أنَّ رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الإيمانُ؟ قال: «إذا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ، وساءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فأنتَ مؤمنٌ»، قال: يا رسول الله، فما الإثمُ؟ قال: «إذا حَاكَ في نفسِكَ شيءٌ فَدَعْهُ».
رواه أحمد برقم: (22166)، والحاكم برقم: (33)، والطبراني في الكبير برقم: (7540)، والبيهقي في شُعَبِ الإيمان برقم: (5362)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (600)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1739).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«حَاكَ في نفسك»:
أي: أثَّر فيها ورَسَخَ، يقال: ما يَحِيْكُ كلامُك في فلان، أي: ما يُؤثِّر. النهاية، لابن الأثير (1/ 470).
«الإثمُ»:
أي: المعصية. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3173).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ رجلًا سألَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما الإيمان؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ما الإيمان؟» أي: علامته. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«ما الإيمان؟» الإيمان التصديق (وقول السلف: إنَّ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص)، لكن له أمارات هي أَحق بالتنبيه عليها منه، لظهوره وخفاء تلك الأمارات، فلذا عدل عن الجواب المطابق إلى قوله: «إذا سرَّتك حسنتك» أي: فَرِحْتَ بما وفقك الله له من الحسنات؛ لعلمك بثواب الله الجزيل، وتصديقك بوعده به {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يونس: 58. فتح الإله في شرح المشكاة (1/356).
قوله: «إذا سرَّتك حسنتك»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «إذا سرَّتك حسنتك» يعني: إذا صدرت منك طاعة، وفرحت بها مستيقنًا بأنك تثاب عليها. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 499).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
أي: إذا عملتَ حسنةً، وحصل لك فرحٌ ومسرةٌ بتوفيق الطاعة. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«إذا سرَّتك حسنتك» أي: لكونها محبوبة لله، وكونها مأمورًا بها، ومرجوًّا عليها الإثابة. التنوير (2/ 91).
قوله: «وساءتك سيئتك»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «وساءتك سيئتك»؛ لكونها منهيًّا عنها، يخاف عليها العقوبة. التنوير (2/ 91).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال: «وساءتك سيئتك» وإذا فعلت سيئة، ووقع في قلبك حزن ومساءة؛ خوفًا من العقوبة. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«وساءتك سيئتك» أي: حَزِنْتَ على ما فرط منك مِن تَسَوُّر سُور المعاصي الذي سدَّه الله عليك، لعلمك بعظيم عقابه، وخوفك من شديد انتقامه وسطوته. فتح الإله في شرح المشكاة (1/356-357).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«وساءتك سيئتك» أي: أحزنك ذنْبُك. مرعاة المفاتيح (1/ 116).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وإذا أصابتك معصية، وندمت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم الآخر. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 499).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «قال: إذا سرَّتك حسنتك...» إلخ، فإن ذلك علامة وجود التصديق واليقين بالله، وأحكامه واليوم الآخر، وجزاء الأعمال، ومن مواضع اليقين الذي يجب أن يتيقن العبد به جزاء الأعمال، وهو أن يعلم يقينًا أن لكل عمل يعمله جزاء، خيرًا كان أو شرًّا. لمعات التنقيح(1/ 284).
قوله: «فأنت مؤمن»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فأنت مؤمن»؛ فإنَّ المؤمن الكامل يميِّز بين الطاعة والمعصية، ويعتقد المجازاة عليهما يوم القيامة، بخلاف الكافر؛ فإنه لا يفرق بينهما، ولا يبالي بهما. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «مؤمن» أي: كامل؛ لأن المنافق حيث لا يؤمن بيوم القيامة استوت عنده الحسنة والسيئة، وقد قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} فصلت: 34. مرقاة المفاتيح (9/ 3879).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فأنت مؤمن» أي: كامل الإيمان؛ لفرحك بما يرضي الله، وحُزنك بما يغضبه، وفي الحزن عليها إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة. التيسير (1/ 105).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
فالإيمان لا يكمل فيه حتى تسرُّه تلك، وتسوؤه هذه، ويصير متيقنًا أنه لا يخفى على ربه حَبَّة خردل، ولا مثقال ذرة، فيجازيه بعمله. التيسير (2/ 423).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فأنت مؤمن» حقًّا بالله واليوم الآخر؛ لأنه وُجد عندك من أمارات الإيمان ما اقتضى أنك متحقق بحقيقته، مستحضر لفوائده وثمرته. فتح الإله في شرح المشكاة (1/357).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإذا رأيت مِن نفسك أنَّ صدرك ينشرح بالطاعة، وأَنه يضيق بالمعصية فهذه بُشرى لك، أَنك مِن عبادِ الله المؤمنين، ومِن أَوليائه المتقين. شرح رياض الصالحين(6/٥٧).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
لأنه صدَّق الرسل، وعلم أنَّ الحسنة حسنة، فأحبها، وأنَّ السيئة سيئة، فكرهها، وندم على إتيانه لها. التحبير (6/ 678).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
السرور لأجل الحسنة، والحزن لأجل السيئة من خصال الإيمان؛ لأن من ليس من أهل الإيمان لا يبالي أَحْسَنَ أم أساء، وأما من كان صحيح الإيمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم؛ لعلمه بأنه مأخوذ بها، محاسَب عليها، ولا يزال من حَسَنته في سرور؛ لأنه يعلم أنها مدَّخرة له في صحائفه، فلا يزال حريصًا على ذلك حتى يوفقه الله -عز وجل- لحسن الخاتمة. نيل الأوطار (8/ 361).
قوله: «قال: يا رسول الله، فما الإثم؟»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«قال: يا رسول الله فما الإثم؟» أي: ما علامته إذا لم يكن نص صريح، أو نقل صحيح، واشتبه أمره، والتبس حكمه؟ مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
«الإثم» هو المعاصي والذنوب بحق الله، أو بحق خلقه. توضيح الأحكام (7/ 289).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«قال: يا رسول الله، فما الإثم؟» المذكور في الآيات والأحاديث، «قال»: الإثم المعصية، وهذا ظاهر لا يحتاج للسؤال عنه، وإنَّما له علامة خفية هي أَولى بأنْ يُنبه عليها منه، وهي: أنَّ كل شيء أثَّر في نفسك المصفَّاة عن كل كدرٍ وعيبٍ وشكٍ وريبٍ أنه على خلاف الحق؛ لأمارات انقدحت في نفسك بذلك ظاهرة أو خفية، فهو إثم، أو من داليه، فالورع مجانبته ما أمكن؛ لئلا يقع في الإثم على احتمال. فتح الإله في شرح المشكاة (1/357).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: قوله: «ما الإثم؟» إما أنْ يكون سؤالًا عن حقيقته أو صفته، وعلى التقديرين: لا يكون الجواب مطابقًا.
قلتُ: السؤال عن الوصف، وفي الجواب تقدير، أي: هو الذي يؤثر في النفس الشريفة القدسية تأثيرًا لا ينفك عن تنفير، وعلى هذا المنوال جواب الإيمان. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 499).
قوله: «إذا حاك في نفسك شيء»:
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«حاكَ» أي: رَسَخَ وأثَّر. الفتح المبين (ص:460).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «حاكَ في نفسك» أي: أثَّر فيها، والحَيْكُ: أثرُ القول في القلب، يقال: ما يحيك في الملامة، إذا لم يؤثر فيه. الكاشف عن حقائق السنن(2/ 499).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«الإثم» ما أثَّر في الصدر حَرَجًا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر. جامع العلوم والحكم (2/ 101).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
أي: الشيء الذي يُؤثِّر نفرة وحزازة في القلب، يقال: حاك الشيء في قلبي: إذا رسخ فيه وثبت، ولا يحيك هذا في قلبي، أي: لا يثبت فيه، ولا يستقر. المفهم (6/ 523).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
أي: أثَّر فيها، والحَيْكُ: أخذ القول في القلب، يقال: ما يحيك فيه الملام إذا لم يُؤثِّر فيه. الميسر في شرح مصابيح السنة(2/ 660).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
يعني: هو الشيء الذي يورث نفرة في القلب، وهذا أصل يُتمسك به لمعرفة الإثم من البِر. شرح الأربعين النووية(ص:95).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
أي: أثَّر قُبحُه في قلبك، أو تردَّد فيه، ولم تُرِدْ إظهاره. شرح المصابيح (5/ 341).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قال: «إذا حاكَ» أي: تردَّد «في نفسك شيء» ولم يطمئن به قلبك، وأثَّر فيه تأثيرًا يديم تنفيرًا. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
أي: أثَّر فيه، وأوقعك في التردد، ولم يطمئن قلبك، فإنَّ ذلك أمارة أنَّ في ذلك شيئًا من الإثم والكراهة. لمعات التنقيح (8/ 324).
وقال المغربي -رحمه الله-:
أي: تحرَّك الخاطر في صدرك، وترددتَ هل تفعله لكونه لا لوم فيه، أو تتركه خشية اللوم عليه من الله -سبحانه وتعالى- ومن الناس فلا يطلعون عليه لو فعلته؟ يعني: لم ينشرح لك صدرك وتحصل الطمأنينة بفعله؛ خوف كونه ذنبًا. البدر التمام (10/ 160).
قوله: «فدَعْهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فدعه» أي: اتركه، وهو كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «دع ما يُرِيْبُكَ إلى ما لا يُرِيْبُكَ»، وهذا بالنسبة إلى أرباب البواطن الصافية، والقلوب الزاكية، أو المعنى: اتركه احتياطًا إذا كان الأحوط تركه، وإذا كان الفعل أَولى فاترك ضده؛ لئلا تقع في الإثم، وقيل: الجوابان من أسلوب الحكيم. مرقاة المفاتيح (1/ 118).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فدعه» لتَسْلَمَ من تبعِيَّته في الدنيا والآخرة، فَعُلم أنَّ العدول فيهما عن الجواب المطابق إنَّما هو أَولى منه بالذِّكر، والتنبيه عليه، وهذا هو عين البلاغة العليا من مراعاة مقتضى ظاهر حال السائل، وذكر ما يناسبه، وتنبيهه على أنَّه كان الأحق به أنْ يُسأل عنه. فتح الإله في شرح المشكاة (1/357).