«يُقِيمُ المهاجِرُ بمكةَ بعدَ قضاءِ نُسُكِهِ ثلاثًا».
رواه البخاري برقم: (3933)، ومسلم برقم: (1352) واللفظ له، من حديث العلاء بن الحضرمي -رضي الله عنه-.
وفي لفظٍ لهما: «...بعدَ الصَّدَرِ».
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«قَضَاء»:
أي: أداءً. الفيض الجاري، للعجلوني (11/437).
«نُسُكِهِ»:
أي: حجّه وعُمرته. فيض القدير، للمناوي (6/ 205).
«بعدَ الصَّدَرِ»:
بفتح المهملتين، أي: بعد الرجوع مِن مِنَى. فتح الباري، لابن حجر (7/ 267).
والصَّدَرُ: الرجوع بعد الورود، يقال: صَدَرَ القوم عن المكان: أي رجعوا عنه. كشف المشكل، لابن الجوزي (4/ 77).
وقال ابن الأثير رحمه الله-:
الصَّدَر: بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده...، ومنه الحديث: «للمهاجر إقامة ثلاثٍ بعد الصَّدَر» يعني: بمكة بعد أنْ يقضي نُسكه. النهاية (3/ 15).
شرح الحديث
قوله: «يُقِيمُ المهاجِرُ بمكةَ»:
قال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «المهاجر» أي: الذي هاجر من مكة إلى المدينة قبل الفتح. منة المنعم (2/ 343).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «يقيم المهاجر بمكة» إذا دخلها بحج أو عمرة. الكوكب الوهاج (15/ 61-62).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
أُبيح لهم (المهاجرين قبل الفتح) إذا وصلوا مكة بحجٍّ أو عمرةٍ، أو غيرهما من الأمور المرخَّص لهم بها، كتجارة وزيارة أنْ يقيموا بعد فراغهم من مهمتهم ثلاثة أيام، لا يزيدون عليها، ويرحلون عنها امتدادًا لرحيلهم الأول؛ ليكتب لهم ثواب هذا الرحيل مدى الحياة، وهو ثواب لا يدانيه ثواب. فتح المنعم (5/ 419).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأوَّلين، ولا معنى لتقييده بالأوَّلين. فتح الباري (7/ 267).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
المهاجر هنا: يعني به كل من هاجر من مكة إلى المدينة؛ لنصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعني به من هاجر من غيرها؛ لأن هذا الحديث خرج جوابًا عن سؤالهم حين تحرَّجوا من المقام بمكة؛ إذ كانوا تركوها لله تعالى، فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ورأى أنَّ إقامة الثلاث ليست بإقامة، وقد تقدَّم احتجاج مالك بهذا على تحديد المدة الفاصلة بين الإقامة والسَّفر، وبهذا الحديث قال الجمهور، فحكموا بمنع المهاجِر من أهل مكة من المقام بها بعد الفتح، وأجاز ذلك لهم جماعة بعد الفتح. المفهم (3/ 467).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فقه هذا الحديث: أنَّ الإقامة بمكة كانت حرامًا على مَن هاجر منها قبل الفتح، لكن أُبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نُسكه ثلاثة أيام، لا يزيد عليها؛ ولهذا رثى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة أن مات بمكة. فتح الباري (7/ 267).
وقال الباجي -رحمه الله- مُعلِّقًا على أَثَر سعد بن خولة:
هذا يقتضي أنَّ لموت المهاجر بمكة تأثيرًا في هجرته، وثَلمًا لها، إما أنْ يكون ذلك لمن اختار المقام بمكة، وإما أن يكون لمن مات بها على أي وجه كان، وتعلُّق ذلك بالاختيار أظهر، والله أعلم وأحكم، على أنه قلَّ مَن مات بمكة من المهاجرين، ولعله قد أُجيبت فيهم دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم». المنتقى شرح الموطأ (6/ 160).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وبهذا الحديث قال الجمهور، فحكموا بمنع المهاجر من أهل مكة من المقام بها بعد الفتح، وأجاز ذلك لهم جماعة بعد الفتح.
قلتُ: وهذا الخلاف وإنْ كان فيمَن مضى حُكمهم، وانقرض عصرهم، وهجرتهم الخاصة بهم، لكن يُبنى عليه خلاف فيمن فرَّ بدِينه عن موضع ما، يخاف فتنته، وترك فيه رِبَاعًا (بكسر الراء، وهي الدُّور) ثم ارتفعت تلك الفتنة؛ فهل يرجع لتلك الرِّباع أم لا؟ فنقول: إنْ كان تَرَكَ رِباعه لوجه الله تعالى كما فعله المهاجرون فلا يرجع لشيء من ذلك، وإنْ كان إنما فرَّ بدِينه ليَسْلمَ له، ولم يخرج عن شيء من أملاكه، فإنه يرجع إلى ذلك كله؛ إذ لم يزُل شيء من ذلك عن ملكه، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 467).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وهو حسنٌ متَّجهٌ، إلا أنَّه خَصَّ ذلك بمن ترك رِباعًا أو دُورًا، ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم. فتح الباري (7/ 267).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه لله- مُتعقِّبًا القرطبي أيضًا:
عندي فيما قاله القرطبي نظران:
أما أولًا: ففي تعميمه المنع لكل مَن فرَّ بدِينه؛ لأن ذلك يحتاج إلى دليل مِن نصٍّ أو إجماع.
وأما ثانيًا: ففي تفريقه بين مَن فرَّ بدِينه، ومَن ترك بلده للَّه، فإنه لا فرق بينهما في الحقيقة، كما هو ظاهر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 372).
قوله: «بعدَ قضاءِ نُسُكِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «بعد قضاء نُسكه» أي: بعد فراغه من أعمال الحج. البحر المحيط الثجاج (24/ 417).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بعد قضاء نسكه» أي: من حجٍ أو عمرةٍ. فتح الباري (7/ 267).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله: «بعد قضاء نُسكه» أي: بعد رجوعه من منى، كما قال في الرواية الأخرى: «بعد الصَّدَر» أي: الصَّدَر من منى، وهذا كله قبل طواف الوداع. شرح مسلم (9/ 122).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «بعد قضاء نُسكه» وهو وقت صدر الناس آخر أيام منى، بعد تمام نُسكهم، فيقيم هو بعدهم لحاجة، لا أنَّه يقيم بعد أنْ يطوف طواف الصَّدَر ثلاثة أيام، ويجزئه ما تقدَّم من طوافه، بل يعيده عند كافتهم، إلا ما ذكرناه عن أهل الرأي. إكمال المعلم (4/ 241).
قوله في لفظٍ لهما: «بعدَ الصَّدَر»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «بعد الصَّدَر» بفتح الصاد والدال، أي: بعد انصرافهم من منى، وكمال نسكها. شرح سنن أبي داود (9/ 196).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قوله: «بعد الصَّدَر» بفتح الدال: اليوم الثالث من أيام التشريق، سُمِّيَ بذلك؛ لأن الناس يَصْدُرون فيه. الكوثر الجاري (7/ 109).
وقال العجلوني -رحمه الله-:
قوله: «بعد الصَّدَر» بفتح الصاد والدال المهملتين، أي: طوافه، وهو طواف الركن (أي: الإفاضة هكذا قال، والصواب طواف الوداع) الواقع بعد الرجوع من منى. الفيض الجاري (11/438).
قوله: «ثلاثًا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثًا» أي: ثلاثة أيام بلياليها، وذَكَّر العدد؛ لكون التمييز محذوفًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 371).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثًا» من الليالي، فلا يزيد عليها. الكوكب الوهاج (15/ 61).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثًا» أي: ثلاثة أيام، ولا يزيد على الثلاثة، وهذِه الإقامة قبل طواف الوداع، فإنَّ طواف الوداع لا إقامة بعده.
وأما غير المهاجر للنُّصرة فيجوز له سُكنى مكة وغيرها متى شاء؛ لأن هذا الحديث خرج جوابًا عن سؤالهم حين تحرَّجوا عن المقام بمكة؛ إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ورأى أن إقامة الثلاث ليست بإقامة. شرح سنن أبي داود (9/ 196).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «ثلاثًا» أي: يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه، ولا يجوز له الزيادة عليها؛ لأنها بلدة تَرَكَها الله تعالى، فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة؛ لأنه يُشبه العَوْدَ إلى ما تركه لله تعالى. تحفة الأحوذي (4/ 19).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
إنَّما رخص فيها ثلاثًا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما تُرك لله فإنه لا يُعاد فيه، ولا يُسترجع؛ ولهذا منع النبي -صلى الله عليه وسلم- من شراء المتصدِّق لصدقته. زاد المعاد (1/ 452).
وقال الزرقاني -رحمه الله-:
أرخص للمهاجر أنْ يُقيم بمكة بعد قضاء نُسكه ثلاثًا، أي: لقضاء حاجته. شرحه على الموطأ (2/ 404).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
فقه هذا الحديث: أنَّ الإقامة بمكة كانت حرامًا على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أُبيح لمن قصدها منهم بحجٍ أو عمرةٍ أنْ يُقيم بعد قضاء نُسكه ثلاثة أيام، لا يزيد عليها؛ ولهذا رَثَى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة أن مات بمكة، ويُستنبط من ذلك أنَّ إقامة ثلاثة أيام لا تُخرج صاحبها عن حكم المسافر. فتح الباري (7/ 267).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وهذا الحديث حُجة لمن منع المهاجر بعد الفتح من المقام بمكة، وهو قول الجمهور، وأجاز ذلك جماعة لهم بعد الفتح، مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح، ووجوب سُكنى المدينة؛ لنصرة النبي -عليه السلام-، ومواساتهم له بأنفسهم، ولفرارهم بدِينهم من الفتنة.
وأما لغير المهاجر، ممن أمن بعد ذلك، فلا خلاف في جواز سكنى بلده له، مكة أو غيرها. إكمال المعلم (4/ 467).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
ويُستثنى من ذلك مَن أذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإقامة في غير المدينة. فتح الباري (7/ 267).
وقال النووي -رحمه الله-:
واستدل أصحابنا (الشافعية) وغيرهم بهذا الحديث على أنَّ إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة، بل صاحبها في حكم المسافر، قالوا: فإذا نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول، ويوم الخروج، جاز له الترخُّص برُخَص السفر، من القَصْرِ والفطر وغيرهما من رخصه، ولا يصير له حكم المقيم. شرح مسلم (9/ 122).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
هذا الاستدلال عندي غير صحيح؛ لأنه يردُّه ما فعله النبي -صلى اللَّه تعالى عليه وسلم- مع أصحابه -رضي اللَّه عنهم-، حيث أقاموا أربعة أيام بمكة، وقد عزموا قبل ذلك على إقامة تلك المدة؛ لأنهم يعلمون أنَّ أفعال الحج لا تنتهي إلا بهذا القدر من الزمن، فدلَّ على أنَّ الأربعة لها حكم السفر، فلذا تقدم ترجيح ما ذهب إليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى-، فكل من أقام مدة إقامة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة، وهي أربعة أيام قَصَرَ، ومن زاد أتمَّ، واللَّه تعالى أعلم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (16/ 372-373).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
احتج لمالك والشافعي مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طريق العلاء بن الحضرمي أنه -عليه السلام- قال: «يمكث المهاجر بعد انقضاء نُسكه ثلاثًا»، قالوا: فكَرِهَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم، فأُخْرِجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم -عز وجل- غرباء عن أوطانهم لوجهه -عز وجل-، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثًا بعد تمام النُّسك، قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلًا في الإقامة المكروهة.
(و) ما نعلم لهم حُجة غير هذا أصلًا، وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا الخبر نصٌّ ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتمَّ، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أنْ يُقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم؟! هذا لو كان القياس حقًّا، وكيف وكُلّه باطل؟
وأيضًا: فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثًا وأكثر من ثلاث، لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نُسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامةٍ مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟!
وأيضًا: فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرًا لا مقيمًا، وما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث، لا أن يتم، بخلاف قولهم.
وأيضًا: فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر: أن يتم، ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام. المحلى بالآثار (3/ 218-219).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا أيضًا هذا الاستدلال:
ولا يخفى ما في مأخذ الاستدلال من الخفاء، والله أعلم. مرقاة المفاتيح (3/ 1000).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
اعلم أنَّه كان يُكره للمهاجر من مكة أنْ يَعُود فيقيم بها؛ لأنه كالرجوع فيما ترك، ورَثَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن خولة لكونه مات بمكة، فجعل للمهاجر أن يقيم بعد النُّسك ثلاثًا ثم يخرج؛ لتتحقق هجرته.
وقد كان جماعة من الصحابة يرون أنَّ هذا كان في بداية الإسلام، فلما صارت دار إسلام، واستقرت القواعد، كان ابن عمر وجابر يجاوران بها، وقد توطَّنها خَلْقٌ كثير من الصحابة، وقد ذكرتهم في كتاب (مكة)، وعلى استحباب المجاورة بها أكثر الفقهاء، منهم أحمد بن حنبل، وقد كره المجاورة بها أبو حنيفة، وقد علل بعض أصحابه بخوف الملل، وقلة الاحترام لمداومة الأُنس بالمكان، وخوف ارتكاب الذنوب، وهذا يقابله فضل المكان، وفضل العبادة فيه. كشف المشكل (4/ 76).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قال فضيل بن مرزوق: سألت إبراهيم النخعي عن المقام والجوار بمكة، فقال: أما المهاجر فلا يقيم بها، وأما غيره فإنما كره له المقام بمكة خشية أن يَكْثُرَ الناس بها، فتَغْلُوا أسعار أهلها. الاستذكار 463 (23/ 42).
وقال النووي -رحمه الله-:
وفي هذا: دلالة لأصح الوجهين عند أصحابنا (الشافعية) أنَّ طواف الوداع ليس من مناسك الحج، بل هو عبادة مستقلة، أُمِرَ بها من أراد الخروج من مكة، لا أنه نُسك من مناسك الحج؛ ولهذا لا يُؤمَر به المكي، ومَن يقيم بها.
وموضع الدلالة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بعد قضاء نُسكه» والمراد: قبل طواف الوداع، كما ذكرنا؛ فإن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، فسماه قبله قاضيًا لمناسكه، والله أعلم. شرح مسلم (9/ 122).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
ووجه الدلالة: أنَّ طواف الوداع يكون عند الرجوع، فسماه قبْله: قاضيًا للمناسك، وحقيقته: أنْ يكون قضاها كلها، والله أعلم. روضة الطالبين (3/ 117).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
القول بأنه (طواف الوداع) من مناسك الحج قول قوي؛ فإنَّ الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أمر به الحُجَّاج دون غيرهم من المعتمرين أو المقيمين، ولم يرد أنه أمر به أمرًا مطلقًا، فدل على أنه نُسُك مختص بالحاج، ولا يلزم على القول بأنه من المناسك أنه يجب على المكي أو من أقام، بدليل أنَّ طواف القدوم من المناسك، وهو لا يُشرع لمن أحرم من مكة، فدل على أنَّ هذه الملازمة غير لازمة، ومما يؤيد ذلك: عموم قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لتأخذوا مناسككم»؛ فإنه يفيد أنَّ ما أمر به الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في هذه الحجة فهو مناسكها.
وأما حديث العلاء فلا دلالة فيه؛ لأن المراد به قضاء المناسك المؤقتة بوقت معين كالوقوف والمبيت والرمي، أو يحمل على قضاء نسكه، ومنها طواف الوداع. منحة العلام (5/276).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما بوَّب له المصنف -رحمه اللَّه تعالى- (النسائي) وهو بيان مدة الإقامة التي تُقصر فيها الصلاة، وهذا الذي ذهب إليه -رحمه اللَّه تعالى- هو مذهب الشافعي ومالك -رحمهما اللَّه تعالى-، ووجه الدلالة منه: أنَّ الترخيص في الثلاث يدلُّ على بقاء حكم السفر، بخلاف الأربعة، فالأربع حدُّ الإقامة، وما دونه حد السفر، فتُقصر الصلاة فيه.
ومنها: أنَّ الإقامة بمكة كانت حرامًا على مَن هاجر منها قبل الفتح، لكن أُبيح لِمَن قصدها منهم بحج أو عمرة أن يقيم بعد قضاء نُسكه ثلاثة أيام، لا يزيد عليها...، وما ادعاه الداوديّ من اختصاص ذلك بالمهاجرين الأوَّلين ردَّه في الفتح بأنه لا معنى لتقييده بالأولين.
ومنها: أنَّه استُدلَّ به على أنَّ طواف الوداع عبادة مستقلة، ليست من مناسك الحجّ، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعي؛ لقوله في هذا الحديث: «بعد قضاء نُسكه»؛ لأن طواف الوداع لا إقامة بعده، ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف الوداع، وقد سماه قبله قاضيًا لمناسكه، فخرج طواف الوداع عن أن يكون من مناسك الحج. ذخيرة العقبى (16/372- 373).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: بيان ما يجوز للمهاجر أنْ يُقيمه بمكة بعد قضاء نُسكه، وهو مدة ثلاث ليال. البحر المحيط الثجاج (24/ 416).