحوها، واللَّه تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 90).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
والصَّحيح: ‌أنه ‌يختلف ‌باختلاف ‌الفاعل؛ وباختلاف الزَّمن، فقد نقول لشَخصٍ: الأفضلُ في حَقِّك الجِهادُ، والآخرُ: الأفضلُ في حَقِّكِ العِلْم، فإذا كان شُجاعاً قويًّا نشيطاً؛ وليس بذاك الذَّكيِّ؛ فالأفضلُ له الجِهاد؛ لأنه أَليقُ به. وإذا كان ذكيًّا حافظاً قويَّ الحُجَّة؛ فالأفضلُ له العِلْم، وهذا باعتبار الفاعل.
وأما باعتبار الزَّمن؛ فإننا إذا كُنَّا في زمن تَفَشَّى فيه الجهلُ والبِدعُ، وكَثُرَ مَنْ يُفتي بلا عِلم؛ فالعِلمُ أفضلُ من الجهاد، وإنْ كُنَّا في زمن كَثُرَ فيه العُلماءُ؛ واحتاجتِ الثُّغور إلى مرابطين يدافعون عن البلاد الإسلامية؛ فهنا الأفضل الجهاد. فإنْ لم يكن مرجِّحٌ، لا لهذا ولا لهذا؛ فالأفضلُ العِلم.
قال الإمام أحمد: العِلمُ لا يَعْدِلُهُ شيء لِمَنْ صَحَّت نيَّتُهُ. قالوا: كيف تصحُّ النيَّةُ؟ قال: ينوي بتواضع، وينفي عنه الجهل. وهذا صحيح؛ لأنَّ مَبْنَى الشَّرعِ كُلِّه على العِلم، حتى الجهاد مَبْنَاهُ على العِلم. الشرح زاد المستقنع (4/ 6).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«عليك بالصيام» دلالة على أنَّه لم يجد له أفضل منه.
وهذا لا ينافي ما ثبت في أحاديث أُخرى من أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب بعض السائلين في مثل هذا بأعمال أُخرى غير الصيام؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كالطبيب، يصف لكل إنسان من الدواء ما يناسب حاله. الفتح الرباني (9/ 215).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
معنى الحديث: أنَّ الصوم ليس شيء يماثله في كثرة الأجر والثواب، وقد تقدَّم أنَّ هذا مؤوّل بما عدا الصلاة، وبرّ الوالدين، والجهاد في سبيل اللَّه، مما ثبت أفضليّته بنصوص أصحّ مما هنا، والحديث صحيح، وهو من أفراد المصنّف (النسائي) كما سبق قريبًا، واللَّه تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى(21/ 93).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على فضيلة الصوم على كل عمل نافع. التحبير لإيضاح معاني التيسير (6/ 183).


ابلاغ عن خطا