«لا حَسَدَ إلا في اثنتينِ: رجلٌ علَّمَهُ الله القرآنَ فهو يتلوهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فسمعهُ جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أُوتِيَ فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يعملُ، ورجلٌ آتاهُ الله مالًا فهو يُهْلِكُهُ في الحقِّ، فقال رجلٌ: ليتني أُوتِيتُ مثلَ ما أُوتِيَ فلانٌ، فعملتُ مثل ما يعملُ».
رواه البخاري برقم: (5026)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وفي رواية عند مسلم برقم: (815)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«حَسَدَ»:
الحَسَد: أن تتمنَّى زوال نعمة المحسود إليكَ. الصحاح، الجوهري (2/ 465).
وقال ابن منظور -رحمه الله-:
الحسد: أن يرى الرجل لأخيه نعمة؛ فيتمنى أن تزول عنه وتكون له دونه، والغبط: أن يتمنى أن يكون له مثلها ولا يتمنى زوالها عنه. لسان العرب (3/ 149).
«آناءَ»:
«آناء الليل وآناء النهار» أي: أوقاتهما، ممدود الأول والآخر على وزن: أفعال في الجمع، واحدها: أَنَىً مفتوح الهمزة مقصور مُنَوَّنٌ. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (1/ 45).
وقال الأزهري-رحمه الله-:
قوله: «آناء الليل»، أي: ساعاته. تهذيب اللغة (15/ ٣٩٦).
شرح الحديث
قوله: «لا حَسَدَ إلا في اثنتينِ»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«لا حسد إلا في اثنين» أي: في شيئين اثنين، ومنهم من يرويه: «إلا في اثنتين» أي: في خصلتين...
وقيل: الحسد فيهما، بمعنى: الاغتباط، والظاهر: أن المراد: مدى صدق الرغبة وشدة الحرص. ولما كان هذان السببان هما الداعيين إلى الحسد، كُنِّيَ عنهما بـ: «الحسد».
ومعنى قوله: «لا حسد» أي: لا رخصة في شيء من أنواع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 99).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«لا حسد» يحتمل أن المراد: لا غِبْطةَ كما أشار إليه بالترجمة (البخاري).
قلت: ويُؤيِّده ما رواه البخاري في (باب: اغتباط صاحب القرآن) في حديث: «وسَمِعَه جارٌ لَهُ فقال: ليتني أُوْتِيْتُ مثل ما أُوْتِيَ».
ويحتمل أنَّ الحسد على حقيقته، ويكون المستثنى مُخْرَجًا من الحسَد الحرام؛ كما رُخِّص في نوعٍ من الكذب، فالاستثناء على الأول من غير الجنس، وعلى الثاني منه. اللامع الصبيح (1/٣٨٠).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومعنى الحَسد هُنا: شِدّة الحرص والرغبة من غير تمنِّي زوالها عن صاحبها وهو المنافسة، وأطلق الحسد عليه؛ لأنهما سببه، وسماه البخاري اغتباطًا؛ لأن مَن أُوْتِيَ مثل هذا ينبغي أن يُغبطَ به ويُنَافِسَ فيه، قَالَ تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء: 32. التوضيح شرح الجامع الصحيح(3/٣٦٢).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
«لا حسد إلا في اثنتين...» يعني: أنه لا ينبغي لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة، ويتمنى مثلها إلا أحد هذين؛ وذلك لما فيهما من النفع العام والإحسان المتعدي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله. «والخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله»، ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما. طريق الهجرتين (2/ 789-790).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
والحسد هاهنا معناه: شدة الحرص والرغبة، كنَّىْ بالحسد عنهما؛ لأنهما سبب الحسد والداعي له، ونفس الحسد محرم محظور.
وأخبرني أبو عمر، عن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: الحسد: أن تتمنى مال أخيك وتحب فقره، وهو محظور، والمنافسة: أن تتمنى مثل ماله من غير أن يفتقر وهو مباح، قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء: 32، الآية، ثم قال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} النساء: 32.
ومعنى الحديث: التحريض والترغيب في تعلم العلم والتصدق بالمال، وقد قيل: إن هذا إنما هو تخصيص لإباحة نوع من الحسد وإخراج له عن جملة ما حُظِر منه... ومعنى قوله: «لا حسد»، أي: لا إباحة لشيء من نوع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله. أعلام الحديث (1/ 195-196).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«لا حسد» جائز في شيء «إلا في» شأن «اثنتين» بتاء التأنيث، أي: خصلتين، وللمؤلف في الاعتصام: «اثنين» بغير تاء، أي: في شيئين. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/ 172-173).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«في اثنين» أي: في شأن، وإلا فالأصل: على اثنين. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (13/ 128).
وقال ابن رشد -رحمه الله-:
معناه: لا حسد أصلًا؛ لكن في هاتين الاثنتين تغابطوا فيهما، فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع. المقدمات الممهدات (3/ 409).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
فيحتمل أن يكون المراد به: الغِبطة، فسماه حسدًا لأنه يقرب منه، وإن لم يكن به، وذاك أن الحاسد يتمنى أن يكون له ما هو للمحسود، والغابط يتمنى أن يكون له مثله؛ فسمى أحدهما باسم الآخر تشبُّهًا وتوسعًا. المنهاج في شعب الإيمان (3/ 106).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن المنير: المراد بالحسد هنا: الغبطة، وليس المراد بالنفي: حقيقته، وإلا لزم الخُلْفُ؛ لأن الناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما؛ فليس هو خبرًا، وإنما المراد به: الحكم، ومعناه: حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين، فكأنه قال: هما آكد القربات التي يغبط بها، وليس المراد: نفي أصل الغبطة مما سواهما؛ فيكون من مجاز التخصيص، أي: لا غبطة كاملة التأكيد لتأكيد أجر متَعَلّقِها إلا الغبطة بهاتين الخصلتين. فتح الباري (13/ 120-121).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث، معناه: لا حسد محمودٌ أو ممدوح إلا هذا؛ لأنه حسدٌ على فعل الخير، والحسد على ثلاثة أضرب: مُحَرَّمٌ مذمومٌ، ومباح، ومحمود مُرَغَّبٌ فيه.
فالأول تمني زوال النعمة المحسودة من صاحبها، وانتقالها إلى الحاسد، وهذا هو حقيقة الحسد، وهو مذموم شرعًا وعرفًا.
وأما الوجهان الآخران: فهو الغبْطُ، وهو: أن يتمنى ما يراه من خير بأحدٍ أن يكون له مثله، فإن كان من أمور الدنيا المباحة كان تمني ذلك مباحًا، وإن كانت من أمور الطاعات كان محمودًا مرغَّبًا فيه. إكمال المعلم (3/ 184-185).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإن قلت: الحسد موجود في الحاسد لا في اثنتين، فما معنى هذا الكلام؟ قلت: المعنى: لا حسد للرجل إلا في شأن اثنتين، لا يقال: قد يكون الحسد في غيرهما فكيف يصح الحصر؟ لأنا نقول: المراد: لا حسد جائز في شيء من الأشياء إلا في اثنتين، أو المعنى: لا رخصة في الحسد في شيء إلا في اثنتين؛ فإن قلت: ما في هذين الاثنين غبطة، وهو غير الحسد، فكيف يقال: لا حسد؟ قلت: أطلق الحسد وأراد: الغبطة، من قبيل إطلاق اسم المسبب على السبب. عمدة القاري (2/ 57).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فإن قلت: كل خير يتمنى مثله شرعًا فما وجه حصر التمني في هاتين الخصلتين؟
أجاب ابن الْمُنَيِّر: الحصر هنا غير مراد، إنما المراد: مقابلة ما في الطباع بِضِدِّه؛ لأن الطباع تحسد على جمع المال، وتُذَمُّ ببذله؛ فبين أن الشرع عكس الطبع؛ فكأنه قال: لا حسد إلا فيما تُذَمُّوْنَ عليه، ولا مذمة إلا فيما تُحْسَدُون عليه، ووجه المؤاخاة بين الخصلتين: أن المال يزيد بالإنفاق ولا ينقص؛ لقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} البقرة: 276، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما نقص مال من صدقة»، والعلم يزيد أيضًا بالإنفاق منه، وهو التعليم فتواخيا. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (3/ 14).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أقول: أُثْبِتَ الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين، يعني: ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم فينبغي أن لا يتحرَّى ويجتهد في تحصيلها، فكيف بالطريق المحمود؟ بل أقول: هو الطريق المحمود لذاته، والمأمور في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، والمرَغَّب فيه بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الواقعة: 10...
وهو الحسد المباح الذي سبق ذكره، وكيف لا؟ وكل واحدة من هاتيك الخصلتين بلغت غاية لا أمد فوقها، ولو اجتمعتا في امرئ بلغ من العلياء كل مكان. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 662-663).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا حسد إلا في اثنتين»، قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي: فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما. شرح صحيح مسلم (6/ 97).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
في أحكامه:
أولها: حرمة الحسد، وهو إجماع وهو المذموم، وأما المباح وهو الاغتباط فمحمود، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فكرهتها وأحببت زوالها فحرام، قال بعضهم: إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر أو من يستعين بها على فتنة وإفساد.
ثانيها: تمني الطاعات. التوضيح لشرح الجامع الصحيح، باختصار (3/ 363).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وأما غير المذموم فقد يكون محمودًا، مثل: أن يتمنَّى زوال النعمة عن الكافر وعمن يستعين بها على المعصية، وأما (المحمود): فهو أن تتمنى أن يكون لك من النّعمة والخير مثل ما لغيرك، من غير أن تزول عنه، والحرص على هذا يسمى: منافسة، ومنه: {وَفِيْ ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المطففين:26، غير أنه قد يطلق على الغبطة: حسدًا، وعليه يحمل الحسد في هذا الحديث، فكأنه قال: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين، وقد نَبَّهَ البخاري على هذا؛ حيث بَوَّب على هذا الحديث: باب: الاغتباط في العلم والحكمة. المفهم (2/ 445- 446).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
ووجه قبح الحسد: أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له، حيث ينعم على زيد فيكره عمرو إنعامه عليه، ثم يحاول نقض فعله وإزالة فضله. التعيين في شرح الأربعين (1/ 294-296).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
قال عبد الله بن أحمد: إنه وجده في المسند بخط أبيه بلفظ: «لا تنافس بينكم إلا في اثنتين»، وعلى هذا: فالمراد بـ «لا حسد»: نفي مشروعيته، أو النهي عنه إلا في الخصلتين المذكورتين، وإلا فقد يوجد الحسد، فكيف ينفى؟ اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/ 380-371).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لا حسد» المراد بالحسد هنا: المنافسة، والفرق بين الحسد والمنافسة: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك فتنافسه فيه؛ حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهو من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، وطلب المعالي، والحسد خُلُقُ نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير، ولا همة عليه؛ فلعجزها ودناءتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، ويتمنى أنه لو فاته كسبها حتى يساويها في عدم الهمة في كسب الخير، ومراد الحديث: لا غبطة إلا في هاتين الخصلتين، فعبّر بالحسد عن الغبطة اتساعًا في ذلك لتقاربهما. التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 633-634).
وقال السندي -رحمه الله-:
والمراد: أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة، وإنما تنبغي في الأمور الجليلة الدقيقة؛ كالجود والعلم مع العمل. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 552).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
استُعِيْرَ لفظ الحسد للغبطة، فالمراد: لا غبطة مشروعة إلا في اثنتين، والقصر على هذا إضافي أو ادِّعائي؛ لأن الغبطة مشروعة ومستحبة في كل أعمال الخير والبر، ولكن لعظم فضلهما ادَّعى أن الخير كله فيهما.
وفي الرواية الثانية: «لا حسد إلا على اثنتين»، وكلمة «على» تأتي بمعنى "في". فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 628).
قوله: «رجلٌ علمَهُ الله القرآنَ فهو يتلوهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: وَفَّقَهُ لِتَعَلُّمِهِ. مرقاة المفاتيح (7/٢٩٢٧)
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
(وفي رواية) «آتاه الله القرآن» أي: مَنَّ عليه بحفظه، وهي من أعظم المنن، فإذا انضم إلى ذلك العمل به تمَّت نعمة الله، وذلك الذي قُصِدَ بقوله: «فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار» ومعنى: يتلوه: يقرؤه، ويعمل به. وآناء الليل والنهار: ساعاتهما، يعني: أنه يلازم ذلك في غالب أوقاتهما. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/٥٣٢).
قوله: «يقوم به»:
قال ابن هبيرة -رحمه الله-:
«يقوم به آناء الليل وآناء النهار» يعنى: الأوقات التي يشار فيها إلى العبادة، وليس المراد: التعبد بتلاوة القرآن جميع الليل والنهار. الإفصاح عن معاني الصحاح (4/ 46).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
يحتمل أن يراد بالقيام: تلاوته، وعليه يدل قوله في حديث أبي هريرة: «فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار»، ويحتمل أن يراد بالقيام به: تَفَهُّمُه والاستنباط منه، والتفقه فيه، وعليه يدل قوله في حديث ابن مسعود: «ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها»، قال النووي: والحكمة: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. فتح القريب المجيب (7/ 47).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فهو يقوم به» والقيام به: وهو العمل به، أو تلاوته، أو كلاهما. شرح المصابيح (3/ 11).
وقال العراقي -رحمه الله-:
على أنه يحتمل أن يكون قوله في حديث أبي هريرة: «فهو يتلوه» معناه: يتبعه، من التَّلْو، لا من التلاوة، وقد ذُكِرَ الاحتمالان في قوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} النمل: 92، ويحتمل أن المراد بالقيام به: الأمران: تلاوته، والتفقه فيه وتعليمه؛ فكل ذلك قيام به، وقد قام على إرادة كل منهما دليل، وهذا أظهر، والاشتغال بالتعلم والتعليم أفضل من الاشتغال بالتلاوة -والله أعلم-...
وبتقدير أن يجعل تعليمه للناس داخلًا في القيام به؛ فهل يُشترَط في ذلك أن يكون مُتبرّعًا به أم يدخل فيه تعليم بأجرة أيضًا؟ قال النووي في قوله في حديث ابن مسعود: «فهو يقضي بها ويعلمها»: معناه: يعمل بها ويعلِّمُها احتسابًا...
ويدخل فيه أيضًا: القضاء بالعلم، وفصل الخصومات به. طرح التثريب (4/ 74).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والمراد بالقيام به: العمل به مطلقًا أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه؛ فلا تخالُف بين لفظي الحديثين، ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي: «رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ويَتَّبِع ما فيه». فتح الباري (1/١٦٧).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«يقوم به» يُفكِّر ماذا قال الله -عز وجل- عن الصلاة؟ فيقول: {أَقِيْمُوْا الْصَّلَاْةَ} الأنعام:72؛ فيقيمها، ماذا قال عن الزكاة؟ فيقول: {وآتُوْا الزَّكَاةَ} البقرة: 277 فيؤتيها، ماذا قال عن الوالدين؟ قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} النساء:36، وماذا قال عن صلة الأرحام؟ {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} الرعد: 21، فيصل رحمه، ماذا قال عن الجيران؟ قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِيْ الْقُرْبَىْ وَالْجَارِ الْجُنُبِ} النساء: 36، إلى آخره؛ فتجده يقوم بالقرآن آناء الليل والنهار، هذه هي الغبطة، وهي الغنيمة، وهي الحظ. شرح رياض الصالحين (4/ 649).
قوله: «فسمعهُ جارٌ له فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أُوتِيَ فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يعملُ»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«أوتيت» أي: من القرآن.
«فعملت» أي: قراءته؛ وكذا الإنفاق، والأُولى فضيلة دينية، والثانية دنيوية، وإن كان مآلها أيضًا إلى الدين. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (17/ 500).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان» من القرآن «فعملت» به «مثل ما يعمل» من تلاوته آناء الليل وآناء النهار. إرشاد الساري (7/ 471).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيقول: «ليتني أوتيت مثل ما أوتي ففعلت مثل ما يفعل»، فلم يَتَمَنَّ أن يسلب صاحب المال ماله، أو صاحب الحكمة حكمته، وإنما تمنى أن يصير في مثل حاله من فعل الخير، وتمنى الخير والصلاح جائز، وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار؛، ولهذا المعنى ترجم البخاري لهذا الباب باب: الاغتباط في العلم والحكمة؛ لأن من أوتي مثل هذه الحال فينبغي أن يغتبط بها وينافس فيها، وفيه من الفقه: أن الغني إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضي الله، فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل حاله، وقول عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا، فإن من سوَّدَه الناس يستحي أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة. شرح صحيح البخاري (1/ 158).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: لفعلت، أي: لقرأتُ أولًا، ولأنفقتُ ثانيًا. عمدة القاري (25/ 5).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«فسمعه جار له» ذكر «جار» مبني على الغالب؛ لأنه الذي يسمع في جميع أحواله غالبًا. «ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان؛ فعملت مثل ما يعمل»، التمني للأمرين معًا، والغبطة في اجتماعهما. المنهل الحديث في شرح الحديث (4/ 11).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «أوتيت» في الموضعين، وأوتي كذلك كلها على صيغة المجهول. قوله: «يهلكه» بضم الياء من الإهلاك، قوله: «في الحق» قُيِّدَ لأنه إذا كان في غير الحق فلا غبطة فيه -والله أعلم-. عمدة القاري (20/ 42).
قوله: «ورجلٌ آتاهُ الله مالًا فهو يُهْلِكُهُ في الحقِّ»:
قال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«آتاه الله مالًا» نكرة تفيد الشيوع؛ فيقع على القليل والكثير، وعلى أي ممول تجارة وزراعة وصناعة أقواتًا وغير أقوات.
«فهو يهلكه» أي: ينفقه، والتعبير بالإهلاك؛ للإشارة إلى استنفاده كله، والإسراف في الخير محمود. «في الحق» قُيِّد للاحتراز عن التبذير المذموم. المنهل الحديث في شرح الحديث (4/ 11).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«آتاه» بالمد، أي: أعطاه، «الله مالاً» التنوين فيه يحتمل أن يكون للتعظيم، وأن يكون لغيره...
«في الحق» أي: ما يحق فيه إنفاق المال من القرب. دليل الفالحين (7/ 171).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«رجل آتاه الله مالًا...» قال بعض أهل العلم: إنفاق المال في حقه ينقسم ثلاثة أقسام:
فالأول: أن ينفق على نفسه وأهله، ومن تلزمه نفقته غير مُقتر عما يجب لهم، ولا مسرف في ذلك...، وهذه النفقة أفضل من الصدقة، ومن جميع النفقات؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك».
وقسم ثان: وهو أداء الزكاة، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له، وقد قيل: من أدَّى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل.
وقسم ثالث: وهو صلة الأهل البُعَداء، ومواساة الصديق، وإطعام الجائع، وصدقة التطوع كلها؛ فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها...، فمن أنفق في هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال في موضعه، وأنفقه في حقه، ووجب حسده. شرح صحيح البخاري (3/ 408-409).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «فهو ينفقه في الحق» أي: في الطاعات، والحق هنا: واحد الحقوق، وهو يستعمل في المندوب كما يستعمل في الواجب، ومنه الحديث: «إن في المال حقًّا سوى الزكاة» رواه الترمذي، وقد يراد بالحق هنا: ضد الباطل، ولكن يلزم عليه أن يكون المباح باطلًا...
لا يخفى أن ذكر الرجل خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له؛ فالمرأة كذلك. طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 74).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «في الحق» أي: إنفاقه في الطاعات. شرح صحيح مسلم (6/ 98).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«في حق» لإخراج التبذير، وهو صرف المال فيما لا ينبغي. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (1/ 381).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وقَيَّدَهُ بالحق إخراجًا لما ينفق رياء، أو في المعاصي... ، ونَكَّر المال لتنوُّعه وصدقه على كل صنف. الكوثر الجاري (1/ 171).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
والحق هنا: واحد الحقوق، وهو يستعمل في المندوب كما يستعمل في الواجب، ومنه الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في المال حقًا سوى الزكاة». فتح القريب المجيب (1/ 678).
قوله: «فقال رجلٌ: ليتني أُوتِيتُ مثلَ ما أُوتِيَ فلانٌ، فعملتُ مثل ما يعملُ»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
وكذلك من آتاه الله مالًا وتصدق به آناء الليل والنهار، فهو المحسود عليه، ومن لم يتصدق به وشح عليه؛ فلا ينبغي حسده عليه؛ لما يُجتنى من سوء عاقبته، وحسابه عليه. شرح صحيح البخاري (10/ 264).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنه يجوز أن يكون قوله: «لا حسد» نهيًا عن الحسد على الإطلاق، ويكون قوله: «إلا» بمعنى لكن؛ كما قال الله -عز وجل-: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} الغاشية: 23، يعني: لكن من تولى وكفر، فيكون المراد: لكن النعمة في اثنتين. الإفصاح (4/ 46).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث من الفقه: أنه من شرف هاتين الخُلَّتين أُتيح فيهما ما هو محظور في غيرهما، وذلك أن من آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق فقد أهلك الْمُهْلَك للناس... فلا لوم على من حسده؛ لأنه لما أهلك هذا الشخص الشيء الْمُهْلَك للناس وهو المال، وجاء بالشيء المنجي للعموم من الهلكة وهو الحكمة، كان نطق الحسد المذموم منقلبًا في حق ذلك الحاسد مباحًا؛ لأن الحاسد إنما يُذَمُّ على كونه كان يَحْسَد على ما يهلكه؛ فإذا حسد على ما يهلك المهلك وينجي الهلكى زال المعنى الذي وضع نطق الحسد له فلم يُلَمْ. الإفصاح (2/ 44).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فكأنَّ هذين الأمرين لِعِظَمِ الغبطة فيهما بولغ في شأنهما حتى نُفِيَتِ الغبطة عما سواهما؛ كأن الغبطة في غيرهما ليست غبطة بالنسبة لعظم الغبطة فيهما -والله أعلم-. طرح التثريب (4/ 74).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فينبغي ألا يُغبط أحد على حال هو فيه كائنًا ما كان، إلا على إحدى هاتين الخصلتين؛ لعظم نفعهما وحسن وقعهما، وإذا كان يغبط على أحدهما فجملتهما بالأولى. دليل الفالحين (4/ 528-529).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ودلت الآيات على أن من قضى بما أنزل الله فقد استحق جزيل الأجر، ألا ترى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أباح حسده ومنافسته، فدل أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما تُقِرِّب به إلى الله. شرح صحيح البخاري (8/ 213).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
(فيه) أن الغني إِذا قام بشرط المال وفعل فيه ما يرضي الله كان أفضل من الفقير. (3/ ٣٦٣).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فجعل الغنى مع الانفاق بمنزلة القرآن مع القيام به. عدة الصابرين (ص255).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استُدْرِجَتِ النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث، ولا يجهل فيمن يجهل، في جوفه كلام الله، وقال سفيان بن عيينة: من أُعْطِيَ القرآن فمدَّ عينيه إلى شيء مما صَغَّرَ القرآنُ؛ فقد خالف القرآن، ألم يسمع قوله -عز وجل-: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} الحجر:87 الآية، قال: يعني: القرآن. شرح صحيح البخاري (10/٢٦٤).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
والحديث دليل على تحريم الحسد، وأنه من الكبائر. سبل السلام (4/٦٥٦).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
ويؤخذ من الروايات الثلاث الأول:
1 - فضل قراءة القرآن وتدبره.
2 - وفضل العمل به.
3 - وفضل تعليمه وتحفيظه وتفسيره وتدريسه.
4 - وأن ذلك أفضل من إنفاق الأموال كلها في سبيل الله، إذ ذُكِرَ أوَّلًا وسابقًا على الإنفاق.
5 - جواز الغبطة ومشروعيتها في أعمال الخير، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بباب اغتباط صاحب القرآن، أي: اغتباط الناس بصاحب القرآن، ووجَّه الحافظ ابن حجر بأنه إذا كان الحديث يرمي إلى أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أُعطِيَه من العمل بالقرآن فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى. ا. هـ؛ فالمعنى: اغتباط صاحب القرآن بالقرآن.
والحق: أن الاغتباط -كما في القاموس-: تَبَجُّح صاحب النعمة بالحال الحسنة؛ فهو سرور صاحب النعمة بها، أما الغبط فهو تمني مثل النعمة، فحق العنوان: غبط صاحب القرآن؛ ليتفق مع مدلول الحديث. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 630).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)