السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

أن رسو الله -صلى اللهُ عليه وسلم- خرج مِن جوفِ الليلِ فصلّى في المسجدِ، فصلَّى رجالٌ بصلاتِهِ، فأصبح الناس يتحدثونَ بذلك، فاجتمعَ أكثرُ منهم، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة الثانيةِ، فصلَّوْا بصلاتهِ، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثُر أهلُ المسجدِ من الليلة الثالثة، فخرجَ فصلَّوْا بصلاتِهِ، فلمَّا كانتِ الليلةُ الرابعةُ عجزَ المسجدُ عن أهلهِ، فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَطَفِقَ رجالٌ منهم يقولونَ: الصلاةَ، فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حتى خرج لصلاة الفجر، فلمَّا قضى الفجرَ أقبلَ على الناس، ثم تشهَّدَ، فقالَ: «أمَّا بعدُ، فإنهُ لم يَخْفَ عليَّ شأنُكُم الليلةَ، ولكنِّي خشِيتُ أن تُفْرَضَ عليكم صلاةُ الليل فَتَعْجَزُوا عنها».


رواه البخاري برقم (924)، ومسلم برقم: (761) واللفظ له، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


« فَطَفِقَ رجالٌ»:
طَفِقَ مثل قولك: أنشأ يقول، وجعل يقول. وأكْثر اللغة على طَفِقَ يَطْفَقُ، قد جاء طَفَقَ بفتح الفاء، يطفِق بكسرها. كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (1/ 73).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
طَفِقَ يفعل كذا يَطْفَقُ طَفَقًا، أي: جعل يفعل. ومنه قوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} الأعراف: 22، قال الأخفش: وبعضهم يقول: طَفَقَ بالفتح يَطْفِقُ طُفُوقًا. الصحاح تاج اللغة (4/ 1517).

«فتعجزوا»:
أي: لا تطيقونها. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 68).
قال الفتني -رحمه الله-:
أي: فتتركوها مع القُدرة، وليس أراد العجز الكُلِّي فإنه يُسقط التكليف. مجمع بحار الأنوار (3/ 524).


شرح الحديث


قولها: «خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوفِ الليلِ فصلَّى في المسجدِ، فصلَّى رجالٌ بصلاتهِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج» من عندي «‌من ‌جوف ‌الليل» أي: في وسطه «فصلى» صلاة الليل «في المسجد، فصلى» معه «رجال» من أصحابه مُقتَدِين «بصلاته» -صلى الله عليه وسلم-. الكوكب الوهاج (10/ 26).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«‌خرج ليلة في جوف الليل» أي: أثنائه «فصلى في المسجد» أي: صلاة التراويح؛ كما في رواية الزهري في كتاب الصيام، «فصلى رجال بصلاته» أي: اقتدوا به. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 44).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«خرج من جوف الليل» (مِن) بمعنى (في)؛ أي: في جوف الليل، وقوله: «فصلى رجال بصلاته» أي: بسبب صلاته، أو مع صلاته -صلى الله عليه وسلم-. البحر المحيط الثجاج (15/ 688).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -رحمه الله-:
صلاة الليل سواءً كانت في رمضان أو في غير رمضان لا مانع من أن تكون جماعة، هذا في غير رمضان، دليله: حديث ابن عباس صلى مع النبي -عليه الصلاة والسلام- وصلى معه ابن مسعود، المقصود: أنها لا مانع من أن تُصلى جماعة، ما لم تُتَّخذ عادة، إلا في رمضان. شرح المحرر في الحديث (59/ 19).

قولها: «فأصبحَ الناسُ يتحدَّثونَ بذلكَ، فاجتمعَ أكثرُ منهم»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«فأصبح» هي تامة لا تحتاج إلى الخبر، و«فاجتمع» أي: في الليلة الثانية، «وأكثر» بالنصب، وفاعل «اجتمع» ضمير الناس، وبالرفع بأنه فاعله. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (6/ 36).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فأصبح الناس» أي: دخلوا في الصباح، فـ(أَصْبَحَ) تامة غير محتاجة لخبر، «فتحدَّثوا» بذلك، ولأحمد من رواية ابن جريج عن ابن شهاب: «فلما أصبح تحدثوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في المسجد ‌من ‌جوف ‌الليل»، «فاجتمع» في الليلة الثانية «أكثر منهم» برفع «أكثر» فاعل «اجتمع». إرشاد الساري (2/ 184).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأصبح الناس» أي: كانوا في الصباح «يتحدثون بذلك» أي: بصلاتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، «فاجتمع» في الليلة الثانية في المسجد رجال «أكثر منهم» أي: من الذين اجتمعوا في الليلة الأولى. الكوكب الوهاج (10/ 26).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
وقوله: «يتحدثون بذلك» أي: بما وقع في الليل من صلاة الناس معه -صلى الله عليه وسلم- في المسجد. البحر المحيط الثجاج (15/ 688).
قولها: «فخرجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلةِ الثانيةِ، فصلَّوْا بصلاتِهِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» أيضًا إلى المسجد «في الليلة الثانية فصلوا» أي: فصلى أولئك الرجال المجتمعون في الليلة الثانية مُقْتَدِين «بصلاته» -صلى الله عليه وسلم-. الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فأصبحَ الناسُ يذكرونَ ذلكَ، فَكَثُرَ أهلُ المسجدِ من الليلةِ الثالثةِ، فخرجَ فصَلَّوْا بصلاتِهِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأصبحَ الناس» أي: كانوا في صباح الليلة الثانية «يذكرون ذلك» الاجتماع والصلاة معه -صلى الله عليه وسلم-، «فكثر أهل المسجد» أي: المجتمعون فيه، «من الليلة الثالثة» أي: فيها، «فخرج» -صلى الله عليه وسلم- إليهم في الليلة الثالثة «فصلَّوا» مُقتدين «بصلاته». الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فلمَّا كانتِ الليلةُ الرابعةُ عَجَزَ المسجدُ عن أهلِهِ»:
قال الكوراني -رحمه الله-:
«فلما كانت الليلة الرابعة عَجَزَ المسجدُ عن أهله» كناية عن شدّة امتلاء المسجد. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 44).
وقال الكوراني -رحمه الله- أيضًا:
«فلما كانت الليلة الرابعة عَجَزَ المسجد عن أهله» كناية عن الكثرة، بحيث كاد ألا يسعَ الناس. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 332).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله» أي: امتلأ حتى ضاق عنهم وكاد لا يسعهم، قال في الأساس (أساس البلاغة للزمخشري): ومِن المستعار ثوب عاجز، وجاؤوا بجيش تعجز الأرض عنه. الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» في الليلة الرابعة. الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فَطَفِقَ رجالٌ منهم يقولونَ: الصلاةَ»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فطَفِقَ رجال منهم يقولون: الصلاة»، وفي رواية: «فقالوا: ما شأنه؟» وفي رواية: «ففقدوا صوته، وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتَنَحْنَحُ ليخرج إليهم»، وفي رواية: «فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب». فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 540).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فطَفِقَ» أي: شَرَعَ «رجال منهم» أي: مِن المجتمِعِين في المسجد «يقولون» احضر «الصلاة» معنا، أو صلِّ الصلاة بنا يا رسول الله. الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلمَ- حتى خَرَجَ لصلاةِ الفجرِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلم يخرج إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقولهم ذلك «حتى» أصبح. الكوكب الوهاج (10/ 27).

قولها: «فلمَّا قضى الفجرَ أقبلَ على الناسِ، ثم تَشَهَّدَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلما قضى» صلاة «الفجر» وفرغ منها «أقبل» بوجهه الشريف «على الناس ثم تشهَّد» أي: أتى بالشهادتين. الكوكب الوهاج (10/ 27).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«أقبَلَ على الناس» بوجهه الكريم «فتشهَّد» في صدر الخطبة. إرشاد الساري (2/ 184).

قولها: فقال: «أمَّا بعدُ، فإنَّهُ لم يَخْفَ عليَّ شأنُكُم الليلةَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فإنه» أي: فإن الشأن والحال «لم يَخْفَ» بفتح الياء وسكون الخاء المعجمة، مِن خَفِيَ يَخْفَى من باب رَضِيَ يَرضى، أي: لم يَخْفَ «عليّ» ولم يستتر عني «شأنكم الليلة» أي: اجتماعكم في المسجد في هذه الليلة. الكوكب الوهاج (10/ 27- 28).

قوله: «ولكنِّي خَشِيتُ أن تُفْرَضَ عليكم صلاةُ الليلِ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«ولكني خشيتُ» لو خرجتُ إليكم وصلَّيتُ بكم «أن تُفرض عليكم صلاة الليل» جماعة في المسجد. الكوكب الوهاج (10/ 28).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«ولكني خشيتُ أن تُفرض» أي: صلاة التراويح في جماعة «عليكم»...، وظاهر قوله: «خشيتُ أن تُكتب عليكم» أنه -عليه الصلاة والسلام- توقَّع تَرَتُّب افتراض قيام رمضان في جماعة على مواظبتهم عليه، وفي ارتباط افتراض العبادة بالمواظبة عليها إشكال. إرشاد الساري (3/ 428).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «خشيتُ أن تُفرض عليكم» قال ابن المنير في الحاشية: يُؤخذ منه أن ‌الشروع ‌مُلْزِمٌ؛ إذ لا تظهر مناسبةٌ بين كونهم يفعلون ذلك ويُفرض عليهم إلا ذلك، انتهى، وفيه نظر؛ لأنه يحتمل أن يكون السبب في ذلك الظهور: اقتدارهم على ذلك من غير تكلُّف فيُفرض عليهم. فتح الباري (4/ 254).
وقال المحب الطبري -رحمه الله-:
قوله: «خشيتُ أن تُفرض عليكم» قيل: يحتمل أن يكون قد أوحى الله -عز وجل- إليه: إن واصلتَ هذه الصلاة معهم فرضتُها عليهم، ويحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- ظن ذلك من قِبَل نفسه كما قد اتفق في بعض القُرَب التي داوم عليها، قيل: خاف أن يظنَّ أحدٌ من أمَّته بعده إذا داوم عليها أنها واجبة، فإن قيل: كيف يُفرض عليهم وقد أُكملت الفرائض ورُدَّت الخمسون إلى خمس؟
قلنا: الواجب المكمل إنما هو ما كان بإنشاء الشرع وإيجابه، أما ما تَعَرَّضَ المرء لإيجابه على نفسه فلا يُعترض عليه كالمنذور، ولما كان قيام الليل واجبًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتدوا به فيه وائتموا به، خشي إن داوموا على ذلك أن يُفرض عليهم بسبب الائتمام به ولا يقومون، كما أخبر الله -جلا وعلا- عن فريق من النصارى أنهم ابتدعوا رهبانية لم تُكْتَبُ عليهم ثم قصَّروا فيها، فأشفق -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فترك العمل لأجله. غاية الإحكام في أحاديث الأحكام (2/475).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
وإلى هذا الأخير نحا القرطبي. فتح الباري (3/ 13).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«فيُفرض عليهم» أي: يظنونه فرضًا؛ للمداومة، فيجب على مَن يظنه كذلك؛ ‌كما ‌إذا ‌ظن ‌المجتهد ‌حِلَّ ‌شيء ‌أو ‌تحريمه وجب عليه العمل بذلك، وقيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حُكمه أنه إذا ثبت على شيء من أعمال القُرَب واقتدى الناس به في ذلك العمل فُرض عليهم. المفهم (2/ 357).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معقبًا:
ولا ‌يخفى ‌بُعْد ‌هذا ‌الأخير؛ ‌فقد ‌واظب النبي -صلى الله عليه وسلم- على رواتب الفرائض، وتابعه أصحابه ولم تُفرض. فتح الباري (3/ 13).
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: ما قاله القرطبي مغاير لما قاله المحب الطبري كما يَفهم ذلك مَن تأمله. كوثر المعاني الدراري (9/ 89).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ولا شك أنه صلى حِزْبَهُ تلك الليلة في بيته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يُسَوِّي الله تعالى بينهم وبينه في حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فَرْضٌ عليه؛ إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيها سواء، وكذلك ما كان منها سُنة أو نافلة، والمعنى الثاني: هو أن يكون خشي مِن مُواظبتهم على صلاة الليل معه أن يَضْعفُوا عنها فيكون مَن تَرَكَها عاصيًا لله في مخالفته لنبيِّه وتَرْكِ اتِّباعه، متوعَّدًا بالعقاب على ذلك؛ لأن الله تعالى فَرَضَ اتباعه فقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف: 158، وقال في تَرْكِ اتِّباعه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور: 63، فخُشي على تاركها أن يكون كتارك ما فَرَض الله عليه؛ لأن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كطاعة الله، وكان -صلى الله عليه وسلم- رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. شرح صحيح البخاري (3/ 118).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فإن قيل: قد أَكْمَلَ الله الفرائض وردَّ عدد الخمسين منها إلى الخمس، فكيف كان يجوز دخول الزيادة عليها؟
قيل: إن صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة، وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على الأمَّة الائتساء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظبُ على فعلٍ في وقت معلوم من الليل أو النهار حتى يتكرَّر ذلك منه، يقتدون به ويرونه واجبًا، فتَرَك -صلى الله عليه وسلم- الخروج إليهم في الليلة الرابعة، وتَرَكَ الصلاة فيها؛ لئلا يدخل ذلك الفعل منه في حد الواجبات المكتوبة عليهم من طريق الأمر بالاقتداء به، والزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم مِن جهة وجوب الاقتداء بأفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا من جهة إنشاء فَرْضٍ مستأنَف زائد على الخَمس، وهذا كما يُوجِب الرَّجل على نفسه صلاة نذرٍ فتجب عليه، ولا يدل ذلك على زيادة جملة الشرع المفروض في الأصل.
وفيه وجه آخر: وهو أن الله -سبحانه- فَرَضَ الصلاة أوَّل ما فَرَضَها خمسين، ثم إنه شفع رسوله -صلى الله عليه وسلم- فحطّ معظمها، وجعل عزائمها خمسًا؛ تخفيفًا عن أمَّته؛ من أجل شفاعته ومسألته، فإذا عادت الأمَّة فيما اسْتَوْهَبَتْ، والتزمَت ما كانت استَعْفَتْ منه، وتَبَرَّعَت بالعمل به لم يُستنكر أن يثبت فرضًا عليهم، وقد ذكر الله -سبحانه- عن فريق من النصارى أنهم ابتدعوا رهبانية ونُسُكًا ما كتبها الله عليهم، ثم لما قصَّروا فيها لحقهم اللائمة في قوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الحديد: 27، فأشفق -صلى الله عليه وسلم- أن يكون سبيلُهم سبيل أولئك، فقطع العمل به؛ تخفيفًا عن أمَّته، والله أعلم. أعلام الحديث (1/ 485- 486).
وقال محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: ما قاله الخَطّابيّ هنا هو ما مرَّ عن ابن بطال، إلا أنه هو زاد أن الأُمّة يجب عليها الاقتداء به -عليه الصلاة والسلام- في أفعاله الشرعية، ولم أعلم أحدًا من العلماء قال: إن الأمَّة يجب عليها ما هو واجب عليه -عليه الصلاة والسلام- بالخصوص. كوثر المعاني الدراري (9/ 89).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: تقدَّم في أوَّل كتاب الصلاة في حديث المعراج بعدَ تقرُّر الصلاة على خمس إن الله تعالى قال (في الحديث القدسي): «لا يُبدَّل ‌القول ‌لديَّ» فإذا لم يكن تبديل فكيف خاف من الزيادة على الخمس؟
قلتُ: السياق يدل على أن المراد لا يُبدَّل بتنقيص شيء آخر منها. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 100).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معقبًا:
لكنْ في ذكر التضعيف بقوله: «هُنّ خمسٌ وهُنّ خمسون» إشارة إلى عدم الزيادة أيضًا؛ لأن التضعيف لا يَنقص عن العَشر، ودَفَعَ بعضهم في أصل السؤال بأن الزمان كان قابلًا للنَّسخ فلا مانع من خشية الافتراض، وفيه نظر؛ لأن قوله: «لا يُبدَّل القول لديَّ» خبرٌ والنسخ لا يدخله على الراجح، وليس هو كقوله مثلًا لهم: «صوموا الدهر أبدًا» فإنه يجوز فيه النسخ، وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة أخرى:
أحدها: يحتمل أن يكون المخُوْفُ افتراض قيام الليل بمعنى: جَعْل التهجد في المسجد جماعة شرطًا في صحة التنفُّل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: «حتى خشيتُ أن يُكتب عليكم، ولو كُتب عليكم ما قُمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم»، فمنَعَهم من التجميع في المسجد إشفاقًا عليهم من اشتراطه، وأَمِنَ مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدًا على الخَمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب أن ذلك كان في رمضان، وفي رواية سفيان بن حسين: «خشيتُ أن يُفرض عليكم قيام هذا الشهر» فعلى هذا يرتفع الإشكال؛ لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السَّنة فلا يكون ذلك قدرًا زائدًا على الخَمس، وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. فتح الباري (3/ 13- 14).

قوله: «فتَعْجَزُوا عنها»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فتَعْجِزوا عنها» بكسر الجيم مضارع عَجَزَ بفتحها أي: فتتركوها مع القدرة. إرشاد الساري (3/ 428).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقوله: «فتعجزوا عنها» أي: تَشُقُّ عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكُلِّي؛ لأنه يُسقِطُ التكليف مِن أصله. فتح الباري (3/ 13).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«فتعجزوا عنها» أي: تتركوها ولا تقوموا بها، فتقعوا في حَرج. منة المنعم في شرح صحيح مسلم (1/ 480).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
واختلفوا أيضًا في الأفضل من القيام ‌مع ‌الناس ‌أو ‌الانفراد ‌في ‌شهر ‌رمضان؛ فقال مالك والشافعي: صلاة المنفرد في بيته في رمضان أفضل، قال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون، ولا يقومون مع الناس، قال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا في بيته. التمهيد (5/ 415).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
وقد روي عن ابن عمر وإبراهيم والقاسم وسالم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس.
قد أجمعوا أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان، وكان هذا القيام واجبًا على الكفاية، فمَن فعله كان أفضل ممن انفرد به كالفروض التي هي الكفاية مَن فعلها أسقط فرضًا، وكان فعلها أفضل من تركها، كذلك ما ذكرنا. اختلاف العلماء، اختصار الجصاص (1/ 315).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
واختار ابن المبارك وأحمد وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان، واختار الشافعي: أن يصلي ‌الرجل ‌وحده ‌إذا ‌كان ‌قارئًا. سنن الترمذي (3/ 161).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
وأجاب الجمهور بأن حديث: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» مخصوص بغير ما شُرعت فيه الجماعة من النوافل كالعيد، فكان -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- يصليها في الصحراء، وكذا التراويح فقد صلاها في المسجد جماعة. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (7/ 311).
وقال العيني -رحمه الله-:
والكلام في التراويح على أنواع:
الأول: أن العلماء اختلفوا فيها هل هي سُنة أو تطوع مبتدأ؛ فقال الإمام حميد الدين الضرير -رحمه الله-: نفس التراويح سُنة، وأما أداؤها بالجماعة فمستحب، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن نفس التراويح سُنة لا يجوز تركها، وقال الصدر الشهيد: هو الصحيح، وفي جوامع الفقه: التراويح سُنة مؤكدة والجماعة فيها واجبة، وفي روضة الحنفية: والجماعة فضيلة، وفي الذخيرة: لنا عن أكثر المشايخ أن إقامتها بالجماعة سُنة على الكفاية. عمدة القاري (7/ 178).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: ‌دليل ‌على ‌جواز ‌الجمع ‌للنوافل ‌عامة، ولجَمْعِ رمضان خاصة، لكن كَرِهَ أهل العلم الجمعَ للنوافل مشهرًا وعلى التوالي إلا قيام رمضان، فلم يختلفوا في استحباب الجَمْعِ فيه، قالوا: وفيه جواز الائتمام ممن لم ينوِ أن يَؤُمّك، وهذا جائز إلا في الصلوات المشروط فيها الجماعة بكل حال؛ كالجمعة وصلاة الخوف والجَمع بين الصلاتين لعذر المطر وشبيهه، وتَرْكُه -عليه السلام- الخروج والتجمُّع ليس بنسخٍ ولا رفض لما تقدم، بل للعلة التي ذكرها من خشية الفريضة عليهم فيعجزوا عنها، لا سيما على القول: إنها كانت عليه هو فريضة، فخشي -عليه السلام- إن داموا عليها أن تُفرض عليهم رفقًا بهم، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا كما قالت عائشة في حديث سُبْحَة الضحى. إكمال المعلم (3/ 114).
وقال النووي -رحمه الله-:
ففيه: جواز النافلة جماعة ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا في نوافل مخصوصة، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح عند الجمهور.
وفيه: جواز النافلة في المسجد وإن كان البيت أفضل، ولعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما فَعَلَها في المسجد لبيان الجواز وأنه كان معتكفًا.
وفيه: جواز الاقتداء بمَن لم ينوِ إمامته، وهذا صحيح على المشهور من مذهبنا ومذهب العلماء، ولكن إن نوى الإمام إمامتهم بعد اقتدائهم حصلت فضيلة الجماعة له ولهم، وإن لم ينوها حصلت لهم فضيلة الجماعة ولا يحصل للإمام على الأصح؛ لأنه لم ينوها والأعمال بالنيات، وأما المأمومون فقد نووها.
وفيه: إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتُبر أهمهما؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رأى الصلاة في المسجد مصلحة لما ذكرناه، فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه؛ لِعِظَم المفسدة التي تُخاف مِن عجزهم وتركهم للفرض.
وفيه: أن الإمام وكبير القوم إذا فعل شيئًا خلاف ما يتوقعه أتباعه وكان له فيه عذر يذكره لهم؛ تطييبًا لقلوبهم وإصلاحًا لذات البَين؛ لئلا يَظنوا خلاف هذا، وربما ظنوا ظن السوء والله أعلم. شرح صحيح مسلم (6/ 41- 43).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وفي الحديث: دلالة على أنّ دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة إذا تعارضا، ولما ارتفع ذلك المانع -وهو خوف الفرضية بانقطاع الوحي- جمعهم عُمر على إمام واحد، فإنه أكثرُ ثوابًا. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (4/ 332).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي حديث الباب من الفوائد: ندبُ قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أُمِنَتْ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيّ بن كعب كما سيأتي في الصيام -إن شاء الله تعالى-.
وفيه: جواز الفرار مِن قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله قاله المهلب.
وفيه: أن الكبير إذا فعل شيئًا خلاف ما اعتاده أَتْبَاعُه أن يذكر لهم عذره وحُكمه والحكمة فيه.
وفيه: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه من الزهادة في الدنيا والاكتفاء بما قل منها، والشفقة على أمَّته والرأفة بهم.
وفيه: ترك بعض المصالح لخوف المفسدة وتقديم أهم المصلحتين.
وفيه: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة وفيه نظر؛ لأن نفي النية لم ينقل ولا يطَّلع عليه بالظن.
وفيه: ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صُلِّيت جماعة. فتح الباري (3/ 14).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس ثم تشهد فقال: أما بعد، فإنه لم يخف عليَّ شأنكم الليلة» في هذه الألفاظ فوائد:
منها: استحباب التشهد في صدر الخطبة والموعظة، وفي حديث في سنن أبي داود: «الخطبة التي ليس فيها تشهُّد كاليد الجذماء».
ومنها: استحباب قول: "أما بعد" في الخطب، وقد جاءت به أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة، وقد ذكر البخاري في صحيحه بابًا في البداءة في الخطبة بـ"أما بعد"، وذكر فيه جملة من الأحاديث.
ومنها: أن السُّنة في الخطبة والموعظة استقبال الجماعة.
ومنها: أنه يقال: جرى الليلة كذا، وإن كان بعد الصبح، وهكذا يقال: الليلة إلى زوال الشمس، وبعد الزوال يقال: البارحة. شرح صحيح مسلم (6/ 41- 43).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
فيه: أنه لما زال ما خَشِيَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- جمعهم عمر -رضي الله عنه- في خلافته؛ حيث انقطع الوحي من السماء، وأُمِنَتْ فرضية قيام الليل، ويخطئ مَن يقول: إنها سنة عُمَريَّة فقط، بل سَنَّها الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفي هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان صلى بأصحابه التراويح ثلاث ليالٍ متوالية، فصلى في الليلة الأولى وصلى الناس بصلاته، ثم في الليلة الثانية كثروا، ثم في الليلة الثالثة كثروا أكثر، ثم لم يخرج في الليلة الرابعة، وهذا مِن رأفته ورحمته -عليه الصلاة والسلام- بالمؤمنين، فما منعه من الخروج في الليلة الرابعة والصلاة بهم إلا خشية أن يُفرض عليهم قيام الليل فيعجزوا عنه. فبقي الناس في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلون فرادى، هذا يصلي وحده، وهذا يصلي مع اثنين، وكذلك في خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ لأن خلافته كانت قصيرة، سنتين وأربعة أشهر، أو ثلاثة أشهر، وكان مشغولًا -رضي الله عنه- بحروب الرِّدة، وكذلك كان الأمر في صدر خلافة عمر -رضي الله عنه-، ثم جمعهم عمر -رضي الله عنه- على إمام واحد، واستمرت صلاة التراويح إلى اليوم. توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم (2/ 474- 475).


ابلاغ عن خطا