عن أبي قلابة، عن أبي المليح قال: «كنَّا مع بُرَيْدَةَ في غزوة في يومٍ ذي غَيْمٍ فقال: بَكِّرُوا بصلاةِ العصر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مَنْ تَرَكَ صلاةَ العصرِ فقدْ حَبِطَ عَمَلُهُ».
رواه البخاري برقم: (553)، وأحمد برقم: (23045)، وزاد: «متعمدًا»، من حديث بريدة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«ذي غَيْمٍ»:
الغَيْمُ: السَّحَاب، الواحدة غَيْمَةٌ، وهو مصدر في الأصل مِن غَامَتِ السماء من باب سار، إذا أَطْبَقَ بها السَّحاب. المصباح المنير، للفيومي(2/ 460).
«حَبِطَ»:
أي: بَطَلَ، حَبَطًا. قال الله تعالى: (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ). شمس العلوم، نشوان الحميري(4/١٣٢٤).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
حَبِطَ عملُهُ حَبْطاً بالتسكين، وحُبوطاً: بطَلَ ثوابه.الصحاح(3/١١١٨)
شرح الحديث
قوله: «كنا مع بُريدة في غزوة في يومٍ ذي غَيْمٍ»:
قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «في يومٍ ذي غيمٍ»، «ذي غيم» صفة لـ(يوم)، والغيم: السحاب. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية(4/ 1064).
قوله: «فقال: بكِّرُوا بصلاة العصر»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«فقال» بريدة بعد معرفته بدخول الوقت بظهور الشمس في خلال الغيم، أو بالاجتهاد بوردٍ أو نحوه «بكِّروا». إرشاد الساري(1/ 495).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «بكِّروا» أي: عجِّلُوا، والتبكير يُطلق لكل من بادَرَ بأي شيء كان في أي وقت كان، وأصله: المبادرة بالشيء أول النهار. فتح الباري (2/ 32).
وقال ابن حجر -رحمه الله- أيضًا:
وأصل التبكير فعل الشيء بُكْرَةً، والبُكْرَةُ أول النهار، ثم استُعمل في فعل الشيء في أول وقته، وقيل: المراد تعجيل العصر وجمعها مع الظهر، ورُوي ذلك عن عمر قال: "إذا كان يوم غيمٍ فأخِّروا الظهر، وعجِّلوا العصر". فتح الباري (2/ 66).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«بَكِّرُوا في الصلاة في يوم الغيم» أي: حافظوا عليها، وقدِّموها فيه؛ لئلا يخرج الوقت وأنتم لا تشعرون، وإخراج الصلاة عن وقتها عظيم الجُرم جدًّا لا سيما العصر. فيض القدير (3/ 206).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قال الطبري: فإن قيل: ما معنى قوله: «بَكِّروا بصلاة العصر في يوم الغيم» ولا سبيل إلى معرفة أوقات النهار؛ لارتفاع الأدلة على ذلك بالغيم الساتر عين الشمس؟
قال: ذلك أمر منه -عليه السلام- بالبكور بها على التحري، والأغلب عند المتحري، لا على إحاطة نفس العلم بإصابة أول وقتها؛ لأن أوقات الصلوات لا تُدرك في يوم الغيم إلا بالتحري والعلم الظاهر. شرح صحيح البخاري (2/ 177).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قيل: خصَّ يوم الغيم بذلك؛ لأنه مظنة التأخير، إما لمتنطِّع يحتاط لدخول الوقت فيُبالغ في التأخير حتى يخرج الوقت، أو لمتشاغلٍ بأمر آخر فيَظُن بقاء الوقت فيسترسل في شغله إلى أن يخرج الوقت. فتح الباري (2/ 32).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
قال أبو حنيفة: يُستحب في يوم الغيم في الفجر والظهر والمغرب تأخيرهما، وفي العصر والعشاء تقديمهما، أما العصر فلئلا يقع في وقت الكراهة، وأما العشاء فلئلا تقلَّ الجماعة باعتبار المطر. الكوثر الجاري (2/ 255).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
القول بالتبكير لجميع الصلوات في يوم الغيم مما لا يُعرَف به قائل من العلماء، ولم يُرد بُرَيدة ذلك، إنَّما أراد صلاة العصر خاصة، ولا يقتضي القياس ذلك؛ فإنَّ التبكير بالصلوات في الغيم مطلقًا يُخشى منه وقوع الصلاة قبل الوقت، وهو محذور، والأفضل أنْ لا يصلي الصلاة حتى يتيقَّن دخول وقتها، فإنْ غلب على ظنه، فهل يجوز له الصلاة حينئذٍ أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنَّه جائز، وهو قول الثوري والشافعي وأكثر أصحابنا.
والثاني: لا يجوز حتى يتيقن، وهو وجه لأصحابنا، وأصحاب الشافعي...،
وقد اختلف العلماء في الصلاة في يوم الغيم:
فقال الشافعي: ويحتاط ويتوخَّى أن يصلي بعد الوقت، أو يحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف خروج الوقت، وقال إسحاق نحوه، ولا يستحب عند الشافعي التأخير في الغيم مع تحقق دخول الوقت إلا في حال يستحب التأخير في الصحو كشدة الحر ونحوه.
وحكى بعض أصحابنا مثل ذلك عن الخرقي، وحكاه أيضًا رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة رواية باستحباب تأخير الصلوات كلها مع الغيم.
وقالت طائفة: يؤخِّر الظهر ويعجِّل العصر، ويؤخِّر المغرب ويعجِّل العشاء مع الغيم، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأحمد وحكي أيضًا عن الحسن والأوزاعي، ونقله ابن منصور عن إسحاق...، قال أصحابنا: يستحب ذلك مع تحقق دخول الوقت.
واختلفوا في تعليل ذلك:
فمنهم من علل بالاحتياط لدخول الوقت، ولو كان الأمر كذلك لاستوت الصلوات كلها في التأخير.
ومنهم من علَّل بأن يوم الغيم يُخشى فيه وقوع المطر، ويكون فيه ريح وبرد غالبًا، فيشقُّ الخروج إلى الصلاتين المجموعتين في وقتين، فإذا أخَّر الأُولى وقدَّم الثانية خرج لهما خروجًا واحدًا، فكان ذلك أرفق به، وهذا قول القاضي أبي يعلى وأصحابه.. فتح الباري (4/ 313-316).
قوله: «فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عَمَلُهُ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «فإن النبي -صلى الله عليه وسلم¬» الفاء للتعليل، وقد استشكل معرفة تيقُّن دخول أول الوقت مع وجود الغيم؛ لأنهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلا على الشمس.
وأجيب: باحتمال أن بُريدة قال ذلك عند معرفة دخول الوقت؛ لأنه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشمس أحيانًا، ثم إنه لا يشترط إذا احتجبت الشمس اليقين بل يكفي الاجتهاد. فتح الباري (2/ 32).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «مَن ترك» كلمة «مَن» موصولة تتضمن معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء، وخبره «فقد حبط عمله». عمدة القاري (5/ 40).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«مَن ترك صلاة العصر» أي: عمدًا؛ ولذا لم يقل: من فاتته. مرقاة المفاتيح (2/ 529).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
والترك هنا ظاهر الحديث أنه مطلق، فيكون فيه حُجة للخوارج في التكفير بالذنب، وحُجة لأحمد والظاهرية في تكفير تارك الصلاة من غير جحد، وقد تقدم الكلام على ذلك عند حديث: «من تركها فقد كفر»، والفاء داخلة لتضمُّن الموصول معنى الشرط. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/ 1064).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«من ترك صلاة العصر» خصَّها لأنها تأتي في وقت أشغال الناس بطلب المعاش والاضطراب في الأسواق. التنوير (10/ 174).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «من ترك صلاة العصر» تخصيص في الحديث بالوعيد يدل على أنها هي الصلاة المعنية في الحديث. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية (4/ 1064).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
اختلف في معنى «تركها»، فقال المهلب: معناه: من فاتته فوات مضيِّعٍ مُتَهَاونٍ بفضل وقتها مع قدرته على أدائها فحَبِطَ عمله في الصلاة خاصة، أي: لا يحصل له أجر المصلي في وقتها، ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة.
وقال غيره: تركها جاحدًا، فإذا فعل ذلك فقد كفر وحبط عمله، ورُدَّ بأن ذلك مقول في سائر الصلوات، فلا مزية إذًا.
قد ورد من حديث عمر مرفوعًا: «من ترك صلاة متعمدًا أحبط الله عمله، وبرئت منه ذمة الله تعالى حتى يراجع لله توبة» وإسناده لا يقوى.
وقال ابن بزيزة: هذا على وجه التغليظ؛ إذ لا يحبط الأعمال إلا الشرك، أو حبط جزاء عمله أي: نقص بالنسبة إلى جزاء المحافظة عليها، وقال ابن التين: كاد أن يحبط. التوضيح (6/ 185).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «من ترك صلاة العصر» زاد معمر في روايته: «متعمدًا» وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء.
قوله: «فقد حبط» سَقَطَ، (فقد) من رواية المستملي، وفي رواية معمر «أَحْبَطَ الله عمله»، وقد استَدَلَّ بهذا الحديث من يقول بتكفير أهل المعاصي من الخوارج وغيرهم، وقالوا هو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} المائدة: 5.
وقال ابن عبد البر: مفهوم الآية أن مَن لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهومها ومنطوق الحديث، فيتعين تأويل الحديث؛ لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح.
وتمسَّك بظاهر الحديث أيضًا الحنابلة، ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، وجوابهم...: لو كان على ما ذهبوا إليه لما اختصت العصر بذلك، وأما الجمهور فتأوَّلوا الحديث فافترقوا في تأويله فِرَقًا:
فمنهم من أوَّلَ سبب الترك، ومنهم من أَوَّلَ الحبط، ومنهم من أَوَّلَ العمل، فقيل: المراد مَن تركها جاحدًا لوجوبها، أو معترفًا لكن مستخِفًّا مستهزئًا بمن أقامها.
وتُعُقِّب بأن الذي فهمه الصحابي إنما هو التفريط؛ ولهذا أمر بالمبادرة إليها، وفَهْمُه أَوْلَى مِن فَهْمِ غيره كما تقدم.
وقيل: المراد مَن تركها متكاسلًا، لكن خَرَجَ الوعيد مَخْرَجَ الزجر الشديد، وظاهره غير مراد، كقوله: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، وقيل: هو من مجاز التشبيه، كأنَّ المعنى فقد أشبه مَن حَبِطَ عملُه، وقيل: معناه: كاد أن يحبط، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي تُرفع فيه الأعمال إلى الله، فكأنَّ المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر مَن صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذٍ، وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي: يبطل انتفاعه بعمله في وقت ما، ثم ينتفع به، كمن رَجَحَتْ سيئاته على حسناته، فإنه موقوف في المشيئة، فإنْ غُفِرَ له فمجرَّدُ الوقوف إبطالٌ لنفع الحسنة إذ ذاك، وإن عُذِّب ثم غفر له. فتح الباري (2/ 32-33).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «مَن ترك» أي: متعمِّدًا كما في رواية لأحمد، وكما في حديث أبي الدرداء عنده أيضًا. مرعاة المفاتيح (2/ 303).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «حبط» بكسر الموحَّدة أي: بَطَلَ، والمراد ببطلان العمل: بطلان الثواب وفائدته. الكواكب الدراري (4/ 197).
وقال العيني -رحمه الله-:
«فقد حَبِطَ عمله» دخول: الفاء فيه لأجل تضمُّن المبتدأ معنى الشرط. عمدة القاري (5/ 40).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
معنى قوله في هذا الحديث: «حبط عمله» أي: حبط عمله فيها فلم يحصل على أجرِ مَن صلَّاها في وقتها، يعني: أنه إذا عملها بعد خروج وقتها فقد حبط أجر عملها في وقتها وفضله -والله أعلم-، لا أنه حبط عمله جملة في سائر الصلوات وسائر أعمال البِرِّ -أعوذ بالله من مثل هذا التأويل-؛ فإنه مذهب الخوارج، وإنما يُحبط الأعمالَ الكفرُ بالله وحده، قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} المائدة: 5، وفي هذا النص دليل واضح أن من لم يَكْفُر بالإيمان لم يحبط عمله. التمهيد (14/ 125).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «حبط عمله» ليس ذلك من إحباط ما سبق من عمله؛ فإن ذلك في حق من مات مرتدًا، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة: 217، بل يُحمل الحبوط على عمله في يومه، أي: لا سيما في الوقت الذي يَقْرُب أن تُرفع أعمال العباد إلى الله تعالى، وأما دلالة الآية على اختصاص إحباط عمل المرتد دون غيره: فإن «مَن» شرطية، وكان من حق الظاهر أن يقال: من يرتدد فيمت كافرًا فحبط عمله، قدَّمَ معنى الضمير المجرور أي: في عمله، وجعله اسم إشارة، وبنى الخبر عليه؛ لإفادته الاختصاص، عَرَفَهُ من ذَاقَهُ، ولأهل السنة دلائل في الأصول ردًّا على المعتزلة مشهورة لا يهمنا الآن ذكرها. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 885).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حَبِطَ عمله» أي: بَطَلَ ثوابه، لا أنه يبطل ما سبق من أعماله؛ فإنه مختص بالمرتد، بل يُحمل الحبوط على نقصان ثواب عمله ذلك اليوم، وحَمَلَه الدميري على المستحِلِّ، أو على من تعوَّد ذلك، أو على حبوط الأجر. التنوير (4/ 559).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإن قلتُ: إحباط الطاعات بالمعصية مذهب المعتزلة على اختلاف بينهم في كيفيته، فما جواب أهل السنة عن هذا الحديث؟
قلتُ: المراد بالترك: من ترك متهاونًا مستحِلًّا لتركها، أو بحبوط العمل: الكفر كما هو مذهب أحمد من أن تارك الصلاة عامدًا كافر، أو بالعمل: عمل الدنيا، أي: بسبب الاشتغال به ترك لتلك الصلاة، يعني: لا ينتفع به، أو بحبوط عمله نقصان عمله في يومه؛ إذ الأعمال بالخواتيم، لا سيما الوقت الذى يقرب أن ترفع الأعمال فيه إلى الله تعالى، أو هو على سبيل التغليظ، أي: كأنما حبط عمله، والله أعلم. الكواكب الدراري (4/ 197-198).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
نحمل الحبوط في هذا الحديث على نقصان عمل يومه ذلك بترك العصر التي هي الصلاة الوسطى، وخاتمة فرائض النهار؛ فإنه لو أقام تلك الفريضة رُفع عمل نهاره ذلك مكملًا، فأُثيب عليه ثوابًا موفرًا، فلما ترك صلاة العصر نقص ثواب عمله عمَّا كان عمل النهار لو أتَمَّه، ونظائر هذا القول في طُرق المجاز كثيرة.
ويحتمل -والله أعلم- وجهًا آخر: وذلك أن نقول: أهل الإيمان يتفاوتون في درجات الثواب، فمنهم مَن إذا عمل حسنة جُوزِيَ عليها عشرًا؛ وذلك أدناهم، ومنهم من يرتفع عن هذه المرتبة إلى الضِّعف وإلى الأضعاف وإلى أضعاف كثيرة لا يعلم عددها إلا الله، فالذي ترك صلاة العصر إذا عَمِلَ حسنة بعد ذلك لا يُثاب عليها إثابة من يقوم بها إذا عمل مثل تلك الحسنة، بل يتأخر عنه في مراتب الثواب؛ حيث لا يلحق شَأْوَهُ، فلذلك هو المراد عن حبوط العمل في هذا الحديث، والله أعلم. الميسر (1/ 183).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حَبِطَ عمله» بَطَلَ ثوابه، يحتمل: ثواب كل حسنة، ويحتمل: عَمَل يومه وليلته. التنوير (10/ 174).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأقرب هذه التأويلات قول من قال: إن ذلك خَرَجَ مخرج الزجر الشديد، وظاهره غير مراد، والله أعلم. فتح الباري (2/ 33).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي أنَّ حَمْلَ حَبْطِ العمل بترك صلاة العصر على ظاهره هو الأَولى؛ لعدم ما يمنع منه، ولا يلزم منه أن يكون تَرْكُها مُحْبِطًا لجميع أعماله كإحباط الكفر، إلا إذا اقترن معه الجحد لوجوبها.
وحاصله: أنه إحباط دون إحباط الكفر، فيَصْدُق أن يحبط بعض أعماله من صحائفه بسبب تركها، كما أن الارتداد عن الإسلام يحبط جميعها، والله أعلم. ذخيرة العقبى (6/ 303).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
المعنى الصحيح: أنه حَبِطَ عمله الذي يظهر -والله أعلم- إما ذلك اليوم، أو حبط عمله لو صلاها فإنها لا تُقبل منه. تعليقات ابن عثيمين على الكافي لابن قدامة (1/ 258).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
ورواية من روى في هذا الحديث: «ترك صلاة العصر» أولى من رواية من روى «فاتته»، وقد يكون المعنى فاتته: تركه لها، فحبط عمله فيها، فلا يكون في ذلك تناقض، ولا يسمى الناسي لها والنائم عنها والمحبوس عن القيام إليها تاركًا لها؛ لأن الفاعل مَن فَعَلَ الترك واختاره بقصد منه إليه وإرادة له، وليس كذلك مَن وَصَفْنَا حالَه من الناسي والنائم والمغلوب. التمهيد (14/ 125-126).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
فإنْ قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها مُحْبِطَة دون غيرها من الصلوات؟!
قيل: الحديث لم ينفِ الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لَقَبٍ، وهو مفهوم ضعيف جدًّا، وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات؛ ولهذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيح الصريح؛ ولهذا خصها بالذِّكْر في الحديث الآخر وهو قوله: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله» أي: فكأنما سُلِبَ أهلَه ومالَه، فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها، كأنه شبَّه أعماله الصالحة بانتفاعه وتمتُّعه بها بمنزلة أهله وماله، فإذا تَرَكَ صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال فخرج من بيته لحاجة، وفيه أهله وماله، فرجع وقد اجْتِيْحَ الأهل والمال، فبقي وترًا دونهم، وموتورًا بفقدهم، فلو بقيت عليه أعماله الصالحة، لم يكن التمثيل مطابقًا. الصلاة وأحكام تاركها (ص: 65-66).
وقال النووي -رحمه الله-:
قال ابن عبد البر (في حديث «فكأنما وتر أهله وماله»): ويحتمل أنْ يُلحق بالعصر باقي الصلوات، ويكون نبَّه بالعصر على غيرها، وإنما خصها بالذِّكر لأنها تأتي وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم، وحرصهم على قضاء أشغالهم، وتسويفهم بها إلى انقضاء وظائفهم.
وفيما قاله نظر؛ لأن الشرع ورد في العصر، ولم تتحقق العلة في هذا الحكم، فلا يلحق بها غيرها بالشك والتوهُّم، وإنَّما يلحق غير المنصوص بالمنصوص إذا عرفنا العلة، واشتركا فيها، والله أعلم. المنهاج، شرح صحيح مسلم(5/ 126).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
أكثر السلف والأمَّة على القول بذلك (أي: حبوط العمل بترك بعض الفرائض وارتكاب بعض المحارم)، وإمرار الأحاديث الواردة فيه على ما جاءت من غير تعسف في تأويلاتها، وبينَّا أن العمل إذا أُطلق لم يدخل فيه الإيمان، وإنما يراد به أعمال الجوارح، وبهذا فارق قول السلف قول الخوارج؛ فإنهم أَحْبَطُوا بالكبيرة الإيمان والعمل، وخلَّدوا بها في النار، وهذا قول باطل.
وأما المتأخرون فلم يوافقوا السلف على ما قالوه، فاضطربوا في تأويل هذا الحديث وما أشبهه، وأتوا بأنواع من التكلف والتعسف.
فمنهم من قال: تَرْكُ صلاة العصر يحبط عمل ذلك اليوم.
ومنهم من قال: إنما يحبط العمل الذي هو تلك الصلاة التي تركها فيفوته أجرها، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد البر، وهو من أضعف الأقوال، وليس في الإخبار به فائدة.
ومنهم مَن حَمَل هذا الحديث على أنَّ مَن ترك صلاة واحدة متعمدًا حتى يخرج وقتها فإنه يصير بذلك كافرًا مرتدًا، كما يقول ذلك من يقوله ممن يرى أن ترك الصلاة كفر، وهذا يُسقط فائدة تخصيص العصر بالذِّكر؛ فإنَّ سائر الصلوات عنده كذلك. فتح الباري (4/ 307-308).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
الذي يظهر في الحديث -والله أعلم بمراد رسوله-: أن الترك نوعان: تركٌ كُلِّي لا يصليها أبدًا، فهذا يحبط العمل جميعه، وتركٌ معيَّن في يوم معين، فهذا يحبط عمل ذلك اليوم، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين.
فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟
قيل: نعم، قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تُحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} البقرة: 264...، وقالت عائشة لأم زيد بن أرقم: "أخبري زيدًا أنه قد أَبْطَلَ جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلَّا أن يتوب"، لَمَّا باع بالعينة (بيع السلعة بثمن مؤجل)، وقد نص الإمام أحمد على هذا فقال: ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج؛ لئلا ينظر ما لا يحل فيحبط عمله، وآيات الموازنة في القرآن تدل على أن السيئة تَذهب بحسنة أكبر منها، فالحسنة يحبط أجرها بسيئة أكبر منها. الصلاة وأحكام تاركها (ص: 64-65).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها؛ فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها، وهي التي فُرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها فله الأجر مرتين. مجموع الفتاوى (22/ 54).
وقال ابن باز -رحمه الله-:
فيه: العناية بصلاة العصر، وهذا الحديث من حُجج كفر تارك الصلاة {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ...} الآية الأنعام: 88. الحلل الإبريزية (1/ 190).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
ويستفاد من الحديث: أن تأخير صلاة العصر عن وقتها -لغير عذر- كبيرة من الكبائر؛ لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- توعَّد مَن فعل ذلك بإحباط عمله، وإسقاط ثوابه عن تلك الصلاة، وأنه كمن خسر أهله وماله، وهذا الوعيد الشديد لا يترتب إلا على كبيرة، وحكم بقية الصلوات كحكم صلاة العصر، فمَن أخَّرها لغير عذر فقد استحق هذا الوعيد نفسه. منار القاري (2/ 81).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: ما ترجم له المصنف (يعني: النسائي) وهو بيان الوعيد لمن ترك صلاة العصر.
ومنها: ما كان عليه الصحابة مِن حرصهم في الدعوة إلى المبادرة بالصلاة في أول وقتها.
ومنها: شدة الوعيد في ترك صلاة العصر، وأنه سبب لإحباط العمل؛ وذلك لمزيد فضلها؛ حيث إنها هي الصلاة الوسطى على الراجح. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (6/ 300).