السبت 20 شوّال 1446 هـ | 19-04-2025 م

A a

«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، ‌فَسُلِّطَ ‌على ‌هَلَكَتِه في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يَقْضِي بها ويُعَلِّمُها».


رواه البخاري برقم: (73)، واللفظ له، ومسلم برقم: (816)، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌حَسَدَ»:
الحَسَد: أن تتمنَّى زوال نعمة المحسود إليكَ. الصحاح، الجوهري (2/ 465).

«‌فَسُلِّطَ»:
بضم السين، وحذف الهاء. كوثر المعاني الدراري، للشنقيطي (3/ 194).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
السلاطة: القهر. لسان العرب (7/ 320).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: وكله الله ووفقه. مرقاة المفاتيح (1/ 284).

«‌هَلَكَتِه»:
بفتح اللام، أي: هلاكه. الكواكب الدراري، للكرماني (2/ 43).

«الحكمة»:
الحكمة: عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويُتْقِنُها: حكيم. النهاية، لابن الأثير (1/ 419).

«يَقْضِي»:
القضاء: أصله القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء فهو قاض: إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه. النهاية، لابن الأثير (4/ 78).


شرح الحديث


قوله: «لا حسد»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا حسد» كلمة: «لا» لنفي الجنس، و«حسد» اسمه مبني على الفتح، وخبره: محذوف، أي: لا حسد جائز، أو صالح، أو نحو ذلك. عمدة القاري (2/ 57).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
قوله: «لا حسد» أي: لا رُخْصة في شيء من أنواع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله.
وقيل: إن الحسد في هذا الباب مُرخَّص فيه؛ لما يتضمنه من المصلحة في الدين...، والتأويل المستقيم: هو الأول. الميسر في شرح مصابيح السنة (1/ 99).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«لا حسد» يحتمل أن المراد: لا غِبْطةَ كما أشار إليه بالترجمة (البخاري).
قلت: ويُؤيده ما رواه البخاري في (باب: اغتباط صاحب ‌القرآن) في حديث: «وسَمِعَه جارٌ لَهُ فقال: ليتني أُوْتِيْتُ مثل ما أُوتيَ».
ويحتمل أنَّ الحسد على حقيقته، ويكون المستثنى مُخرَجًا من الحسَد الحرام كما رُخِّص في نوعٍ من الكذب، فالاستثناء على الأول من غير الجنس، وعلى الثاني منه. اللامع الصبيح (1/٣٨٠).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
ومعنى ‌الحسد ‌هنا: ‌شدة ‌الحرص ‌والرغبة من غير تمني زوالها عن صاحبها وهو المنافسة، وأطلق الحسد عليه؛ لأنهما سببه، وسماه البخاري اغتباطًا؛ لأن من أوتي مثل هذا ينبغي أن يُغبط به وينافس فيه، قَالَ تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء: 32. (3/٣٦٢).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
«لا ‌حسد ‌إلا ‌في ‌اثنتين...» يعني: أنه لا ينبغي لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنى مثلها إلا أحد هذين؛ وذلك لما فيهما من النفع العام والإحسان المتعدي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه، وهذا ينفعهم بماله. «والخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله»، ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما. طريق الهجرتين (2/ 789-790).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن المنير: المراد بالحسد هنا: الغبطة، وليس المراد بالنفي: حقيقته، وإلا لزم الخُلْفُ؛ لأن الناس حسِدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما؛ فليس هو خبرًا، وإنما المراد به: الحكم، ومعناه: حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين، فكأنه قال: هما آكد القربات التي يغبط بها، وليس المراد: نفي أصل الغبطة مما سواهما؛ فيكون من مجاز التخصيص، أي: لا غبطة كاملة التأكيد لتأكيد أجر متَعَلّقِها إلا الغبطة بهاتين الخصلتين. فتح الباري (13/ 120-121).

قوله: «إلا في اثنتين»:
قال البرماوي -رحمه الله-:
«في اثنين» أي: في شأن، وإلا فالأصل: على اثنين. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (13/ 128).
وقال ابن حجر رحمه الله-:
قوله: «إلا في اثنتين» كذا في معظم الروايات: «اثنتين» بتاء التأنيث، أي: لا حسد مَحمود في شيء إلا في خصلتين. النكت على صحيح البخاري (2/ 121).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«إلا في اثنتين» من الخصال؛ لشرفها ففيها يتنافس المتنافسون. دليل الفالحين (7/ 171).
وقال ابن حجر رحمه الله-:
ووجه الحصر: أن الطاعات إما بدنية، أو مالية، أو كائنة عنهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها، وإلى المالية بإيتاء المال والتسلط على هلاكه في الحق، وليس في الحديث ذكر الثالثة الكائنة عنهما. النكت على صحيح البخاري (2/ 121).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: كل خير يتمنى مثله شرعًا فما وجه حصر التمني في هاتين الخصلتين؟
أجاب ابن المنير: الحصر هنا غير مراد، إنما المراد: مقابلة ما في الطباع بضده؛ لأن الطباع تحسد على جمع المال وتُذَمُّ ببذله؛ فبين أن الشرع عكس الطبع، فكأنه قال: لا حسد إلا فيما تُذَمُّوْنَ عليه، ولا مذمة إلا فيما تُحْسَدُون عليه، ووجه المؤاخاة بين الخصلتين: أن المال يزيد بالإنفاق ولا ينقص؛ لقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} البقرة: 276، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما نقص مال من صدقة»، والعلم يزيد أيضًا بالإنفاق منه، وهو التعليم؛ فتواخيا. إرشاد الساري (3/ 14).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فكأنَّ هذين الأمرين لِعِظَمِ الغبطة فيهما بولغ في شأنهما؛ حتى نُفِيَتِ الغبطة عما سواهما؛ كأن الغبطة في غيرهما ليست غبطة بالنسبة لعظم الغبطة فيهما -والله أعلم-. طرح التثريب (4/ 74).
وقال البغوي -رحمه الله-:
ومعنى الحديث: التحريض والترغيب في التصدُّق بالمال، وتعلُّم العلم.
وقيل: إن فيه تخصيصًا لإباحة نوع من الحسد، وإن كانت جملته محظورة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب، ويصلح بين اثنين، ويحدِّث أهله».
وقيل: «لا حسد إلا في اثنين»، أي: لا يضر الحسد إلا في اثنين، وهو أن يتمنى زوالهما عن أخيه، فيضرُّه، والأول أولى. شرح السنة (1/ 299).
وقال الطيبي -رحمه الله- متعقبًا:
أقول: أثبت الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين، يعني: ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم؛ فينبغي أن لا يتحرَّى ويجتهد في تحصيلها، فكيف بالطريق المحمود؟
بل أقول: هو الطريق المحمود لذاته، والمأمور في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} البقرة: 148، والْمُرَغَّب فيه بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} الواقعة: 10...
وهو الحسد المباح، وكيف لا؟ وكل واحدة من هاتيك الخصلتين بلغت غاية لا أمد فوقها، ولو اجتمعتا في امرئ بلغ من العلياء كل مكان. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 662-663).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
والنفي في الحديث نفي انبغاء، وليس نفي وقوع، فهو واقع في عالمنا كثيرًا في غير الاثنتين، فالمعنى: لا ينبغي ولا يشرع ولا يحمد الحسد إلا في اثنتين. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 628).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقيٌّ ومجازيٌّ، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي: فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما. شرح صحيح مسلم (6/ 97).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
الحسد ها هنا معناه: شدة الحرص والرغبة، كَنَّى بالحسد عنهما لأنهما سبب الحسد والداعي له، ونفس الحسد محرم محظور...
ومعنى الحديث: التحريض والترغيب في تعلُّم العلم والتصدُّق بالمال، وقد قيل: إن هذا إنما هو تخصيص لإباحة نوع من الحسد، وإخراج له عن جملة ما حُظِرَ منه...، ومعنى قوله: لا حسد، أي: لا إباحة لشيء من نوع الحسد إلا فيما كان هذا سبيله. أعلام الحديث (1/ 195-196).
وقال السندي -رحمه الله-:
والمراد: أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة، وإنما تنبغي في الأمور الجليلة الدقيقة؛ كالجود والعلم مع العمل. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (2/ 552).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الفرق بين الحسد والمنافسة: أن المنافسة: المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك؛ فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه، فهو من شرف النفس، وعلو الهمة، وكبر القدر، وطلب المعالي، والحسد: خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة، ليس فيها حرص على الخير ولا همة عليه، فَلِعَجْزِها ودناءتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، فتمني أنه لو فاته كسبها حتى يساويها في عدم الهمة في كسب الخير، ومراد الحديث: لا غبطة إلا في هاتين الخصلتين، فعبّر بالحسد عن الغبطة اتساعًا في ذلك لتقاربهما. التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 633-634).
وقال الطوفي -رحمه الله-:
ووجه قبح الحسد: أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له، حيث ينعم على زيد فيكره عمرو إنعامه عليه، ثم يحاول نقض فعله وإزالة فضله. التعيين في شرح الأربعين (1/ 294-296).

قوله: «رجل آتاه الله مالًا»:
قال العكبري -رحمه الله-:
يجوز الجر في «رجل» على أن يكون بدلًا من «اثنتين» أي: خصلة رجلين، وعلى النصب بإضمار: أعني، والرفع على أن التقدير: إحداهما: خصلة رجل، لا بد من تقدير الخصلة؛ لأنّ «اثنتين» هما خصلتان. إتحاف الحثيث (ص:172-173).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«آتاه» بالمد، أي: أعطاه. دليل الفالحين (7/ 171).
وقال العراقي -رحمه الله-:
لا يخفى أن ذكر الرجل خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فالمرأة كذلك. طرح التثريب (4/ 74).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «آتاه الله مالًا» جملة من الفعل والفاعل، والمفعولين: أحدهما: الضمير المنصوب، والآخر: مالًا، وهي في محل الرفع أو الجر أو النصب على تقدير إعراب الرجل؛ لأنها وقعت صفته. عمدة القاري شرح صحيح البخاري (2/ 57).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«مالًا» نكرة تفيد الشيوع، فيقع على القليل والكثير، وعلى أيّ ممول، تجارة، وزراعة، وصناعة، أقواتًا وغير أقوات. المنهل الحديث في شرح الحديث (4/ 11).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«مالاً» التنوين فيه يحتمل أن يكون للتعظيم، وأن يكون لغيره. دليل الفالحين (7/ 171).

قوله: «‌فسلط ‌على ‌هلكته في الحق»:
قال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «فسلط» بضم السين وحذف الهاء، لأبي ذر، وللباقين: «فسلطه» بالهاء، وعبَّر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح. كوثر المعاني الدراري (3/ 194).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«على هلكته» أي: إتلاف عينه بإبقائه عند الله بإنفاقه لوجهه ومرضاته. دليل الفالحين(4/ 564).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «على هلكته» فيه مبالغتان: إحداهما: التسليط، فإنه يدل على الغلبة، وقهر النفس المجبولة على الشُّحِّ البالغ.
ثانيتهما: قوله: «على هلكته» فإنه يدل على أنه لا يبقى من المال باقيًا، فلما أوهم القرينتان للإسراف والتبذير المقول فيهما: لا خير في السرف- كمَّله بقوله: «في الحق»، كما قيل: لا سرف في الخير. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 663).
وقال النووي -رحمه الله-:
«في الحق» أي: إنفاقه في الطاعات. شرح صحيح مسلم (6/ 98).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«في الحق» قُيِّدَ به؛ لأن الإنفاق في الحق دون الباطل. شرح المصابيح (1/ 192).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في الحق» ليزيل الإسراف المذموم، والرياء الملوم، ولا سرف في الخير كما لا خير في السرف. مرقاة المفاتيح (1/ 285).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«في الحق» فيه تصريح بوجه الإنفاق؛ للاحتراز عن الإنفاق في الحرام وعن التبذير. فتح المنعم شرح صحيح مسلم (3/ 629).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
والحق هنا: واحد الحقوق، وهو يستعمل في المندوب كما يستعمل في الواجب، ومنه الحديث، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في المال حقًّا سوى الزكاة». فتح القريب المجيب (1/ 678).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قَيَّدهُ بالحق إخراجًا لما يُنْفَقُ رياء، أو في المعاصي، وعبَّر بالتسليط: إشارة إلى أنه بتوفيق الله تعالى؛ لأنه خلاف هوى النفس...، ونُكِّر المال لتنوُّعِهِ وصدقه على كل صنف. الكوثر الجاري (1/ 171).

قوله: «ورجل آتاه الله الحكمة»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«آتاه الله الحكمة»: العلم النافع. دليل الفالحين (7/ 171).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«حكمة» أي: علم أحكام الدين، وقيل: أي: إصابة الحق بالعلم والفعل. شرح المصابيح (1/ 192).
وقال النووي -رحمه الله-:
الحكمة: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. شرح صحيح مسلم (6/ 98).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
لفظ: «الحكمة» إشارة إلى الكمال العلمي، ويقضي إلى الكمال العملي، وبكليهما إلى التكميل، واعلم أن الفضيلة إما داخلية وإما خارجية، وأصل الفضائل الداخلية: العلم، وأصل الفضائل الخارجية: المال، ثم الفضائل إما تامَّة وإما فوق التامَّة، والأخرى أفضل من الأولى؛ لأنها مكملة متعدية، وهذه قاصرة غير متعدية. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (2/ 43).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
الحكمة المراد بها: القرآن -والله أعلم-، كما جاء في حديث أبي هريرة: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه»، وفي رواية: «ينفقه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل»، وفي مسلم نحوه من حديث ابن عمر. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (3/ 362-363).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
أي: القرآن والسنة. منحة الباري بشرح صحيح البخاري (3/ 497).
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير -حفظه الله-:
الحكمة إذا اقترنت مع القرآن، فالمراد بها: السنة، وإذا تفرَّدت: شملت ما جاء في الكتاب والسنة، يعني: رجلاً آتاه الله علمًا شرعيًا مستَمدًا من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، استفاد من هذا العلم في نفسه، وأفاد غيره، علَّمه الناس، وقضى بينهم، فقد تعلم، ثم عمل، ثم علَّم، وبهذا استحق أن يكون ربَّانيًّا إذا كان مخلصًا لله -جل وعلا-، هذا الذي يستحق أن يُحْسَد، هذا الذي يستحق أن يغبط. شرح جوامع الأخبار (10/ 3).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
اشتملت على مبالغات: إحداها: «الحكمة» فإنها تدل على علم دقيق مع إتقان في العمل.
وثانيتها: «يقضي» أي: يقضي بين الناس، وهي مرتبته -صلى الله عليه وسلم-.
وثالثتها: «يعلمها» وهي أيضًا من مرتبة سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 663).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتَ: لم نَكَّر مالًا وعَرَّف الحكمة؟
قلتُ: لأن الحكمة المراد منها: معرفة الأشياء التي جاء الشرع بها، أي: الشريعة، فأراد التعريف بلام العهد، بخلاف المال؛ ولهذا يدخل صاحبه بأي قدر من المال أهلكه في الحق تحت هذا الحكم. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (2/ 43).

قوله: «فهو يقضي بها»:
قال النووي -رحمه الله-:
«فهو يقضي بها ويعلمها»، معناه: يعمل بها ويعلمها احتسابًا. شرح صحيح مسلم (6/ 98).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«فهو يقضي بها» أي: يعمل بها، ويحكم بها بين الناس بالحق ويعمل. المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 303).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«فهو يقضي بها» أي: يحكم بالحكمة التي أوتيها. شرح المصابيح (1/ 192).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«فهو يقضي بها» أي: يفصل بين المترافعين إليه، إن كان قاضيًا، أو المستفتين، إن كان مفتيًا. دليل الفالحين (7/ 171).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
«يقضي بها» أي: أموره وأمور غيره، ثم إنه يُعَلِّمها الناس ليبقى له بعده؛ فيُدِرّ عليه ثوابها إلى يوم القيامة. الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 44).

قوله: «ويعلمها»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
«ويعلمها» أي: الناس، وحذفه ليعم كل متعلم. دليل الفالحين (7/ 171-172).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ويعلمها» أي: يبذلها تعليمًا للعباد، وإبلاغًا للحجة. التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/ 635).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«ويعلمها» إشارة إلى ثمرة العلم التي هي بمنزلة إنفاق المال. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (1/ 171).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: أنه يجوز أن يكون قوله: «لا حسد» نهيًا عن الحسد على الإطلاق؛ ويكون قوله: «إلا» بمعنى: لكن، كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} الغاشية: 23، يعني: لكن من تولى وكفر، فيكون المراد: لكن النعمة في اثنتين. الإفصاح (4/46).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث من الفقه: أنه من شرف هاتين الخلَّتين أُتِيح فيهما ما هو محظور في غيرهما، وذلك أن من آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق فقد أهلك الْمُهْلَك للناس، ومن أُوْتِيَ حكمة فقضى بها وعلَّمها فإنه قد رُزِقَ من التوفيق أن لا يَشحَّ بما آتاه من فضله.
فلا لَوْمَ على من حسده؛ لأنه لما أهلك هذا الشخص الشيء الْمُهلَك للناس وهو المال، وجاء بالشيء المنجي للعموم من الهلكة وهو الحكمة، كان نطق الحسد المذموم منقلبًا في حق ذلك الحاسد مباحًا؛ لأن الحاسد إنما يُذَمُّ على كونه كان يحسد على ما يهلكه، فإذا حسد على ما يهلك المهلك وينجي الهلكى زال المعنى الذي وُضع نطق الحسد له فلم يُلَمْ. الإفصاح (2/ 44).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فيه من الفقه: أن الغني إذا قام بشروط المال، وفعل فيه ما يرضي الله، فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل حاله. شرح صحيح البخاري (1/ 158).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
في أحكامه:
أولها: حرمة الحسد، وهو إجماع وهو المذموم، وأما المباح وهو الاغتباط فمحمود، فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فكرهتها وأحببت زوالها فحرام، قال بعضهم: إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر أو من يستعين بها على فتنة وإفساد.
ثانيها: تمني الطاعات. التوضيح لشرح الجامع الصحيح، باختصار (3/ 363).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
فيه: أن شكر المال: إنفاقه في وجوه الطاعات؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى، وأن شكر العلم: العمل به وتعليمه. دليل الفالحين (4/ 564).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
في الحديث: ترغيب على التصدق بالمال وتعليم العلم. شرح المصابيح (1/ 192).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا