الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ نقيضًا من فوقِه فرفعَ رأسَهُ فقال: «هذا بابٌ من السماءِ فُتِحَ اليومَ، لم يُفتحْ قطُّ إلا اليومَ، فنزلَ منه ملكٌ فقال: هذا ملكٌ نزلَ إلى الأرضِ، لم ينزل قطُّ إلا اليومَ، فسَلَّمَ وقال: أبشرْ بنورين أُوْتِيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَكَ: فاتحةَ الكتابِ وخواتيمَ سورةِ البقرةِ، لن ‌تَقرأَ ‌بحرفٍ ‌منهما إلا أُعطيتَهُ».


رواه مسلم برقم: (806)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«نَقِيْضًا»:
أي: صوتًا شديدًا، كصوت نقْضِ خشب البِناء عند كَسْرِهِ، وقيل: صوتًا مثل صوت الباب. مرقاة المفاتيح، للقاري (4/ 1464).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
النَّقِيضُ: هو الصوت من غير الفم كفرقعة الأعضاء والأصابع والمحامل (شِقَّان على البعير ‌يحمل فيهما الأمتعة) ونحوها. مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 24).


شرح الحديث


قوله: «بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«بينا» من ظروف الزمان وكذلك «بينما»، ويضاف إلى جملة من المبتدأ والخبر، وإلى جملة من الفعل والفاعل، ويستدعي في الصورتين جوابًا كما يستدعيه إذا ولما، قال الشاعر:
فبينا نحن نرقبُه أتانا *** مُعَلَّق شِكْوَةٍ (وعاء) وزِنادِ راعِ. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 495).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«بينما جبريل -عليه الصلاة والسلام- قاعدًا» وفي نسخة بالرفع وهو الظاهر، وهو كذلك في أصل الحصن (الحصن الحصين لابن الجزري)، ولعل نصبه على تقدير (كان) «عند النبي -صلى الله عليه وسلم-»... وقال ميرك: بينا وبينما وبين معناها الوسط، وبين ظرف إما للمكان كقولك: جلستُ بين القوم وبين الدار، أو للزمان كما هنا، أي: الزمان الذي كان جبريل قاعدًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-. مرقاة المفاتيح (4/ 1464).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«بينما جبريل» وفي نسخة: «جبرائيل»، وقد تقدم الكلام على «بينما» غير مرة، وهي (بين) زِيْدَتْ عليها (ما)، وتضاف إلى جملة، وتتضمن معنى الشرط، فتحتاج إلى جواب يتم به معناها، وهو قوله: «سمع نقيضًا» أي: بين أوقات وحالات كون جبريل -عليه السلام- عنده -صلى الله عليه وسلم- ...
وقوله: «جبريل» مبتدأ، خبره قوله: «قاعد عند النبي -صلى الله عليه وسلم-». البحر المحيط الثجاج (16/ 365).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«بينا جبريل عند النبي -صلى الله عليه وسلم-» أي: بين أوقات وحالات كان هو عنده، والعامل فيه: «سمع نقيضًا». تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 527).
وقال البيضاوي -رحمه الله- أيضًا:
ولعل ابن عباس سمع ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وترك الإسناد لوضوحه، ولا يبعد أن يقال: قد اتفق له وقت، فانكشفت له الحال، وتمثَّل له جبريل والملك النازل، كما تمثَّلا للرسول -صلوات الله عليه-، فشاهدهما وسمع مقالتهما مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم بحقائق ذلك. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة(1/ 528).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
الاحتمال الأوَّل هو الأقرب والأوضح، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج(16/ 366).

قوله: «سَمِعَ نقيضًا من فوقِه فرفع رأسه»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«سمع» وفي نسخة: «إذ سمع» أي: جبريل «نقيضًا» أي: صوتًا شديدًا كصوت نقْضِ خشب البناء عند كسره، وقيل: صوتًا مثل صوت الباب، «مِن فَوْقِه» أي: مع جهة السماء، أو من قِبَل رأسه «فرفع» أي: جبريل «رأسه». مرقاة المفاتيح (4/ 1464).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«والنَّقِيض» صوت المحامل والرِّحَال وما أشبه ذلك، وحقيقة الانتقاض ليست الصوت وإنما هي انتقاض الشيء في نفسه حتى يكون منه الصوت، وقوله: «سَمِعَ» مسندٌ إلى جبريل، ويحتمل الإسناد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على بُعد فيه؛ لما يدل عليه نسق الكلام. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 495).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«سمع نقيضًا» أي: صوتًا، ويكثر استعماله في صوت الرِّحال والمحامل، والإنقاض: التصويت، والضمائر الثلاثة التي في «سمع» و«رفع» و«قال» راجعة إلى جبريل؛ لأنه أكثر اطلاعًا على أحوال السماء، وأحق بالإخبار عنها؛ ولِمَا اتفق له -عليه السلام- في ذلك اليوم من معارفة واتصال بملك لم يكن له معه سابقة عرفان، ولا لمن قبله من الأنبياء -عليهم السلام-، وأوحي إليه بالبشرى العظيمة التي اختص بها، كان ذلك فتح باب سماوي لم يُفتح قبله، لا عليه ولا على غيره. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 527).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «سمع نقيضًا» أي: سمع رسول الله -عليه السلام- صوتًا من قِبَل السماء، «فرفع» رسول الله -عليه السلام- «رأسه». المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 76).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «إذ سمع نقيضًا» أي: صوتًا مثل صوت الباب والمحامل والرِّحَال، والأوَّل هو الأنسب بقوله: «فُتِحَ»، والضمير فيه وفي «رفع» و«قال» لجبرائيل، وقيل: الأَولى أن في الأولين للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي «قال» لجبريل. لمعات التنقيح (4/ 548).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«سمع» الظاهر أن الضمير لجبريل -عليه السلام-، وفي رواية النسائي: «بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعنده جبريل -عليه السلام إذ سمع»، والظاهر عليه أن الضمير في «سمع» للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا تنافي بينهما؛ لاحتمال أن يكون كل منهما سمع النقيض، والله تعالى أعلم... «من فوقه» متعلق بمحذوف صفة لـ«نقيضًا» أي: كائنًا من فوقه، وفي رواية الحاكم: «من السماء» أي: من جهة السماء، «فرفع رأسه» أي: لينظر إلى سبب النقيض المسموع، وفي رواية النسائي: «فرفع جبريل -عليه السلام- بصره إلى السماء». البحر المحيط الثجاج (16/ 366).

قوله: «فقال: هذا بابٌ من السماءِ فُتِح اليوم، لم يفتحْ قطُّ إلا اليومَ»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
«فقال: هذا باب من السماء» فهذه الأفعال الثلاثة (سمع، رفع، قال) مسندةٌ إلى شخص واحد، وإذ قد علمنا أن جبريل -عليه السلام- كان هو الذي يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبر السماء ويخبره عنها وعما اشتملت عليه، علمنا أن الْمُخْبِر عن الباب الذي لم يُفتح قط هو جبريل لا النبي؛ لأنه كان أمين الوحي ولم يكن النبي ليخبر جبريل عن أمر السماء، فعرفنا أن إسناد قوله: «سمع» إلى جبريل. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 495).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «سمع نقيضًا» أي: سمع رسول الله -عليه السلام- صوتًا مِن قِبَلِ السماء، «فرفع» رسول الله -عليه السلام- رأسه، «فقال» له جبريل: «‌فُتِحَ ‌الآن ‌باب ‌من ‌أبواب ‌السماء، لم يُفتح هذا الباب قبل هذه الساعة...» إلى آخر الحديث. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 76).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فقال: هذا باب من السماء» أي: الدنيا؛ لأن الأصح الأَشْهَر الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة: أنَّ القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملةً إلى بيت العزة في سماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزل بعد مفصلًا بحسب المصالح والوقائع في عشرين أو ثلاث أو خمس وعشرين على خلاف في بدء آياته -صلى الله عليه وسلم- بمكة بعد البعثة، وكان جبريل يعارضه في رمضان ما نزل به عليه في طول السَّنة، ثم رُتِّب ترتيبه المعهود في عهده -صلى الله عليه وسلم-. فتح الإله في شرح المشكاة (7/109).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فقال» أي: جبريل... «هذا» أي: هذا الصوت «باب» أي: صوت باب «من السماء» أي: من سماء الدنيا «فُتح اليوم» أي: الآن «لم يُفتح قط إلا اليوم». مرقاة المفاتيح (4/ 1464).
وقال النووي -رحمه الله-:
أما (قط) ففيها لغات: (قَطُّ) و(قُطُّ) بفتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة، و(قَطِّ) بفتح القاف، وكسر الطاء المشددة، و(قَطْ) بفتح القاف وإسكان الطاء، و(قَطِ) بفتح القاف وكسر الطاء المخففة، وهي لتوحيد نفي الماضي. شرح صحيح مسلم(15/ 70-71).

قوله: «فنزلَ منه مَلَكٌ فقال: هذا مَلَكٌ نزلَ إلى الأرضِ، لم ينزل قطُّ إلا اليومَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فنزلَ منه مَلَكٌ» هذا من قول الراوي في حكايته لحالٍ سمعه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو بلغه منه، «فقال» أي: جبريل أو النبي -صلى الله عليه وسلم-: «هذا» أي: النازل «مَلَكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم». مرقاة المفاتيح (4/ 1464).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قيل: المراد بالْمَلَكِ النازل إسرافيل -عليه السلام-، وفتح باب لم يفتح قط لنزول مَلك لم ينزل قط؛ لشرف ما نزل به الملك. الأزهار شرح مصابيح السنة مخطوط لوح (224).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فنزل» الظاهر أنه عطف على «فُتح» فهو من تتمة كلام جبريل، وفي الحاشية أنه كلام الراوي، ويلائمه قوله: «فقال» أي: جبريل: «هذا مَلك نزل» فإنه على المعنى الأول يكون فيه شائبة تكرار. لمعات التنقيح (4/ 548).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
هذا يدل على أنه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة مَلَك غير جبريل، وقيل: إن جبريل نزل قبل هذا الْمَلك معلمًا ومُخبرًا بنزول الملك فهو مشارك له في إنزالها.
وقال القرطبي: إنّ جبريل نزل بها أولًا بمكة ثم أُنزل هذا الملك ثانيًا بثوابها.تحفة الذاكرين(ص: ٣٩٧)
وقال أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله-:
قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن ‌جبريل -عليه السلام- لم ينزل بسورة الحمد (لهذا الحديث)... وليس كما ظن، فإن هذا الحديث يدل على أن ‌جبريل -عليه السلام- تقدم ‌الملك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- معلمًا به وبما ينزل معه، وعلى هذا يكون ‌جبريل شارك في نزولها، والله أعلم.
قلتُ: الظاهر من الحديث يدل على أن ‌جبريل -عليه السلام- لم يُعْلِم النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من ذلك، وقد بيَّنا أن نزولها كان بمكة، ‌نزل بها ‌جبريل -عليه السلام-؛ لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الشعراء: 193، وهذا يقتضي جميع القرآن، فيكون ‌جبريل -عليه السلام- ‌نزل بتلاوتها بمكة، ونزل ‌الْمَلك بثوابها بالمدينة، والله أعلم.
وقد قيل: إنها مكية مدنية، نزل بها جبريل مرتين، حكاه الثعلبي، وما ذكرناه أَولى؛ فإنه جمع بين القرآن والسُّنة، ولله الحمد والمنة. الجامع لأحكام القرآن (1/ 116).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا:
عندي الأَوْجَه أن يقال: إن جبريل -عليه السلام- نزل بهما أولًا قبل ذلك، ثم نزل ذلك الملَك في ذلك اليوم ثانيًا؛ لبيان فضلهما وثوابهما، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (16/ 367).
قوله: «فسَلَّم وقال: أبشرْ بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَكَ: فاتحةَ الكتابِ وخواتيمَ سورةِ البقرةِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فسلَّم» أي: الملك على النبي -صلى الله عليه وسلم- «فقال»، وفي نسخة صحيحة: «وقال» أي: الملك: «أبشر» بفتح الهمزة وكسر الشين أي: افرح «بنورين» سمَّاهما نورين؛ لأن كل واحدة منهما نور يسعى بين يدي صاحبهما، أو لأنهما يُرشدان إلى الصراط المستقيم بالتأمل فيه والتفكر في معانيه أي: بما في آيتين منورتين، «أوتيتَهما لم يؤتهما» بصيغة المجهول أي: يُعطهما «نبي قبلك: فاتحة الكتاب» بالجر وجوز الوجهان الآخران، «وخواتيم سورة البقرة» قال ميرك: كذا وقع في جميع النُّسخ الحاضرة المقروءة عند الشيخ، وكذا في أصل مسلم والنسائي والحاكم، وفي نسخة: «وآخر سورة البقرة» اهـ، والمراد: {آمَنَ الرَّسُولُ} البقرة: 285 كذا قيل، وتبعه ابن حجر (الهيتمي)، والأظهر بصيغة الجمع أن يكون من قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} البقرة: 284، ثم رأيتُ ابن حجر (الهيتمي) قال: فما لم تنزل على أحد من الأنبياء آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، وأوَّل تلك الخواتيم {آمَنَ الرَّسُولُ} البقرة: 285، وروي عن كعب أوَّلها: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} البقرة: 284. مرقاة المفاتيح (4/ 1464).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك» إنْ قيل: القرآن كله كذلك، فما وجه اختصاص هذين بذلك؟
قلتُ: لعل وجهه: أنهما اشتملا على المعاني الجامعة المتعلقة بالألوهية وتوابعها، مع وجَازَة لفظهما، وبراعة نظمهما على ما لم تشتمل بقية كتب الله على مثله، «فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة» وهو: {آمَنَ الرَّسُولُ} البقرة: 285. فتح الإله في شرح المشكاة (7/112).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
«فقال: أبْشِرْ بنورين» أي: لأن كلًّا منهما يكون لصاحبه نورًا يوم القيامة يسعى أمامه؛ لإجلاله وتعظيمه، أو في الدنيا؛ بالتأمل في معانيهما، كناية عن هدايته بسبب ذلك إلى الصراط المستقيم. فتح الإله في شرح المشكاة (7/112).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وقوله: «بنورين» أي: بأمرين عظيمين نيِّرَيْنِ، تُبين لقارئهما وتُنَوِّره، وخُصت الفاتحة بهذا؛ لما ذكرناه من أنها تضمنت جملة معاني الإيمان والإسلام، والإحسان، وعلى الجملة: فهي آخذة بأصول القواعد الدينية، والمعاقد المعارفية، وخُصت خواتيم سورة البقرة بذلك لما تضمنته من الثناء على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أصحابه -رضي الله عنهم- بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم لمعناها، وابتهالهم إلى الله، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم؛ ولما حصل فيها من إجابة دعواتهم، بعد أن علموها، فخفف عنهم، وغفر لهم، ونصروا، وفيها غير ذلك مما يطول تتبعه. المفهم (2/ 434).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وإنما سماهما: «نُورين» لأن كلًّا منهما يكون لصاحبه في القيامة نورًا يسعى أمامه، أو لأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه والتفكر في معانيه إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم؛ وذلك لاشتمالهما على جملة ما تحويه الكتب السماوية مِن الحكم النظرية والأحكام العلمية والتصفية الروحانية، وبيان أحوال السعداء والأشقياء والترغيب على الطاعة والترهيب عن المعاصي بالوعد والوعيد إجمالًا، مع السؤال بشرطه لما فيه صلاح الدارين والفوز بالحسنين، فلذلك بُشِّر بالإجابة. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 527).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبي قبلك» أي: لم يؤتَ ثوابهما الخاص بقراءتهما، وإلا فغيرهما من القرآن لم يؤته نبي قبله. فتح المنعم (3/ 622).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «وخواتيم سورة البقرة» يعني: {آمَنَ الرَّسُولُ} البقرة: 285… إلى آخر السورة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 76).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
قوله: «فاتحة الكتاب» سميت بذلك؛ لأنه يفتح بها في المصاحف فتُكتب قبل جميع السور، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وسميت أم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن: من الثناء على الله تعالى، والتعبد بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وعلى ما فيها من ذكر الذات والصفات والفعل، واشتمالها على ذكر المبدأ والمعاد والمعاش.
ولها أسماء أخرى: الكنز، والوافية، والشافية، والكافية، وسورة الحمد، والحمد لله، وسورة الصلاة، وسورة الشفاء، والأساس، وسورة الشكر، وسورة الدعاء. تطريز رياض الصالحين (ص: 598- 599).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
والمراد به الجملة الواقعة فيهما مثل {اهْدِنَا}، و{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا}، وغير ذلك من المطالب، أي: أُجيبت دعواتك، أو المراد أُعطيتَ ثوابه، أي: يكون ألبتة مقبولًا ومجزئًا، وعلى هذا المراد بـ«الحرف» أجزاء الكلمات من حروف التهجي، فقد ورد: إن لكل حرف من القرآن جزاء، وعليه ثواب. لمعات التنقيح (4/ 548- 549).

قوله: «لن ‌تَقرأَ ‌بحرفٍ ‌منهما إلا أُعطيتَهُ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لن تَقرأ» الخطاب له -عليه الصلاة والسلام- والمراد هو وأمَّته؛ إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أُنزل عليه إلا ما اختص به، «بحرف منهما» أي: بكل حرف من الفاتحة والخواتيم... وقوله: «إلا أُعطيتَه» حال، والمستثنى منه مقدَّر أي: مستعينًا بهما على قضاء ما يَسنح من الحوائج إلا أعطيته... قال ميرك: ويمكن أن يراد بالحرف حرف التهجي، ومعنى قوله: «أُعْطِيتَه» حينئذٍ أُعطيتَ ما تسأل من حوائجك الدنيوية والأخروية. مرقاة المفاتيح (4/ 1464- 1465).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وفيه: «لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيتَها» الباء في قوله: «بحرف» زائدة كقولك: أخذتُ بزمام الناقة وأخذتُ زمامها، ويجوز أن يكون لإلزاق القراءة به، وأراد بالحرف -والله أعلم- الطرف منها؛ فإن حرف الشيء طَرَفه، وكنَّى به عن جملة مستقلة بنفسها أي: أُعطيتَ ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الفاتحة: 6، وكقوله: {غُفْرَانَكَ} البقرة: 285، وكقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} البقرة: 286، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} البقرة: 286، ونظائره، ويكون التأويل فيما شذَّ من هذا القبيل من حمدٍ وثناء أن يُعطى ثوابه. الميسر في شرح مصابيح السنة (2/ 496).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«لن تَقرأ بحرف منهما» أي: بكلام فيه سؤال، مثل: {اهْدِنَا} الفاتحة: 6، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} البقرة: 285، و{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا} البقرة: 286، «إلا أُعطيتَه»؛ فإن الحرف يطلق ويراد به الكلام، كما يطلق ويراد به اللغة، وقوله: «إلا أُعطيتَه» يخصه ويقيده بما فيه دعاء. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 528).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «إلا أُعطيتَه» يعني: أُعطيت ثواب ما تقرأ، أو أُعطيت ما تسأل من الله الكريم من حوائجك في الدنيا والآخرة. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 77).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وأقول: يمكن أن يقال: إنَّ (قَرَأَ) ها هنا مضمَّن معنى: تحرَّى واستعان، أي: مَن اجتهد في الطلب، واستعان بهما في القراءة أُعطي ما تحرى بهما، وقوله: «إلا أعطتَه» حال، والمستثنى مَن قدر، أي: مستعينًا بهما على قضاء ما يسنح من الحوائج كما يفعله الناس إلا أعطي، أو يقدَّر صفة، أي: لم يقرأ حرفًا منها مشتملًا على دعاء وسؤال إلا أعطيه، أما الحمد والثناء والتمجيد فيُعطى ثوابها، وأما الدعاء والسؤال فيسعف بمطلوبه، ويستجاب له، فيوافق هذا التأويل حديث أبي هريرة: «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل».
وتحرير معنى الدعاء في الفاتحة هو: أن المطلوب فيها الهداية المشتملة على النعمة المطلقة، فيتناول نعمة الدارين، ظاهرها وباطنها، جليلها ودقيقها، حتى لا يشذ منها شيء، وعلى التوقي مِن غضب الله وسخطه مطلقًا، دنيا وعقبى، ومن جميع الأخلاق الذميمة، والضلالات المتنوعة، وما يعوجه عن الطريق المستقيم، وعلى هذا خاتمة سورة البقرة؛ فإن قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} البقرة: 285 إلى قوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا} البقرة: 285، اشتمل على معنى التصديق والاعتقاد، ومنه إلى قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا } البقرة: 286 على بيان الانقياد بالسمع والطاعة لما أمر الله تعالى به، ونهى عنه، ومنه إلى آخره على الدعاء الجامع لفلاح الدارين والفوز بالحسنيين. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1647- 1648).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
وفي الحديث: إثبات الحرف؛ لقوله: «لن تقرأ بحرف منهما». الإفصاح (3/ 239).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله- أيضًا:
في هذا الحديث: ما يدل على تكريم هذه الآيات؛ بأن فُتح لها باب لم يُفتح قبلُ، وأُرسل بها مَلك لم يُرسَل قبلُ، وتسميتها بنورين، وأنه لم يؤتها نبي قبل محمد -صلى الله عليه وسلم-. الإفصاح (3/ 239).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قد يُشكل هذا الحديث فيقال: كأنَّ سورة البقرة أوتيها نبي قبله، أو آل عمران أو غير ذلك من القرآن، فكيف خصَّ الفاتحة وخواتيم البقرة؟
والجواب: أن المقصود ما فيهما؛ فإن الفاتحة قد علمنا فيها سؤال الصراط المستقيم، وقد وُهب لأمَّتنا فيها ما لم يُوهب لمتقدمي الأمم، وسلمت من أوصاف المغضوب عليهم وهم اليهود، والضالين، وهم النصارى، وآمنت بجميع كتب الله ورسوله، ولم تفرق بين رسول ورسول كما فرَّقت الأمم قبلها في الإيمان بالرسل، وقالت: سمعنا وأطعنا، وقد قال مَن قبلها: وعصينا، وعُفي لها عن الخطأ والنسيان، ولم يُحمل عليها إصرًا -وهو الثقل- كما حُمل على مَن قبلها، ولا ما لا طاقة لها به، فإن قال قائل: فقد قال: «افترقت أمَّة موسى وعيسى، وستفترق أمَّتي». فالجواب: أن الفِرقة الناجية من هذه الأمَّة أكثر من الفِرَق الضالة من غيرها، فهذه الأمَّة إلى السلامة أقرب، وإذا أردتَ اعتبار الأحوال فانظر إلى قوم موسى، كيف عُرضت لهم غزاة في العمر فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} المائدة: 24، وكان أصحاب نبينا -عليه السلام- يستجيبون له مع الجراح والقَرْحِ، وأولئك يقولون لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} الأعراف: 138، وهؤلاء يتلو أطفالهم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1، وقد سبق في المتفق عليه من مسند ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة»، وقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أهل الجنة مائة وعشرون صفًّا، أمَّتي منهم ثمانون». كشف المشكل (2/ 456).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
ومن السور المعينة والآيات المعينة: سورة الفاتحة وآيتان من آخر سورة البقرة؛ فإنهما ما قرأهما واحد من هذه الأمة مؤمنًا إلا آتاه الله تعالى ما فيهما من الطلب، وفي سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الفاتحة: 6، 7 قال الله تعالى لعبده إذا قرأها في الصلاة: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
وأما آخر سورة البقرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} البقرة: 286 سبع جُمَل دُعائية ما يدعو بهن مؤمن موقنًا مؤمنًا إلا استجاب الله له، وهذه ميزة وفضل عظيم، نسأل الله تعالى أن يعفو عنا وعنكم وأن ينصرنا على القوم الكافرين. شرح رياض الصالحين (4/ 703- 704).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
(فوائد الحديث):
1-منها: بيان فضل فاتحة الكتاب.
‌2-ومنها: بيان فضل خواتيم سورة البقرة.
3-ومنها: بيان كرامة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربه؛ حيث أكرمه بما لم يكرم الأنبياء الذين قبله، فأعطاه هذين النورين.
4-ومنها: إثبات الأبواب للسماء، وأنها تُفتح وتُغلق، وأن بعض الملائكة لا ينزل إلى الأرض إلا لمثل هذه البشارة. البحر المحيط الثجاج (16/ 370- 371).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)


ابلاغ عن خطا