كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أنْ يعتكفَ صلى الفجر، ثم دخل معتكفهِ، وإنَّه أَمر بخِبَائِهِ فضُرِبَ، أراد الاعتكاف في العشرِ الأواخرِ من رمضان، فأمرتْ زينبُ بخِبائِها فضُرِب، وأَمر غيرها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخِبائه فضُرِب، فلمَّا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر، نَظر، فإذا الأخبيةُ، فقال: «آلبِّرَّ تُرِدْنَ؟ فأمرَ بخِبائِه فقُوِّضَ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في العشر الأُوَلِ من شوالٍ».
رواه البخاري برقم: (2033)، ومسلم برقم: (1172) واللفظ له، من حديث عائشة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يعتكفَ»:
الاعتكاف لغةً: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه.
وشرعًا: الْمُقام في المسجد من شخص مخصوص، على صفة مخصوصة. فتح الباري، لابن حجر(4/ 271).
«خِبَائِهِ»:
الخِبَاءُ: بكسر المعجمة وتخفيف الموحَّدة مع المدِّ هي خيمة مِن وبَر أو صوفٍ ثم أُطلقت على البيت كيف ما كان.فتح الباري، لابن حجر(7/١٤١)
«البِّرَّ»:
أي: الطاعة والعبادة. لسان العرب، لابن منظور (4/ 52).
«قُوِّض»:
أي: قُلِعَ وأُزِيْلَ. النهاية، لابن الأثير(4/ 121).
شرح الحديث
قولها: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادَ أن يعتكفَ صلى الفجرَ، ثم دخلَ مُعْتَكَفَه»:
قال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكَفه» أي: المكان الذي يريد المُكث فيه للعبادة، وهو يدل على أنه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح. المنهل العذب المورود (10/ 231).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه» احتج به مَن يقول: يبدأ بالاعتكاف من أول النهار، وبه قال الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد: يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر، وأَوَّلوا الحديث على أنه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلَّى بنفسه بعد صلاته الصبح، لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف، بل كان من قبل المغرب معتكِفًا لابثًا في جملة المسجد فلما صلى الصبح انفرد. المنهاج شرح صحيح مسلم (8/ 68).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا:
هذا الجواب يُشْكِل على مَن مَنَع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها، وأجاب عن هذا الحديث بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل المعتكف ولا شرع في الاعتكاف، وإنما هَمّ به، ثم عَرَضَ له المانع المذكور فتركه، فعلى هذا فاللازم أحد الأمرين: إمّا أن يكون شَرَعَ في الاعتكاف فيدخل على جواز الخروج منه، وإمّا ألا يكون شرع فيدل على أن أول وقته بعد صلاة الصبح. فتح الباري (4/ 277).
وقال السهارنفوري -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: لا إشكال فيه على منع الخروج من العبادة بعد الدخول فيها؛ فإنه ليس في الحديث ذكر الخروج من العبادة، بل معنى الحديث: أنه إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان دخل المسجد قبيل ليلة إحدى وعشرين، ولبث في المسجد بالليل حتى صلى الفجر، ثم دخل معتكَفه أي: البناء الذي بُني له في المسجد لاعتكافه، وإنما لم يدخل في بنائه بالليل؛ لأن الدخول فيه للتخلي، وزمان الليل بنفسه وقت الخلوة، فلم يحتج بالليل إلى الخلوة، وإنما الاحتياج إلى الخلوة بالنهار، فتخلى بالدخول في المعتكف. بذل المجهود (8/ 692).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه» أخذ بظاهر هذا الحديث الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه، وقال أبو ثور: يفعل هذا مَن نذر عشرة أيام، فإنْ أراد عشر ليالٍ فقَبل غروب الشمس من الليلة، وقال مالك: يدخل في اعتكافه قبل غروب الشمس، وقاله أحمد ووافقهما الشافعي وأبو حنيفة، وأبو ثور في الشهر، وخالفوه في الأيام، فقال الشافعي: يدخل فيها قبل طلوع الفجر، وقال الليث في أحد قوليه وزفر وأبو يوسف: يدخل في الجميع قبل طلوع الفجر، وقد قال القاضي أبو محمد (عبد الوهاب بن نصر المالكي): مَن فعل هذا أجزأه، وقال عبد الملك: لا يُعتد بذلك اليوم، وهذا كله على أنَّ الليل لا يدخل في الاعتكاف إلا أنْ نتعد به اعتكاف، ومذهب مالك وربيعة: أنَّ النهار تابع الليل بكل حال، وتناول قوله -عليه السلام-: «كان إذا أراد أن يعتكف -صلى الله عليه وسلم- صلى الفجر ثم دخل معتكفه» أنه وقت دخوله المعتكَف لا وقت ابتداء اعتكافه، وأنه كان في أول ليلة غير محتاج إلى التفرد في المعتكف لانفراده في المسجد، فلما صلى الصبح وأراد التنحي عن الناس والانفراد دخل معتكَفه للتفرغ لما هو فيه، ولراحة جسمه، وما يحتاج من نوم فاته في ليله، وقيل: بل ذلك قبل دخوله في الاعتكاف من ليلة نومه المستأنفة بعد ذلك، وكان قبله في صبيحة ذلك اليوم يدخل معتكفه لتهيئته، والنظر فيما يحتاج إليه فيه ويستعده وهو غير معتكف، ثم يخرج حتى يصلى المغرب فيدخل في اعتكافه. إكمال المعلم (4/ 154- 155).
وقال السندي -رحمه الله-:
«صلى الفجر ثم دخل معتكفه» ظاهره أن المعتكِف يشرع في الاعتكاف بعد صلاة الصبح، ومذهب الجمهور أنَّه يشرع من ليلة الحادي وعشرين، وقد أخذ بظاهر الحديث قوم، إلا أنهم حملوه على أنَّه يشرع من صبح الحادي وعشرين، فردَّ عليهم الجمهور بأن المعلوم أنَّه كان -صلى الله تعالى عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر ويحث أصحابه عليه، وعدد العشر عدد الليالي، فيدخل الليلة الأولى، وإلا لا يتم هذا العدد أصلًا، وأيضًا مِن أعظم ما يطلب بالاعتكاف: إدراك ليلة القدر، وهي قد تكون ليلة الحادي وعشرين كما جاء في حديث أبي سعيد، فينبغي له أن يكون معتكفًا فيها لا أن يعتكف بعدها...، ولا يخفى أن قولها (أي: عائشة): «كان إذا أراد أن يعتكف» يفيد أنَّه كان يدخل المعتكَف حين يريد الاعتكاف، لا أنَّه يدخل فيه بعد الشروع في الاعتكاف في الليل، وأيضًا المتبادر من لفظ الحديث أنَّه بيان لكيفية الشروع، ثم لازم هذا التأويل أن يقال: السُّنة للمعتكف أن يلبث أول ليلة في المسجد، ولا يدخل في المعتكف، وإنما يدخل فيه من الصبح، وإلا يلزم ترك العمل بالحديث، وعند تركه لا حاجة إلى التأويل، والجمهور لا يقول: هذه السنة، فيلزم عليهم ترك العمل بالحديث، وأجاب القاضي أبو يعلى من الحنابلة: بحمل الحديث على أنَّه كان يفعل ذلك في العشرين؛ ليستظهر ببياض يوم زيادة قبل يوم العشر.
قلتُ: وهذا الجواب هو الذي يفيده النظر في أحاديث الباب، فهو أولى بالاعتماد أحرى، باقي أنَّه يلزم منه أن يكون السُّنة: الشروع في الاعتكاف من صبح العشرين استظهارًا باليوم الأول، ولا بُعْد في التزامه، وكلام الجمهور لا ينافيه؛ فإنهم ما تعرضوا له لا إثباتًا ولا نفيًا، وإنما تعرَّضوا للدخول ليلة الحادي والعشرين وهو حاصل، غاية الأمر أن قواعدهم تقتضي أن يكون هذا الأمر سُنة عندهم، فلنقل به، وعدم التعرُّض ليس دليلًا على العدم، ومثل هذا الإيراد يرد على جواب النووي مع ظهور مخالفته للحديث، والله تعالى أعلم. فتح الودود (2/ 696- 698).
وقال السهارنفوري -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: والذي قال السندي في تأييد قول مَن قال بشروع الاعتكاف من صبح الحادي والعشرين بعيد، وما تأوله النووي هو الأقرب، ويمكن أن يعترض على القائلين بشروع الاعتكاف من صبح الحادي والعشرين أنه ترك العمل بالحديث، فإن الحديث لا يُثبت أن شروع الاعتكاف من الحادي والعشرين، بل الثابت بالحديث أن السُّنة في الاعتكاف أن يشرع بعد مضي جزء من النهار، وهو مِن طلوع الصبح إلى ما بعد الصلاة، فعلى هذا لا يكون اعتكافه اعتكاف نهار تام، فلم يكن معتكف العشر تامًّا، والله أعلم. بذل المجهود (8/ 694).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا أيضًا:
الراجح عندي: أن الاعتكاف يكون من أول الليل، ولا ينافيه حديث الباب؛ لإمكان الجمع بحمله على أنَّ المراد خَلْوَتُه في المكان المعدّ بعد الصبح، فلا ينافي أنه دخل المسجد أول الليل.
وحاصل المسألة: أن مَن أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان يدخل المسجد من أول ليلة الحادي والعشرين، كما يدل عليه حديث: «كان يعتكف العشر الأواخر»؛ إذ المراد بها عدد الليالي، ثم إذا صلى الصبح دخل المكان الذي أعدَّه ليخلو فيه، كما دل عليه: «ثم دخل في المكان الذي يريد أن يعتكف فيه» فحصل الجمع بين الحديثين، وأما ما ادعاه السندي من أن هذا التأويل يخالف الحديث فغير صحيح، بل هو أقرب من تأويله بزيادة يوم قبل العشر؛ إذ هو يستلزم اعتكاف إحدى عشرة، ومخالفة هذا للحديث أظهر مما ادعاه، فتبصر، والله أعلم. ذخيرة العقبى (8/ 683).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- معلقًا:
وسبب هذا الخلاف: هو هل أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها أم لا تدخل؟ وإن اليوم هو المقصود بالاعتكاف، والليل تابع؟ قولان، ومَن قال بالأول تأوَّل الحديث المتقدم، على أن معناه: أنه كان إذا صلى الصبح في الليلة التي دخل مِن أَوَّلها في اعتكافه، دخل قبَّة اعتكافه التي ينزوي فيها نهاره، لا أن وقت دخوله قُبَّتَه كان أول اعتكافه، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 244- 245).
قولها: «وإنه أَمَرَ بخبائه فضُربَ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وإنه» -صلى الله عليه وسلم- بكسر الهمزة، معطوف على جملة «كان» «أمر» من عنده «بـ» ضرب «خبائه» وخيمته، أي: برفعه على الأعمدة؛ ليدخل فيه، ويتخلى عن الناس لعبادة ربه. الكوكب الوهاج (13/ 229- 230).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
وفي رواية البخاري: «فكنتُ أضرب له خِبَاءً». بذل المجهود (8/ 694).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
أي: أمر بخيمته التي يعتكف فيها فنُصبت له. المنهل العذب المورود (10/ 232).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قولها: «وإنه أمر بخبائه فضُرب» هذا إنما كان قبل أن يشرع في الاعتكاف، بدليل قولها: «أراد الاعتكاف في العشر الأواخر» ففي كلامها هذا تقديم وتأخير، فإنَّ أوَّل ما فعل لما أراد الاعتكاف ضُرب له الخباء. المفهم (3/ 245).
قولها: «أرادَ الاعتكافَ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «أراد الاعتكاف» جملة في محل نصب على الحال من ضمير «أمر». البحر المحيط الثجاج (22/ 21).
قولها: «فأمرتْ زينبُ بخِبائِها فضُرِب»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فأمرت زينب» بنت جحش «بخبائها» أي: بضربه «فضُرب» لها. الكوكب الوهاج (13/ 230).
وقال الشيخ موسى لاشين -رحمه الله-:
«فأمَرت زينب بخِبَائِها فضُرب» من مجموع الروايات يُفهم أن عائشة -رضي الله عنها- استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تضرب لها قُبة في المسجد بجوار قُبته، فأذن لها فضربت، فطلبت حفصة من عائشة أن تستأذن لها بضرب قبة، فأذن لها فضربت، فلمّا رأت زينب بنت جحش ذلك -وكانت غيورًا- أمرت بقبة لها فضُربت، ففي البخاري: «فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها فضربت خباء، فلمّا رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر»، وفي رواية أخرى له: «فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذن لها، فضربت فيه قُبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغداة أَبْصَرَ أربع قِبَاب، فقال:...» إلخ، أي: ثلاث قِبَاب لأزواجه، وقُبَّته -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: «فاستأذنته عائشة فأَذِنَ لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها، ففعلت»، وعند النسائي: «ثم استأذنته حفصة» أي: عن طريق عائشة «فأذن لها»، وفي رواية: «فلما رأته زينب ضربت معهن، وكانت امرأة غيورًا»...، فالمذكور في روايتنا: ضَرْبُ زينب، وهو مرحلة من المراحل. فتح المنعم (5/ 72).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
لم أقف في شيء من الطُّرق أن زينب استأذنت، وكأنَّ هذا هو أحد ما بَعث على الإنكار الآتي. فتح الباري (4/ 276).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
فيما قاله الحافظ نظر؛ لأنه قد تقدم في رواية المصنف (النسائي) في الكبرى من طريق ابن عيينة: أنها استأذنت. ذخيرة العقبى (8/ 685).
قولها: «وأمرَ غيرُها من أزواجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بخِبائه فضُرِب»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«وأمر غيرها» أيضًا «من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبائِه» ذكَّر الضمير نظرًا إلى لفظ (غير) أي: بضرب خبائها «فضُرب» لها أيضًا. الكوكب الوهاج (13/ 230).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «وأَمَرَ غيرها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-...» إلخ، هذا يقتضي تعميم الأزواج بذلك، وليس كذلك، وقد فسرت الأزواج في الروايات الأخرى بعائشة وحفصة وزينب فقط، وبيّن ذلك قوله في رواية البخاري من طريق ابن فضيل، عن يحيى: «فلما انصرف من الغَداة أبصر أربع قِباب» يعني قُبة له وثلاثًا للثلاثة، وفي رواية ابن عيينة عند النسائي: «فلما صلى الصبح إذا هو بأربعة أَبْنِيَةٍ، قال: لمن هذه؟ قالوا: لعائشة وحفصة وزينب». البحر المحيط الثجاج (22/ 22).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وأَمَر غيرها من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبائه فضُرب» مع أن الواو لا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، لكن الترتيب الذِّكْري يُوهِم أن غير زينب من الأزواج أَمَرْنَ بضرب خبائهن بعدها، وليس مرادًا، بل العكس هو الصحيح كما يُوهم تعميم الأزواج وليس كذلك، كما سبق. فتح المنعم (5/ 72).
قولها: «فلما صلى رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الفجرَ، نَظَرَ فإذا الأخبيةُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر نظر» في نواحي المسجد «فإذا الأخبية» أي: مضروبة في أطراف المسجد، و«إذا» فجائية أي: فنظر في نواحي المسجد ففاجأته رؤية الأخبية المضروبة فيها. الكوكب الوهاج (13/ 230).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
لما صلى الفجر الثاني، وأراد أن يدخل قُبَّته، رأى قبابًا بجواز قُبَّته وحَوْلَها. فتح المنعم (5/ 72).
قولها: «فقالَ: آلبرَّ تُرِدْنَ؟»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
«آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» بهمزة الاستفهام ممدودة، أي: الطاعة والعبادة؟ حاشية سنن النسائي (2/ 45).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» بهمزة الاستفهام، ومدّه على جهة الإنكار، ونصب «البِرّ» على أنه مفعول «تُرِدْنَ» مقدمًا. المفهم (3/ 246).
وقال هشام الوقشي -رحمه الله-:
همزة الاستفهام دخلت هنا على معنى التقرير والتوبيخ. التعليق على الموطأ (1/ 321).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» بمد الهمزة مثل: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} يونس: 59؟ والاستفهام للإنكار، و«البِر» بالنصب مفعول «تُرِدْنَ» أي: ما أَرَدْنَ البِرَّ، وإنما أَرَدْنَ قضاء مقتضى الغِيرة، والله أعلم. كفاية الحاجة (1/ 539).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
«آلْبِرَّ يُرِدْنَ؟»... قال ذلك إنكارًا عليهن؛ لأن اجتماعهن بهذه السرعة في الاعتكاف كان مُشعرًا بأنهن إنما فعلن ذلك على سبيل الغيرة والتنافس، وليس على سبيل الرغبة في الطاعة والعبادة. منة المنعم (2/ 210).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟»... الخطاب للأزواج وإن كُن غير حاضرات، وفي رواية للبخاري: «آلْبِرَّ تُرَوْنَ بهن؟» بضم تاء «تُرَون» وفتح الراء، أي: تظنون، والخطاب للحاضرين من الرجال، أي: أتظنون بفعلهن هذا برًّا وطاعة؟ والاستفهام إنكاري. فتح المنعم (5/ 72).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
أما قوله في حديث مالك: «آلبر يقولون بهن؟» فيحتمل، أي: أيظنون بهن البر؟ فأنا أخشى عليهن أن يُردن الكون معي، ولا يُردن البر خالصًا، فكره لهن ذلك، وعلى هذا يخرج قوله في غير حديث مالك: «آلْبِرَّ يُرِدْنَ؟» أو «تُرِدْنَ؟» كأنه تقرير وتوبيخ بلفظ الاستفهام، أي: ما أظنهن يُردن البر، أو ليس يردن البر، والله أعلم.
وقد يجوز أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره لأزواجه الاعتكاف، لشدة مؤنته؛ لأن ليله ونهاره سواء. التمهيد (7/ 351).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ رأى أَخْبِية نسائه: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» إنكاره لذلك -عليه السلام- بعد ما ورد في الحديث أنه كان عن إذنه في ذلك لبعضهن على ما ذكره البخاري؛ لما خافَه أن عملهن في ذلك غير خالص للاعتكاف، وإنما هو من أجل غيرتهن عليه، وحرصهن على القُرب منه، أو لغيرته عليهن أن يكنّ ملازمات المسجد مع الرجال، ولا غناء لهن من الخروج لضرورتهن بحضورهم، وقد يحضر المنافقون والأعراب والوفود، أو لأنه -عليه السلام- لما رأى جماعة من أزواجه معه في المسجد خرج الأمر عنده عن صورة الاعتكاف، وكأنه في منزله وبين أهله، أو لأنهن ضيَّقن المسجد بأبنيتهن. إكمال المعلم (4/ 155).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ويحتمل أن يكون إنكاره لأوجه أُخر:
منها: أن يكون خاف أن يكون الحامل لهن على الاعتكاف غيرتهن عليه، وحرصهن على القرب منه.
ومنها: أن يكون كَره لهن ملازمتهن المسجد مع الرجال، أو يكنَّ ضيَّقن المسجد على الناس بأخبيتهن، أو يؤدي مُكثهن في المسجد إلى أن يطَّلع عليهن المنافقون لكثرة خروجهن لحاجتهن، أو يؤدِّي ذلك إلى أن تَنكشف منهن عورة، أو يؤدي ذلك إلى تضييع حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- وحوائجه في بيوتهن.
وكل هذه الاحتمالات مناسبة، وبعضها أقرب من بعض، ولا يبعد أن يكون مجموعها هو المراعى عنده، أو شيء آخر لم يطَّلع عليه، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 245).
قولها: «فأمرَ بخِبائِه فقُوِّضَ»:
قال السندي -رحمه الله-:
«فقُوّض» على بناء المفعول بتشديد الواو، أي: أُزيل وقُلِعَ. فتح الودود (2/ 698).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أمره -عليه السلام- بتقويض خِبائه -وهو إزالته- وأمر بالبناء فقوّض بمعناه، قوّضتُ البناء: أزلتُ عُمده، والتقويض: الهدم، يريد نَقْضَ بناء اعتكافه وبيت خَلوته له وخبائه. إكمال المعلم (4/ 155).
قولها: «وتركَ الاعتكافَ في شهرِ رمضانَ»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
تركه الاعتكاف في ذلك العشر، مُواساة لهن، وتطييبًا لقلوبهن لما منعهن من ذلك، وحُسن لعشرتهن، وظاهره أنه لم يكن دخل بعد في اعتكافه ولا دخلن، وإنما ضُربت الأخبية تقدمة للدخول فيها تلك الليلة -والله أعلم- بدليل قوله في الأم: «وأنه أمر بخبائه فضُرب، وأراد الاعتكاف في العشر الأواخر»، ويكون قضاؤه لما كان اعتقده من فعل الخير دومًا بما عاهد عليه الله من ذلك. إكمال المعلم(4/ 155- 156).
قولها: «حتى اعتكفَ في العشرِ الأُوَلِ من شوالٍ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ثم اعتكف عشرًا من شوال» في رواية الأوزاعي: «فرجع فلما أن اعتكف» وفي رواية ابن فضيل: «فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال»، وفي رواية أبي معاوية: «فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال» ويُجمع بينه وبين رواية ابن فضيل: بأن المراد بقوله: «آخر العشر من شوال» انتهاء اعتكافه. فتح الباري (4/ 276- 277).
وقال الصنعاني -رحمه الله- معلقًا:
قلتُ: وفيه نظر؛ لأنه إذا اعتكف العَشر الأُولى مِن شوال انتهى اعتكافه في أول الثلث الثاني من شوال. التحبير (1/ 350).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه جواز الاعتكاف في شوال، وسائر الشهور مثله. إكمال المعلم (4/ 156).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«وتَرَكَ الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأُوَل من شوال» فترك الأفضل من أجل المصلحة. فتح المنعم (5/ 73).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
(وفي رواية) «واعتكف عشرًا من شوال» هي العشر الأُوَل، كما في رواية أبي معاوية عند مسلم وأبي داود، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- جعلها قضاءً عمّا تركه من الاعتكاف في رمضان على سبيل الاستحباب؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا عمل عملًا أَثْبَتَه، ولو كان للوجوب لاعتكف معه نساؤه في شوال ولم ينقل. الفتح الرباني (10/ 247).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
كونه اعتكف في شوال يدل على أنَّ الاعتكاف ليس مخصوصًا برمضان، ولا يقال: فيه ما يدل على قضاء التطوع؛ لأنا لا نُسَلِّم أنه قضاء، بل هو ابتداء؛ إذ لم يجب عليه لا بالأصل ولا بالنذر، ولا بالدخول فيه؛ إذ لم يكن دخل فيه بعد.
كيف ومعقولية القضاء إنما تتحقق فيما اشتغلت الذمة به، فإذا لم يكن شغل ذمة فأي شيء يقضي؟ غاية ما في الباب: أنه ابتدأ عبادة هي من نوع ما فاته. المفهم (3/ 246).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قد احتج بهذا الحديث بعض مَن كَرِهَ للنساء الاعتكاف في المسجد، ذكر الأثرم قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل عن النساء يعتكفن؟ قال: نعم، قد اعتكف النساء. التمهيد (7/ 354- 355).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ولو ذهب ذاهب إلى أن الاعتكاف للنساء مكروه بهذا الحديث (عائشة) لكان مذهبًا، ولولا أنَّ ابن عيينة ذكر فيه أنهن استأذنَّه في الاعتكاف، لقطعت بأن الاعتكاف للنساء في المساجد غير جائز، وما أظن استئذانهن محفوظًا، والله أعلم، ولكن ابن عيينة حافظ، وقد قال في هذا الحديث: سمعتُ يحيى بن سعيد. التمهيد (7/ 352/ 353).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قال الشافعي بعد ذكره الحديث المذكور (حديث عائشة): فبهذا كرهتُ اعتكافَ المرأةِ إلَّا في مسجدِ بيتِها، وذلك بأنَّها إذا صارت إلى مُلازمةِ المسجدِ المأهولِ ليلًا ونهارًا، كثُرَ من يراها ومن تراه. انتهى. وبوَّب البيهقي في سُننه على هذا الحديث. (باب من كره اعتكاف المرأة).طرح التثريب(4/١٧٠).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قلتُ: وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء، وعلى أنه ليس للمرأة أن تعتكف إلّا بإذن زوجها، وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيه.
وقال مالك: ليس له ذلك، وقال الشافعي: له أن يمنعها من ذلك بعد الإذن، وفيه كالدلالة على أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز، وقد حُكي جوازه عَن أبي حنيفة. معالم السنن (2/ 139).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وأما استئذان المرأة زوجها في الاعتكاف المتطوَّع به، فلا بد منه عند العلماء للذي تقدم في استئذانها إياه في الصوم، وللزوج أن يمنعها منه ما لم يكن نذرًا مُعيَّنًا، فلو كان مطلقًا فله أن يمنعها من وقت إلى وقت ما لم تَخَف الفوت، وكذلك العبد والأَمَة. المفهم (3/ 245).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
واختلف الفقهاء في مكان اعتكاف النساء، فقال مالك: تعتكف المرأة في مسجد الجماعة، ولا يعجبه أن تعتكف في مسجد بيتها.
وقال أبو حنيفة: لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها، ولا تعتكف في مسجد الجماعة.
وقال الثوري: اعتكاف المرأة في بيتها أفضل منه في المسجد؛ لأن صلاتها في بيتها أفضل، وهو قول إبراهيم (النخعي).
وقال الشافعي: المرأة والعبد والمسافر يعتكفون حيث شاؤوا؛ لأنه لا جمعة عليهم.
قال منصور: يعني (أي الشافعي) من المساجد؛ لأنه لا اعتكاف عنده إلا في مسجد.
قال أبو عمر (ابن عبد البر): من حُجة مَن أجاز اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة: حديث ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة هذا؛ لأن فيه: أنهن استأذنَّه في الاعتكاف، فأَذِنَ لهن، فضَرَبْنَ أَخْبِيَتهن في المسجد، ثم منعهن بعدُ لغير المعنى الذي أَذِنَ لهن من أجله، والله أعلم.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إنما جاز لهن ضرب أخبيتهن في المسجد للاعتكاف من أجل أنهن كنَّ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وللنساء أن يعتكفن في المسجد مع أزواجهن، وكما أن للمرأة أن تسافر مع زوجها، كذلك لها أن تعتكف معه.
وقال مَن لم يُجِزْ اعتكافهن في المسجد أصلًا: إنما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الاعتكاف إنكارًا عليهنّ، قال: ويدل على ذلك قوله: «آلْبِرَّ يُرِدْنَ؟»، قال: وقد قالت عائشة: لو رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد.
ولم يختلفوا أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، فكذلك الاعتكاف، والله أعلم. التمهيد (7/ 354- 355).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أنَّ المعتكِف يَبتَدِئ اعتكافه أول النهار، ويدخل في معتكَفه بعد أن يصلي الفجر، وإليه ذهب الأوزاعي، وبه قال أبو ثور، وقال مالك والشافعي وأحمد: يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهرٍ بعينه، وهو مذهب أصحاب الرأي. معالم السنن (2/ 138).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
هذا الحديث أدخله مالك وغيره من العلماء في باب قضاء الاعتكاف، وهو أعظم ما يعتمد عليه من فقهه، ومعنى ذلك عندي -والله أعلم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قد نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فلمَّا رأى ما كرهه مِن تَنَافُسِ زينب وحفصة وعائشة في ذلك، وخشي عليهن أن تدخل نيَّتَهُنَّ داخلة، وما الله أعلم به فانصرف، ثم وفىَّ الله بما نواه مِن فِعْلِ البِرِّ، فاعتكف عشرًا مِن شوال، وفي ذلك جواز الاعتكاف في غير رمضان. التمهيد (7/ 351).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
فيه: دليل على أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرًا كان للمعتكِف أن يَخرج منه أي وقت شاء.
وفيه: إباحة ترك عمل البِرِّ إذا كان نافلة لآفة يخاف معها حبوط الأجر. معالم السنن (2/ 138).
وقال القاضي عياض -رحمه الله- معلقًا:
وعندنا أنه بالدخول فيه لزِمه ما نوى فيه، ولم يصح دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه. إكمال المعلم (4/ 156).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأن أوَّل شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وقال غيره: في اعتكافه في شوال دليل على أن النوافل المعتادة إذا فاتت تُقضى استحبابًا.
واستدل به المالكية على وجوب قضاء العمل لمن شرع فيه ثم أبطله، ولا دلالة فيه؛ لما سيأتي. فتح الباري (4/ 276- 277).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: أن الاعتكاف لا يجب بالنية، وأما قضاؤه -صلى الله عليه وسلم- له فعلى طريق الاستحباب؛ لأنه كان إذا عَمِلَ عملًا أَثْبَتَه، ولهذا لم يُنقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال. فتح الباري (4/ 277).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
فيه: أن مَن نوى طاعة فلا يجب عليه فعلها بمجرد النية إلا بنذرها، والدخول فيها.
قال بعضهم: وفيه أنه كان وكُنَّ دخَلْنَ في الاعتكاف فرأى -عليه السلام- خروجه من ذلك للمصلحة التي رآها؛ ولذلك قضاه بعدُ، وإخراجهن منه لذلك السبب؛ ولأنه لم يكن نذرًا فليزمه تمامه، وإنما ترك ما كان نواه من اعتكاف العَشر، واقتصر على ما مضى له من اعتكاف ليلته ويومه ذلك؛ وذلك أقل الاعتكاف؛ إذ ليس في الخبر أنه قطع اعتكافه لحينه، وإنما فيه أنه ترك اعتكاف العَشر، أو أنها لما دخلها مِن مشاركة الحرص على قُربه والغيرة عليه ليست بطاعة يلزم تمامها على وجه الاعتكاف، وإن كان الحرص وحُب القُرب من النبي -صلى الله عليه وسلم- على أي وجه كان طاعة وقربة. إكمال المعلم(4/ 156).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث من الفقه: أن الاعتكاف يلزم بالنية مع الدخول فيه، وإن لم يكن في حديث مالك ذكر دخوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الاعتكاف الذي قضاه؛ لأن في رواية ابن عيينة وغيره لهذا الحديث: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح، ثم دخل معتكفه، فلما صلى الصبح -يعني: في المسجد- وهو موضع اعتكافه، نظر فرأى الأخبية»، والاعتكاف إنما هو الإقامة في المسجد، فكأنه -والله أعلم- كان قد شرع في اعتكافه؛ لكونه في موضع اعتكافه، مع عقد نيِّته على ذلك، والنية هي الأصل في الأعمال، وعليها تقع المجازات، فمن هنا -والله أعلم- قضى اعتكافه ذلك في شوال -صلى الله عليه وسلم-... فغير نكير أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى الاعتكاف من أجل أنه كان قد نوى أن يعمله، وإن لم يدخل فيه؛ لأنه كان أوفى الناس لربه بما عاهده عليه، وأبدرهم إلى طاعته، فإن كان دخل فيه فالقضاء واجب عند العلماء، لا يختلف في ذلك الفقهاء، وإن كان لم يدخل فيه فالقضاء مستحب، لمن هذه حاله عند أهل العلم، مندوب إليه أيضًا، مرغوب فيه.
ومن العلماء مَن أوجب قضاءه عليه؛ من أجل أنه كان عقد عليه نيته، والوجه عندنا ما ذكرنا.
ومَن جعل على المعتكف قضاء ما قطعه من اعتكافه قاسه على الحج التطوع يقطعه صاحبه عمدًا أو مغلوبًا. التمهيد (7/ 352/ 353).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «وأنه أمر بخبائه فضُرب» قالوا: فيه دليل على جواز اتخاذ المعتكِف لنفسه موضعًا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يُضيِّق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورِحَابه؛ لئلا يضيِّق على غيره؛ وليكون أخلى له وأكمل في انفراده. المنهاج شرح صحيح مسلم (8/ 69).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أن المعتكف يُهيِّئ له مكانًا فيه، بحيث لا يضيِّق على المسلمين كما فعل الشارع؛ إذ ضرب فيه خباءً.
وفيه: أن المعتكِف إذا أراد أن ينام في المسجد أن يتنحى عن الناس؛ خوف أن يكون ما يؤذيهم من آفات البشر.
وفيه: إباحة ضرب الأخبية في المسجد للمعتكف.
قال مالك: وليعتكف في عُجز المسجد ورِحابه، فذلك الشأن فيه. التوضيح (13/ 643).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فيه: جواز ضرب الأخبية في المسجد، وأن الأفضل للنساء ألا يعتكفن في المسجد.
وفيه: جواز الخروج من الاعتكاف بعد الدخول فيه، وأنه لا يلزم بالنية، ولا بالشروع فيه، ويُستنبط منه سائر التطوعات خلافًا لمن قال باللزوم...
وفيه: أن المسجد شرط للاعتكاف؛ لأن النساء شُرع لهن الاحتجاب في البيوت، فلو لم يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذُكر من الإذن والمنع، ولَاكْتُفِيَ لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن، وقال إبراهيم بن علية في قوله: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» دلالة على أنه ليس لهن الاعتكاف في المسجد؛ إذ مفهومه أنه ليس ببرٍّ لهن، وما قاله ليس بواضح.
وفيه: شؤم الغِيرة؛ لأنها ناشئة عن الحسد الْمُفْضِي إلى ترك الأفضل لأجله.
وفيه: ترك الأفضل إذا كان فيه مصلحة، وأن مَن خَشي على عمله الرياء جاز له تركه وقطعه.
وفي الحديث: بيان مرتبة عائشة في كون حفصة لم تستأذن إلا بواسطتها، ويحتمل أن يكون سبب ذلك كونه كان تلك الليلة في بيت عائشة. فتح الباري (4/ 277).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)