«مَنْ جاء يعبدُ اللهَ لا يشرك به شيئًا، ويُقِيمُ الصلاةَ، ويُؤتي الزكاة، ويصومُ رمضان، ويَجْتَنِبُ الكبائر، فإنَّ له الجنة»، وسأَلُوهُ: ما الكبائرُ؟ قال: «الإشراكُ باللهِ، وقتْلُ النَّفْسِ المسلمةِ، وفِرَارٌ يوم الزَّحْفِ».
رواه أحمد برقم: (23502) واللفظ له، والنسائي برقم: (4009)، وابن حبان برقم: (3247)، من حديث أبي أيوب -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6185) والتعليقات الحسان برقم: (3236).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الكبائرَ»:
جمع كبيرة، وهي ما تُوعِّدَ عليه بخصوصه في الكتاب أو السُّنة، بنحو لعن، أو غضب، وقيل: غير ذلك. التيسير، للمناوي (1/ 35).
«الزَّحْف»:
أي: القتال، وأصل الزَّحْف: المشيء المتثاقل؛ كالصَّبِيِّ يَزحَفُ قبل أنْ يمشي، والبعيرِ إذا أعيا؛ فَجَرَّ فرَسَنَهُ (طرف خفه)، وقد سُمِّيَ الجيشُ بالزَّحف؛ لأنَّه يُزحَفُ فيه. المفهم، للقرطبي (1/ 284).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الزَّحْف: الجيش الدَّهم الذي يُرى لكثرته كأنه يزحف، أي: يَدُبُّ دبيبًا، مِن زَحْفِ الصبي، إذا دَبَّ على استه قليلًا قليلًا. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1855).
شرح الحديث
قوله: «مَنْ جاء يعبدُ اللهَ، لا يُشْرِكُ به شيئًا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«مَن جاء» أي: في يوم القيامة «يعبدُ اللَّهَ» أي: يُوحِّده «ولا يُشْرِكُ به شيئًا» تأكيد لما قبله، ولا يضرُّه صورة العطف للمغايرة بالمفهوم، أو معنى «يعبد اللَّه» يُطيعه فيما يُطيقه، فما بعده إلى قوله: «ويجتنب الكبائر» تخصيص بعد تعميم. ذخيرة العقبى (31/ 282).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لا يُشرك به شيئًا» أي: مِن شرك جَلِيٍّ، أو خفي. مرقاة المفاتيح (9/ 3741).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-:
الشرك: هو أنْ يجعل لله ندًا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة، فهذا الشرك لا يبقى مع صاحبه من التوحيد شيء، وهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار. القول السديد شرح كتاب التوحيد (ص: 31).
قوله: «ويُقِيمُ الصلاةَ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «ويُقِيمُ الصلاةَ» أي: يُؤديها جامعةً لأركانها، وشرائطها، وآدابها. دليل الفالحين (5/ 46).
وقال الرازي -رحمه الله-:
ذكَروا في تفسير إقامة الصلاة وجوهًا:
أحدها: أنَّ إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أنْ يقع خلل في فرائضها وسُننها وآدابها، مِن أَقَامَ العُود إذا قوَّمه.
وثانيها: أنها عبارة عن المداومة عليها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المعارج: 34، وقال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} المعارج: 23، مِن قامت السوق إذا نَفَقَت، وإقامتها نَفَاقُها؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النَّافق الذي تتوجَّه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يُرغب فيه.
وثالثها: أنها عبارة عن التجرد لأدائها، وألا يكون في مؤديها فُتور، من قولهم: قام بالأمر، وقامت الحرب على ساقها، وفي ضدِّه: قَعَدَ عن الأمر، وتقاعد عنه إذا تقاعس وتثبَّط.
ورابعها: إقامتها عبارة عن أدائها، وإنَّما عبَّر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام بعض أركانها، كما عبَّر عنها بالقنوت وبالركوع وبالسجود، وقالوا: سبَّح، إذا صلى؛ لوجود التسبيح فيها، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الصافات: 143.
واعلم أنَّ الأَولى حمل الكلام على ما يحصل معه من الثناء العظيم؛ وذلك لا يحصل إلا إذا حَمَلنا الإقامة على إدامة فعلها من غير خلل في أركانها وشرائطها؛ ولذلك فإن القيِّم بأرزاق الجند إنما يوصف بكونه قيمًا إذا أعطى الحقوق من دون بخس ونقص؛ ولهذا يوصف الله تعالى بأنه قائم وقيُّوم؛ لأنه يجب دوام وجوده؛ ولأنه يديم إدرار الرزق على عباده. مفاتيح الغيب (ص: 199).
قوله: «ويُؤتي الزكاةَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ويُؤتي الزكاة» أي: إنْ كانت عليه. مرقاة المفاتيح (6/ 2460).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «ويؤتي الزكاة» أي: يعطيها مستحقها. البحر المحيط الثجاج (32/ 458).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
أعظم ما أوجبه الله من الحقوق المالية: الزكاة التي هي إحدى دعائم الإسلام، وأركانه، وهي قرينة الصلاة في أكثر الآيات القرآنية. مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (18/ 371).
قوله: «ويَصُومُ رمضانَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «ويصوم رمضان» أي: شهرًا في كل سَنة. مرقاة المفاتيح (1/ 120).
وقال النووي -رحمه الله-:
كون صوم رمضان ركنًا وفرضًا مجمعٌ عليه، ودلائل الكتاب والسُّنة والإجماع متظاهرة عليه، وأجمعوا على أنَّه لا يجب غيره، قال المصنف -رحمه الله- (الشيرازي): ويتحتم وجوب ذلك على كل: مسلم بالغٍ عاقل طاهر قادر مُقيم. المجموع (6/ 252).
قوله: «ويَجْتَنِبُ الكبائرَ»:
قال الساعاتي -رحمه الله-:
قوله: «ويجتنِبُ الكبائرَ» الكبائر جمع كبيرة، وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا؛ لِعِظَم أمرها، كالإشراك بالله... إلخ، وليست الكبائر محصورة في هذه الثلاث، بل كثيرة جدًّا، فمنها: الزنا وشرب الخمر، والربا وعقوق الوالدين، والغيبة والنميمة، وغير ذلك كثير، نجانا الله منها. الفتح الرباني (14/ 68).
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «ويجتنِبُ الكبائرَ» أي: يبتعد عنها. ذخيرة العقبى (31/ 282).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الكبائر: هي كل ما كَبُر من المعاصي، وعظم من الذنوب، واختلف في حدها على أقوال كثيرة، والأقرب أنها: كل ذنب رتَّب الشارع حدًّا عليه، وصرَّح عليه بالوعيد. التنوير (8/ 257).
وقال النووي -رحمه الله-:
قد اختلف العلماءُ في حد الكبيرة، وتمييزها من الصغيرة، فجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة، وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول والفقه وغيره. شرح مسلم (2/ 84).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
اختلفت الآثار وأقوال السلف والعلماء في أعداد الكبائر، وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وسُئل: أهي سبع؟ فقال: هي إلى السبعين، ويُروى إلى سبعمائة أقرب، وقال أيضًا: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنارٍ، أو غضبٍ، أو لعنة، أو عذابٍ، ونحوه عن الحسن.
وقيل: هي ما أوعد الله عليه بنار أو بِحَدٍّ في الدنيا، وعدُّوا الإصرار على الصغائِر من الكبائر، فروي عن عُمَرَ وابن عباس: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، وعن ابن مسعود وجماعة من العلماء: الكبائر جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه} النساء: 31...، وإلى ما نحى ابن عباس إليه من أنَّ كل ما عصى الله به كبيرة قال المحققون. إكمال المعلم (1/ 354-355).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
كلُّ ذنب أطلَقَ الشرعُ عليه أنَّهُ كبيرٌ أو عظيمٌ، أو أخبرَ بشدَّةِ العقابِ عليه، أو علَّق عليه حَدًّا، أو شَدَّدَ النكيرَ عليه وغلَّظه، وشَهِدَ بذلك كتابُ اللهِ أو سنةٌ أو إجماعٌ: فهو كبيرة. المفهم (1/ 284).
وقال الحليمي -رحمه الله-:
ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، فقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تنضمُّ إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة بانضمام قرينة إليها، إلا الكُفر بالله -عز وجل-، فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة، فأما ما عداه، فالأمر فيه ما ذكرته. المنهاج (1/396- 397).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
قلتُ: ومع ذلك فهو (الكفر) ينقسم إلى فاحش وأفحش. فتح الباري (12/ 184).
قوله: «فإنَّ له الجنَّةَ»:
قال ابن رجب -رحمه الله-:
لا ريب أنَّ مَن اجتنب الشرك والكبائر، والمعاصي كلها، فله الجنة. فتح الباري (1/ 78).
قوله: «وسَأَلُوهُ: ما الكبائرُ؟»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فسألوه» أي: الصحابة الذين كانوا حاضرين عنده -صلى الله عليه وسلم- حينما حدَّث بهذا الحديث «عن الكبائِرَ؟» أي: عن المراد بقوله: «ويجتنب الكبائر». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (31/ 282).
قوله: «قال: «الإشراكُ باللهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«قال» -صلى الله عليه وسلم-: «الإشراكُ باللَّهِ» خبر لمحذوف، أي: هي الإشراك باللَّه تعالى. ذخيرة العقبى (31/ 282).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الإشراك بالله» بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ. التنوير (8/ 258).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
«الإشراك بالله» يحتمل أنْ يُراد به: مطلق الكُفر، فيكون تخصيصه بالذِّكر لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب، فذُكِر تنبيهًا على غيره. إحكام الأحكام (2/ 274).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«الإشراك بالله» أي: الكفر بإشراك، أو بغيره، وذكر الإشراك؛ لأنه كان الغالب في عصره -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويشركونها مع الله في الألوهية. دليل الفالحين (8/ 533).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «الإشراك بالله» أي: جَعْلُ غير اللَّه شريكًا له، إما في الوجود، أو الخلق، أو العبادة، وفسَّروا الإشراك: بالكفر بأنواعه. لمعات التنقيح (1/ 296).
قوله: «وقتْلُ النَّفْسِ المسلمةِ»:
قال ابن علان -رحمه الله-:
قوله: «وقتل النفس» أي: عدوانًا. دليل الفالحين (8/ 533).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وقتل النفس المسلمة» أي: المعصومة الدَّم، وأما غير المعصومة بأنْ قتلَ نفسًا، فاستحق القصاص، أو زنى محصنًا، فاستحق الرجم، أو نحو ذلك، فليس داخلًا في هذا. ذخيرة العقبى (31/ 282).
قوله: «وفِرَارٌ يومَ الزَّحْفِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الفِرار: بكسر الفاء، أي: الهروب..
«يوم الزحف» أي: يوم الجهاد، ولقاء العدو في الحرب، والزحف: الجيش يزحفون إلى العدو، أي: يمشون، يقال: زحف إليه زحفًا، من باب نَفَعَ، إذا مشى نحوه، والله تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى (31/ 282).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«والفرار يوم الزحف» أي: الإدبار يوم الازدحام للقتال. التيسير (2/ 226).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
الفرار من الزحف: هو الهرب من القتال عند زحف العدو؛ حبًّا في الحياة، وكراهة في الموت. الفتح الرباني (14/ 68).
وقال النووي -رحمه الله-:
يحرم الانصراف عن الصف إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا، إلا متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى فئة، يستنجد بها، ويجوز إلى فئة بعيدة في الأصح. المنهاج (ص: 445).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
ولو ذهب سلاحُهُ، وأمكنه الرمي بالحجارة، لم يجز له الانصراف (الفرار) على تناقض فيه، وكذا من مات فرسه، وأمكنه القتال راجلًا، وجزم بعضهم بأنه إذا غلب ظنُّ الهلاك بالثبات من غير نكاية فيهم، وجب الفرار. تحفة المحتاج (9/ 243).
وقال القرطبي -رحمه الله-:
والتَّوَلِّي عن القتال إنَّما يكون كبيرةً إذا فَرَّ إلى غير فئة، وإذا كان العدو ضِعفَيِ المسلمين. المفهم (1/ 284).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قال القاضي عياض: وألحق العلماء بالكبائر الإصرار على الصغائر. فعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: "لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار"، يعني أن الكبيرة يمحوها الاستغفار، والصغيرة تُصبح كبيرة مع الإصرار.
قال النواوي: واختلف في حدِّ الإصرار، فقال عزُّ الدين: هو تكرار الصغيرة تكرارًا يشعر بقلة المبالاة إشعار الكبيرة بذلك، أو فعل صغائر من أنواع مختلفة بحيث يشعر ذلك.الكوكب الوهاج شرح المنهاج شرح صحيح مسلم(3/ ٣٣).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما ترجَم له المصنف -رحمه الله تعالى- (النسائي) وهو بيان بعض الكبائر.
ومنها: أنَّ من جاء يوم القيامة مُوحِّدًا، وملتزمًا لأحكام الإسلام، ومجتنبًا لكبائر الذنوب دخل الجنة.
ومنها: أنَّ فيه إشارة إلى أنَّه لا بد من هذه الأمور حتى يكون المكلف عابدًا له تعالى، وأنَّ مناط الأمر عليه، فمَن أتى بهذا القدر من الطاعة، فله الجنة، وإنْ قصَّر في غيره.
ومنها: أنَّ الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُم سَيِئَاتِكُم} الآية، النساء: 31، والله تعالى أعلم بالصواب. ذخيرة العقبى (31/ 283).