«إنَّ أكثرَ مُنَافِقِي أُمَّتي قُرَّاؤُها».
رواه أحمد برقم: (6633)، والطبراني في الكبير برقم: (25)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (6560)، وابن أبي شيبة برقم: (34335)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (1203) سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (750).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مُنَافِقِي»:
(المنافق) هو الذي يَسْتُر كُفره ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا، يقال: نَافَقَ يُنافِقُ مُنافقة ونِفَاقًا، وهو مأخوذ من النَّافِقَاء: أحد جِحَرَة اليَرْبُوع، إذا طُلِب من واحد هرب إلى الآخر، وخرج منه، وقيل: هو مِن النَّفَقِ: وهو السَّرَب الذي يستتر فيه؛ لِسِتْرِهِ كُفْرَهُ. النهاية، لابن الأثير(5/ 98).
شرح الحديث
قوله: «إنَّ أكثرَ منافقي أُمَّتي قُرَّاؤُها»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
هذا القول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال؛ شفقًا أن تفضي به إلى النفاق، وليس المعنى أن مَن بدرت منه هذه الخلال، وكان ما يفعل منها على غير وجه الاختيار والاعتياد له أنه منافق... القراء قد يكون من بعضهم قلة الإخلاص في العمل، والتبرُّؤ من الرياء والسمعة، ولا يوجب ذلك أن يكون مَن فعل شيئًا من ذلك من غير اعتياد له منافقًا. أعلام الحديث (1/ 165).
وقال الخطابي -رحمه الله- أيضًا:
لم يرد بهذا أن القراءة نفاق، وأن القارئ منافق، وإنما أراد أن الرياء في القُرَّاء كثير، والإخلاص فيهم قليل، والرياء من صفة المنافقين، قال الله تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} النساء: 142. غريب الحديث (2/ 278).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أمتي قراؤها» أراد نفاق العمل وهو الرياء لا الاعتقاد. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 200).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أكثر منافقي هذِه الأمَّة قُرَّاؤها» أراد بالنفاق ها هنا: الرياء؛ لأن كِلَيهما إظهار غير ما في الباطن. شرح سنن أبي داود (7/ 396).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ أكثر منافقي أُمَّتي» لعل المراد: نفاق العمل، لا الاعتقاد، ومرجعه إلى الرياء، ونحوه، والله تعالى أعلم. حاشيته على مسند أحمد (2/247).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
إنما جعل النفاق في أكثر القراء؛ لأن الرياء فيهم أكثر منه في غيرهم، والرياء نفاق إلا أن المنافق يُظهر غير ما يُسرّ، وذو الرياء يُبدي للناس خلاف ما يُضمر. غريب الحديث (1/ 453).
وقال البغوي -رحمه الله-:
قوله: «أكثر منافقي أمَّتي قراؤها» فهو أن يعتاد ترك الإخلاص في العمل، كما جاء: «التاجر فاجر» وأراد: إذا اعتاد التاجر الكذب في البيع والشراء، لا أنَّ نفس التجارة فجور، بل هي أمر مأذون فيه، مباح في الشرع. شرح السنة (1/ 77).
وقال أبو موسى المديني -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أمَّتي قراؤها» أي: أنهم يحفظونه، نفيًا للتهمة عن أنفسهم، وهم معتقدون تضييعه، وقد كانوا في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة، ولم يقل: أكثر القراء منافقون، فيكون ذلك طعنًا على القراء. المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (2/ 681).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أمَّتي قراؤها» ليس المراد هنا نفاق الشرك، بل نفاق العمل، وهو التصنع ببعض الأعمال الدينية لنيل الدنيا، وهذا واقع في القراء المتَّصلين بأهل الدنيا وملوكها، الطالبين لما في أيديهم، والوعيد في الأحاديث على ذلك كثير، وليس المراد كل القراء. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 45- 46).
وقال نجم الدين الغزي -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أمَّتي قُراؤها» أي: الذين يقرؤون القرآن والعلم، ولا يكون لهم فقه ولا حُسن سَمْتٍ، أو الذين لا يعملون بما يقرؤون.
وهذا الحديث من أخوف الأحاديث على القُرَّاء والعلماء، وكم من منافق عليم اللسان حسن الصوت بالقرآن؟. حسن التنبه لما ورد في التشبه (9/ 289).
وقال الكلاباذي -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أمَّتي قراؤها» والله أعلم هذا نفاق العمل لا نفاق الاعتقاد؛ وذلك أنَّ المنافق هو الذي أظهر شيئًا، وأضمر خلافه، أظهر الإيمان بالله لله، وأضمر عصمة ماله ودمه، والمرائي بعمله الدار الآخرة، وأضمر ثناء الناس، وعَرَض الدنيا، والقارئ أظهر أنه يريد الله بعمله ووجهه لا غير، وأضمر حظَّ نفسه وهو الثواب، ويرى نفسه أهلًا لذلك، وينظر لعمله بعين الإجلال، فلِأَن كان باطنه خلاف ظاهره صار منافقًا؛ إذ المنافق بإيمانه قصد حظ نفسه، والقارئ بعمله قصد حظ نفسه، فاستويا في القصد، ومخالفة الباطن والظاهر، فاستويا في الإثم لاستوائهما في القصد والصفة.
فالمنافق راءى الإمام والسلطان وعوام المسلمين، والمرائي راءى الزُّهاد والعباد وأرباب الدين، والقارئ راءى الله -عز وجل- فصال بعمله، وأعجب بنفسه، وتمنى على ربه. معاني الأخيار (ص: 55-56).
وقال الزبيدي -رحمه الله-:
المراد بالقراء: الفقهاء أي: يضعون العلم في غير مواضعه، يتعلمون العلم نفية للتهمة، وهم معتقدون خلافه، وكان المنافقون في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة. إتحاف السادة المتقين (2/ 269).
وقال ابن بطة -رحمه الله-:
«أكثر منافقي أُمَّتي قُرَّاؤها» فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث، وقال: لمَ خُصَّ القُرَّاء بالنفاق دون غيرهم؟
فالجواب عن ذلك: إن الرياء لا يكاد يوجد إلا في مَن نُسب إلى التقوى؛ ولأن العامة والسُّوْقَة قد جهلوه، والمتَحَلِّين بحِلْيَةِ القُراء قد حذقوه، والرياء هو النفاق؛ لأن المنافق هو الذي يسرُّ خلاف ما يُظهر، ويسر ضد ما يُبطن، ويصف المحاسن بلسانه، ويخالفها بفعله، ويقول ما يعرف، ويأتي ما يُنكر، ويترصد الغفلات لانتهاز الهفوات. الإبانة الكبرى (2/ 703).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكثر منافقي أمَّتي قراؤها» وحسبك بما ترى من تضييع حدود القرآن، وكثرة تلاوته في زماننا هذا بالأمصار وغيرها، مع فسق أهلها، والله أسأله العصمة والتوفيق والرحمة، فذلك منه لا شريك له. الاستذكار (2/ 501).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
ولعل هذا خرج مخرج الزجر عن الرياء. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 280).