«إذا عُمِلَتِ الخطيئةُ في الأرضِ، كان مَن شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -وقال مرَّةً: أَنْكَرَهَا- كان كمَنْ غابَ عنها، ومَنْ غابَ عنها فَرَضِيَهَا، كان كمَنْ شَهِدَهَا».
رواه أبو داود برقم: (4345) واللفظ له، والطبراني في الكبير برقم: (345)، من حديث العُرْسِ بن عَمِيرة -رضي الله عنه-.
ورواه البيهقي في الكبرى برقم: (14551) موقوفًا على ابن مسعود -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (689)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (2323).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الخطيئة»:
أي: المعصية. فيض القدير، للمناوي (1/ 407).
وقال الراغب -رحمه الله-:
والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصودًا إليه في نفسه، بل يكون القصد سببًا لِتَوَلُّدِ ذلك الفعل منه، كمن يرمي صيدًا فأصاب إنسانًا، أو شرب مُسكرًا، فجنى جناية في سُكره. المفردات (ص: 151).
«شَهِدَهَا»:
أي: حضَرَها. التيسير، للمناوي (1/ 117).
شرح الحديث
قوله: «إذا عُمِلَتِ الخطيئة في الأرض»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «إذا عُمِلَتِ الخطيئة» بصيغة المجهول، أي: إذا فُعلت السيئة «في الأرض» أي: على وجه الأرض جميعًا. مرقاة المفاتيح (8/ 3212).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«إذا عُمِلَتِ» بضم العين «الخطيئة» أي: المعصية «في الأرض». التيسير (1/ 117).
قوله: «كان مَن شهدها فكرهها -وقال مرّة: أنكرها - كان كمن غاب عنها»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مَن شهدها» أي: مَن حَضَرَها. المفاتيح (5/ 263).
وقال ابن النحاس -رحمه الله-:
أي: حَضَرَها لضرورة، أو رآها اتفاقًا؛ لأن حضور العاجز موضعًا يرى فيه المنكر قصدًا من غير ضرورة ممنوع، ولا يسلم الحاضر من الإثم، وإن كرهه بقلبه. تنبيه الغافلين (ص:31).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كان من شهدها» أي: حضرها «فكرهها» بقلبه، وفي رواية: «أنكرها» «كمن غاب عنها» في عدم لحوق الإثم له، والكلام فيمن عجز عن إزالتها بيده ولسانه. التيسير (1/ 117).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «من شهدها» حضرها، قوله: «فأنكرها» بلسانه أو بقلبه أو بيده إن أمكن، قوله: «كمن غاب» في أنه غير آثم. التحبير (1/ 344).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«من شهدها» من حضرها، مِن الشُّهود وهو الحضور، «فكرهها» لبغض الرب تعالى لها «كمن غاب عنها» في أنه لا إثم عليه ولا عقاب، وهذا حيث لم يمكنه إنكارها باليد ولا باللسان، وإنما أنكرها بالقلب كراهة لها. التنوير (2/ 150).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«كان من شهدها» أي: حضرها «فكرهها» أي: عَدَّها مكروهًا، وما رضي بها «وقال مرّة: أنكرها» في موضع: «كرهها» أي: عَدَّها منكرًا «كمن غاب عنها» أي: مثل من لم يحضرها، فلا يلحقه ضررها. بذل المجهود (12/ 404).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
معنى الحديث: أنْ يحضر لحاجة، أو يتفق جريان ذلك بين يديه، فأما الحضور قصدًا فممنوع، بدليل الحديث الأول («لا ينبغي لامرئ شهد مقامًا فيه حق إلا تكلم به؛ فإنه لن يقدم أجله، ولن يحرمه رزقًا هو له»). إحياء علوم الدين (2/ 309).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فكرهها» أي: فأنكرها، ولو بقلبه «كان كمن غاب عنها» أي: ولم يعلم بها. مرقاة المفاتيح (8/ 3212).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
والمراد: أنْ يكرهها بقلبه، والأفضل أنْ يضيف إلى القلب اللسان، فيقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا أرتضيه، أو يقول كما حكاه اللَّه تعالى: {أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ} هود: 54، يعني: من كذا وكذا، كما تقدم في الحديث حيث لم يقدر على إبطاله، «كمن غاب عنها» وكرهها. شرح سنن أبي داود (17/ 211).
قوله: «ومَن غاب عنها فَرَضِيَهَا، كان كمن شَهِدَها»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها» ولابن عدي: «ومن غاب عنها فأحبها، كان كمن حضرها» يعني: في مشاركة إثم المعصية، وإن بعدت المسافة بينهما، والصورة الأُولى فيها إعطاء الموجود حكم المعدوم، والثانية فيها حكم المعدوم حكم الموجود. شرح سنن أبي داود (17/ 211).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومن غاب عنها» أي: وعَلِمَ بها «فرضيها» أي: فرضي بها، واستحسنها «كان كمن شهدها» أي: ولم ينكرها. مرقاة المفاتيح (8/ 3212).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ومن غاب عنها فرَضِيها» وفي رواية: «فأحبَّها» «كان كمن شَهِدَها» أي: حَضَرَها فَرَضِيها في المشاركة في الإثم، وإن بعدت المسافة بينهما في الفتن. التيسير (1/ 117).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «فَرَضِيها كان كمن شهدها» راضيًا بها، فالإثم يتعلق بالكراهة والرضا. التحبير (1/ 344).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«ومن غاب عنها فَرَضِيَها، كان كمن شهدها» أي: حَضَرها وشاهدها غير منكِر لها، ولا كارهٍ، أي: يكون برضائه بها، ومحبته في الإثم والذنب مثلًا لهم؛ لأن الرضا بالقبيح قبيح.
وفيه: دليل أنَّ أعمال القلوب كأعمال الجوارح في الإثم وعدمه. التنوير (2/ 150).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«ومن غاب عنها فَرَضِيها» أي: الخطيئة، كان كمن شهدها في الإثم. بذل المجهود (12/ 404).
وقال النسفي -رحمه الله-:
والراضي بالمعصية في حكم العاصي. مدارك التنزيل (2/ 578).
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
قلتُ: وهذه مسألة عظمى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داود عن العُرْس بن عَمِيرة الكندي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان مَن شهدها فكرهها -وقال مرَّة: فأنكرها- كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيها كان كمن شهدها» وهذا نص. الجامع لأحكام القرآن (4/ 295).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
المعاقبة على السكوت على المنكر إنما هو لمن رضيه، وأعان فيه بقول أو فعل أو متابعة، أو كان يقدر على تغييره فتركه، فأما مع عدم القدرة فبالقلب، وعدم الرضا به، كما فسَّره بعد في الحديث الآخر؛ أي: كَرِهَ بقلبه، وأنكر بقلبه، وكما قال في الحديث الآخر: «فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة الله»، وكما قال أيضًا: «وذلك أضعف الإيمان» كما تقدَّم أول الكتاب، ووقع في حديث هدَّاب: «فمن عَرَفَ فقد بَرِئَ» وما في رواية أبي غسان أَبْيَن: «مَن كَرِهَ فقد بَرِئَ». إكمال المعلم (6/ 264).
وقال النووي -رحمه الله-:
فمن عَرَفَ المنكر ولم يَشتبه عليه، فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته، بأنْ يغيِّره بيديه أو بلسانه، فإن عجَزَ فليَكرهه بقلبه. شرح صحيح مسلم (12/ 243).
وقال النووي -رحمه الله- أيضًا:
مَن عجَزَ عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضا به، أو بأن لا يكرهه بقلبه، أو بالمتابعة عليه. شرح مسلم (12/ 243).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
وحكم الرضا بالمعصية حكم تلك المعصية، فالرضا بالكفر كفر، وبالكبيرة كبيرة، وبالصغيرة صغيرة، وبالمكروه مكروه. حسن التنبه (5/ 464).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فمن شهد الخطيئة فكرهها قلبُه كان كمن لم يشهدها، إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرَضِيها كان كمن شهدها، وقدَر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرَّمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال...، فتبيَّن بهذا أنَّ الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة. جامع العلوم والحكم (2/ 245-246).
وقال السفاريني -رحمه الله- مُعلِّقًا:
فأَفْهَمَنَا كلامه (أي: ابن رجب) -رضوان الله عليه- بأنَّ قولهم: إنكار المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي على ما أسلفنا بأنَّ مرادهم: الإنكار باليد واللسان اللَّذين يحصل تغيير المنكر بهما، أو بأحدهما، وأما الإنكار بالقلب ففرض عين على كل مسلم، وهذه فائدة ينبغي التفطُّن لها. غذاء الألباب (1/ 176).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
ولا (يجوز) حضور المواضع التي يُشاهِد المنكر فيها، ولا يقدر على تغييره، فإنَّه قال: "اللعنة تنزل على من حضر"، ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذارًا بأنه عاجز، ولهذا اختار جماعة من السلف العُزلة؛ لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع، وعجزهم عن التغيير، وهذا يقتضي لزوم الهجر للخلق؛ ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: ما ساح السواح وخلوا دورهم وأولادهم إلا بمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر، والخير قد اندرس، ورأوا أنه لا يُقبل ممن تكلَّم، ورأوا الفتن، ولم يأمنوا أن تعتريهم، وأن ينزل العذاب بأولئك القوم، فلا يسلمون منه، فرأوا أنَّ مجاورة السباع، وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم، ثم قرأ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذاريات: 50. إحياء علوم الدين (2/ 309).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
وفيه: أنَّه يتعيَّن على المكلَّف أنْ يغيب عن مكان الظُلم والمعصية. شرح سنن أبي داود (17/ 212).