«أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبدِ في جَوْفِ الليلِ الآخِرِ، فإنِ استطعتَ أنْ تكونَ ممَّن يذكرُ اللهَ في تلك الساعةِ فَكُنْ».
رواه الترمذي برقم: (3579) واللفظ له، والنسائي برقم: (572)، وابن خزيمة برقم: (1147)، والحاكم برقم: (1162)، والبيهقي في الكبرى برقم: (4663)، من حديث عمرو بن عَبَسَة -رضي الله عنه-.
صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1647)، صحيح الجامع برقم: (1173).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جوفِ الليلِ»:
الجوف: مِن كُل شيْء باطِنه الذي يقبل الشّغل والفراغ...، ومن الليل ثُلُثَهُ الأخير.المعجم الوسيط(1/١٤٨).
قال ابن الأثير -رحمه الله-:
وهو الجُزء الخامس مِن أَسْدَاسِ الليل.النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير(1/316).
شرح الحديث
قوله: «أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«أقرب ما يكون الرَّب من العبد...» قال هنا: «أقرب ما يكون الرب» وفيما قبله: «أقرب ما يكون العبد»؛ لأن قُرْبَ رحمة الله من المحسنين سابق على إحسانهم، فإذا سجدوا قربوا من ربهم بإحسانهم. التيسير بشرح الجامع الصغير(1/ 195).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
المراد بالقُرب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أقرب ما يكون» قُربه بالرحمة والمغفرة، لا بالمكان والمستقَر؛ وذلك لأنه وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (172).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«أقرب ما يكون الرب -عز وجل- من العبد» أي: قُربًا يليق بجلاله تعالى، فيستجيب دعاءه ويتقبل طاعته، ويُنعم عليه بما شاء من فضله. شروق أنوار المنن الكبرى (4/ 1235).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إن أقرب ما يكون الرَّب -عز وجل-» قُربًا يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، وفيه إثبات صفة القُرب لله على ما يليق به -سبحانه وتعالى- «من العبد» متعلق بـ«أقرب». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (7/ 350).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
إنَّ قرْبه سبحانه ودنوَّه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أنْ تخلو ذاته من فوق العرش؛ بل هو فوق العرش، ويقرب من خلقه كيف شاء؛ كما قال ذلك من قاله من السلف. مجموع الفتاوى (5/ 460).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله-:
فكونه قريبًا مجيبًا لا ينافي أنه فوق عرشه، عالٍ على جميع مخلوقاته، وقُربه من صفاته، وهو قُرب حقيقي على ظاهره، يليق بعظمته، تعالى وتقدس. شرح العقيدة الواسطية (15/ 5).
وقال الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله- أيضًا:
قُرب الله تعالى ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم خُلوّه من فوق عرشه، بل يقرب إلى من يشاء من عباده، وهو فوق عرشه، لا يكون شيء من خلقه فوقه أبدًا. شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 575-576).
وسئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ما المراد بالقُرْب في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»؟
فأجاب: المراد به قربٌ حقيقي، ومن قال: إنه قُرب من الرحمة، فهو تأويل. الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين (ص: 10).
قوله: «في جوفِ الليلِ الآخِرِ»:
قال محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «جوف الليل الآخر»... وجوف الليل: وسطه، والمراد هنا ثلثه الأخير؛ لأنه ورد في الحديث نزول الرب -عز وجل- فيه إلى سماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله تعالى، فوصَفَ الجوف وهو الوسط بالأخير، أي: جزء وسطه الأخير منه. شروق أنوار المنن الكبرى (4/ 1235).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«الليل الآخر» صفة لجوف؛ لأنه ساعة التَّجَلِّي، والمعبَّر عنه بالنزول فيما مر، وأُضيفت الأقربية هنا للرب، وفي خبر «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدًا» للعبد؛ لأن هذا وقت تجلٍّ خاص بوقتٍ لا يتوقف على فعل من العبد؛ لوجوده لا لسبب، ثم كل مَن أدركه أدرك ثمرته، ومن لا فلا، وأما القرب الناشئ من السجود فمتوقف على فعل العبد، وخاص به، فناسب كل محل ما ذكر فيه، ووُجِّه ذلك بغير ما ذكرته، وما ذكرته أحسن وأبين، كما لا يحفى على متأمل. فتح الإله في شرح المشكاة (5/72).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
وقد قيل: إن جوف الليل إذا أطلق فالمراد به وسطه، وإن قيل: جوف الليل الآخر فالمراد وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي ورد فيه النزول الإلهي. جامع العلوم والحكم (2/ 145).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
وجوف الليل الآخر: إنما هو الجزء الخامس من أسداس الليل. غريب الحديث (1/ 134).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قال الخطابي: وغيره: المراد بالجوف هنا الثلث، أي: الثلث الآخر، والتقدير: في جوف الليل الثالث الآخر، والآخر صفة للثلث المقدَّر، وقال بعض الشارحين: المراد به: النصف، أي: النصف الآخر، والأول أقرب معنى. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (172).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «في جوف الليل الآخر»، «الآخر» صفة لـ«جوف»، يعني: في آخر الليل، وإنما كان هذا الوقت شريفًا؛ لأنه الوقت الذي ينادي الله تعالى فيه عباده فيقول: «مَن يدعوني فأستجيب له...» إلى آخر الحديث. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 276).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «في جوف الليل الآخر» يحتمل: أن يكون حالًا من «الرب» أي: قائلًا في جوف الليل: «مَن يدعوني فأستجيب له...» الحديث سدَّت مَسَدَّ الخبر، أو من «العبد» أي: قائمًا في جوف الليل، داعيًا مستغفرًا على نحو قولك: سرني قائمًا، ويحتمل أن يكون خبر «الأقرب»...
قوله: «الآخر» صفة لـ«جوف الليل» على أن يُنَصَّف الليل، ويُجعل لكل نصف جوف، والقُرب يحصل في جوف النصف الثاني، وابتداؤه يكون من الثلث الأخير، وهو وقت القيام للتهجد. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1207).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«في جوف الليل الآخر» صفة لـ«جوف» أي: في النصف الآخر من الليل. شرح المصابيح (2/ 168).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«في جوف الليل» خبر أقرب، أي: أقربيَّته تعالى من عباده كائنة في الليل؛ لأنه محل التجلي المعبَّر عنه بالنزول. مرقاة المفاتيح (3/ 928).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «في جوف الليل» يحتمل كونه حالًا من العبد أو الرب، والتركيب من قبيل قوله: وأَخْطَبُ ما يكون الأمير قائمًا، وهذا أتم من قوله: «وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» على مثال قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة: 40، والثاني نحو قوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} الشعراء: 62، وفي صلاة الليل كِلَا الحالتين حاصلة، فتدبر. لمعات التنقيح (3/ 340).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«في جوف الليل» ثلثه «الآخر»؛ فإنه الوقت الذي ينادي الله فيه عباده بـ: «هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه سؤاله؟». التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 9).
قوله: «فإنِ استطعت أن تكون ممَّن يذكرُ الله في تلك الساعة فَكُنْ»:
قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
قوله: «فإن استطعتَ أن تكون» الفاء سببية، «ممن يذكر الله -عز وجل-» أي: من الذين يشتغلون في تلك الساعة بشيء من الذكر من صلاة أو استغفار وتوبة؛ لما ورد في الحديث المنوَّه عنه سابقًا من قوله: «هل من داعٍ فأستجيب له؟»، وقوله: «في تلك الساعة» أي: المذكورة وهي جوف الليل الآخر، وقوله: «ممن يذكر الله» خبر لـ«تكون»، وقوله: «فكن» أي: كن منهم، فاسم كان مستتر وخبرها محذوف تقديره: كن منهم، والفاء واقعة في جواب الشرط. شروق أنوار المنن الكبرى (4/ 1235).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وفي قوله: «فإن استطعت» إشارة إلى تعظيم شأن الأمر وتفخيمه، وفوز مَن يستسعد به، ومن ثَمّ قال: «أن تكون ممن يذكر الله» أي: تنخرط في زمرة الذاكرين لله، ويكون ذلك مساهمة فيهم، وهو أبلغ من أنه لو قيل: إن استطعتَ أن تكون ذاكرًا. الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1208).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله» أي: من الذين يذكرون الله ويكون لك مساهمة معهم، وأُفرد الضمير مراعاة للفظ (مَن) «في تلك الساعة فكُنْ» وهذا أبلغ مما لو قيل: إن استطعتَ أن تكون ذاكرًا فكُنْ؛ لأن الصيغة الأُولى فيها صيغة عموم فهي شاملة للأنبياء والعلماء والأولياء فيكون داخلًا في جملتهم ولاحقًا بهم بخلاف الثانية. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 274).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فإن استطعتَ» أي: قدرتَ ووُفِّقتَ «أن تكون ممن يذكر الله» في ضمن صلاة أو غيرها «في تلك الساعة» إشارة إلى لُطفها، «فكُنْ» أي: اجتهد أن تكون من جملتهم؛ فلعلك تتقرب إلى الله ببركتهم. مرقاة المفاتيح (3/ 928).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فإنِ استطعتَ أنْ تكونَ ممَّن يذكرُ اللهَ» أي: أنْ ينتظم في سلك الذاكرين لتُعَدَّ منهم، ويُفاض عليك مِن مَدَدهم، فهو أبلغ من أنْ يذكر نظير قولهم: وإنه لمن الصالحين، أبلغ من: وأنه لصالح .فتح الإله في شرح المشكاة (5/72-73).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكُنْ» له ذاكرًا؛ فهي ساعة قُربه وإجابته. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 9).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله -عز وجل-» بالصلاة، وإنما قدَّرنا هذا لدلالة قوله: «فإن الصلاة محضورة» إلخ، وعند أبي داود: «فصلِّ ما شئتَ؛ فإن الصلاة» إلخ، «في تلك الساعة» أي: ساعة جوف الليل الآخر، «فكُنْ» خبر «كن» محذوف، يدل عليه ما سبق، أي: منهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (7/ 351).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
وفيه: تنبيه على أن آخر الليل للصلاة والدعاء والاستغفار وغيرها من الطاعات أفضل من أوَّله والله أعلم. فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب (4/ 282).