الأحد 21 شوّال 1446 هـ | 20-04-2025 م

A a

«صومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وانْسُكُوا لها، فإِنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلُوا ثلاثينَ، فإنْ شَهِدَ شاهدانِ، فصوموا وأَفْطِرُوا».


رواه أحمد برقم: (18895)، والنسائي برقم: (2116)، من حديث رجال من الصحابة -رضي الله عنهم-.
صحيح الجامع برقم: (3811)، إرواء الغليل برقم: (909).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«انْسِكُوا»:
النُّسْك والنُّسُك أيضًا: الطاعة والعبادة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى. النهاية، لابن الأثير (5/ 48).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
أي: تطوَّعوا لله لوقت رؤيته أو بعد رؤيته. السراج المنير (3/ 268).

«غُمَّ»:
بضم المعجمة، أي: حال بينكم وبين الهلال غيم. فيض القدير، للمناوي (4/ 214).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
ويقال: غُمَّ علينا الهلال: إذا حال دون رؤيته غيم أو نحوه، من غممتُ الشيء: إذا غطيته. النهاية، لابن الأثير (3/ 388).


شرح الحديث


قوله: «صوموا لرؤيته»:
قال السندي -رحمه الله-:
«صوموا» أي: صوم الفرض. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 133).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«صوموا» أي: انووا الصيام، وبيتوا على ذلك، أو صوموا إذا دخل وقت الصوم، وهو من فجر الغد. إرشاد الساري (3/ 357).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته» فمعناه: صوموا اليوم الذي يلي ليلة رؤيته من أوله، ولم يرد صوموا من وقت رؤيته؛ لأن الليل ليس بموضع صيام، وإذا رؤي الهلال نهارًا فإنما هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح -إن شاء الله-. التمهيد (2/ 42).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لرؤيته» اللام فيه للوقت، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الإسراء: 78، أي: وقت دُلوكها، يبينه حديث أبي البختري (يعني به: عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة، فلما نزلنا ببطن نخلة، تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قلنا: ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله مده للرؤية، فهو لليلة رأيتموه»). الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» ...، أي: لوقت الرؤية، وقد علم أنَّ الصوم الشرعي هو الإمساك عن المفطرات نهارًا، مع تبييت النية، فلا يرد أنه يلزم الصوم عند الرؤية وحالها، وقيل: اللام بمعنى: بعد. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اللام (يعني: في قوله: «لرؤيته») للتأقيت، لا للتعليل، كما زعمت الروافض، ولو كانت للتعليل لم يلزم تقديم الصوم على الرؤية أيضًا، كما تقول: أكرم زيدًا لدخوله، فلا يقتضي تقديم الإكرام على الدخول، ونظائره كثيرة، وحمله على التأقيت لا بد فيه من احتمال تجوز، وخروج عن الحقيقة؛ لأن وقت الرؤية -وهو الليل- لا يكون محلًّا للصوم. إحكام الأحكام (2/ 7).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- متعقِّبًا:
قلتُ: إذا حملنا «صوموا» على انووا الصيامَ، لم يكن فيه تجوز ألبتةَ -واللَّه أعلم-؛ إذ الليل كله ظرفٌ لإيقاع نية الصوم فيه. رياض الأفهام (3/ 380).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا الفاكهاني:
قلتُ: فوقع في المجاز الذي فرَّ منه؛ لأن الناوي ليس صائمًا حقيقة، بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر. فتح الباري (4/ 128).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» اللام فيها للتأقيت، لا للتعليل، وفيه مجاز المشارفة؛ لأن وقت الرؤية وهو الليل لا يكون محلًّا للصوم، وحتى من قال: إن المراد من الصوم: نيته، والليل كله ظرف للنية، أي: انووا الصيام، يلزمه كذلك مجاز المشارفة؛ لأن الناوي ليس صائمًا حقيقة، بل مشرف ومقارب للصوم، بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى طلوع الفجر. فتح المنعم (4/ 500).
وقال محمد المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «لرؤيته» الضمير للهلال على حد {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ص: 32، اكتفاء بقرينة السياق. تحفة الأحوذي (3/ 300).
وقال النووي -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» المراد: رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصح، هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور، فجوزه بعدل. شرح صحيح مسلم (7/ 190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في قوله: «صوموا لرؤيته» أنه لا يلزم صيام يوم الشك احتياطًا، بل لا يجوز عندهم، وعليه جمهور الفقهاء؛ للأثر الوارد في ذلك، خلافًا لأحمد في إيجاب صومه، وإن صح أنه من رمضان أجزاه، وروي صومه عن عائشة، وأسماء وابن عمر وطاوس.
وقال الأوزاعي والكوفيون: إن صامه وتبين أنه من رمضان أجزأه، وجمهورهم: لا يصومه، ولا يجزئه إن صامه، وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين، وكره محمد بن مسلمة من أصحابنا تحري ذلك آخر يوم؛ كما يكره تحرِّي صومه. إكمال المعلم (4/12-13).

قوله: «وأفطروا لرؤيته»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: هلال شوال، والرؤية مضافة إلى المفعول، وقد حذف الفاعل، أي: لرؤيتكم إياه. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وأفطروا» أي: لا تفطروا قبله بلا عذر مبيح. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 133).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: لا تفطروا قبل رؤية هلال شوال بلا عذر مبيح. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 289).

قوله: «وانسكوا لها»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
المراد: وتقرَّبوا بالصوم لوقت الرؤية وزمانها. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 18).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «وانسكوا لها» وهو أعم من قوله: «صوموا لرؤيته»؛ لأن النسك في اللغة: العبادة، وكل حق لله تعالى. نيل الأوطار (4/ 224).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وانسكوا» من نسك، من باب: نصر، والمراد: الحج، أي: الأضحية. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 133).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «وانسكوا» من النسك، والمراد به: الحج، أي: حجوا للرؤية أيضًا. حاشيته على مسند أحمد (4/386).
وقال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«وانسكوا لها» أمر من نَسَك يَنْسِك، من باب: نصر، أي: اذبحوا نُسُكَكُم، وهي الأضحية، أو المراد: أداء النسك، وهو الحج، فكل من الأضحية والحج لا بد له من رؤية هلال ذي الحجة. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 289).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«وأنسكوا لها» أي: تطوّعوا لله لوقت رؤيته، أو بعد رؤيته. السراج المنير (3/ 268).

قوله: «فإن غُمَّ عليكم فأكملوا ثلاثين»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«فإنْ غُم َّعليكم» بضم المعجمة، أي: حال بينكم وبين الهلال غيم. فيض القدير (4/ 214).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإن غُمَّ عليكم» بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم، والبناء للمفعول أي: حال بينكم، وبين الهلال غيم، أو ضباب. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 289).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قوله: «فإن غُمَّ عليكم» بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم، أي: الهلال، معناه: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غُمَّ وأُغْمِيَ وغُمِّيَ وغُمِيَ بتخفيف الميم، وتشديدها، والغين مضمومة فيهما، وهو من قولك: غممتُ الشيء إذا غطيته، فهو مغموم، ويقال أيضًا: غُبِيَ بفتح الغين المعجمة، وكسر الباء الموحدة، أي: خفي، ورواه بعضهم «غُبِّيَ» بضم الغين، وتشديد الباء الموحدة؛ لما لم يُسَمَّ فاعله، وهما من الغباء بالمد، وهو شبه الغبرة في السماء. طرح التثريب(4/ 117).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «فإن غُمَّ عليكم» أي: غُطِّيَ الهلال بغيم من غممتُ الشيء إذا غطيته، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أن يسند إلى الجار والمجرور، بمعنى: إن كنتم مغمومًا عليكم، وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأكملوا» من الإكمال، وهو بلوغ الشيء إلى غاية حدوده. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 17).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فأكملوا ثلاثين» أي: أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 289).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ثلاثين» إذ الأصل بقاء الشهر. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فأتموا ثلاثين» صومًا وإفطارًا؛ إبقاءً على الأصل. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 18).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «فأتموا ثلاثين يومًا» فيه الأمر بإتمام العدة. نيل الأوطار (4/ 224).

قوله: «فإنْ شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فإنْ شهد شاهدان»، وفي رواية أحمد: «فإن شهد شاهدان مسلمان»، وفي رواية الدارقطني: «فإن شهد ذوا عدل، فصوموا وأفطروا»، زاد في رواية الدارقطني: «وانسكوا» -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 289).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن شهد شاهدان» برؤية الهلال لرمضان وشوال. فيض القدير (4/ 214).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«فإن شهد شاهدان» عدلان برؤية الهلال. السراج المنير (3/ 268).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فصوموا وأفطروا» تمسك به من لم يوجب الصيام إلا بشاهدين. فيض القدير (4/ 214).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وإنْ شهد شاهدان مسلمان» بإطلاقه، يشمل الغيم وعدمه، فهو حجة على من لا يقبل بلا غيم إلا شهادة جَمّ غفير. حاشيته على مسند أحمد (4/386).
وقال السندي -رحمه الله- أيضًا:
«فإنْ شهد شاهدان» أي: ولو بلا علة، وإلا فمع العلة يكفي الواحد في رمضان، وقد مال إلى الأخذ بهذا الإطلاق بعض المتأخرين من أصحابنا، كالجمهور، وهو الوجه، واشتراط الجم الغفير بلا غيم لا يخلو عن خفاء من حيث الدليل -والله تعالى أعلم-. حاشية السندي على سنن النسائي (4/ 133-134).
وقال الشافعي -رحمه الله-:
فإنْ لم تَرَ العامةُ هلال شهر رمضان، ورآه رجل عدل، رأيتُ أنْ أقبله؛ للأثر والاحتياط. الأم (3/ 233).
وقال البويطي -رحمه الله-:
قال أبو حاتم عن الربيع قال الشافعي: وإذا شهد رجلان في آخر رمضان على رؤية الهلال بالنهار كان قبل الزوال أو بعده فلا تفطروا -وهو والله أعلم- هلال الليلة المستقبلة. مختصر البويطي (ص: 351).
وقال ابن الصباغ -رحمه الله- مُعلِّقًا:
وجملة ذلك: أنَّ المنصوص عليه في الكتب القديمة والجديدة: أنَّ الصوم يجب بشهادة واحد، وروى البويطي عنه أنَّه لا يجب إلا بشاهدين. الشامل (ص: 676).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
الذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أنَّ شهر رمضان يثبت برؤية شاهدي عدل، سواء كانت مصحية أو مُغَيِّمَة، فأما شهادة الواحد ففيها قولان: أحدهما: لا يقبل كشوال، والثاني: يقبل؛ لأن فيه احتياطًا لأمر العبادة بخلاف شوال.
قال صاحب الشامل (ابن الصباغ): المنصوص عليه في الكتب القديمة والحديثة: أن الصوم يجب بشهادة واحد، وروي عن البويطي: أنه لا يجب إلا بشاهدين.
ففي المسألة إذًا قولان:
أحدهما: أنه يثبت بواحد، وبه قال أحمد في الصحيح عنه، وإليه ذهب ابن المبارك.
والثاني: لا تقبل إلا بشهادة اثنين، وبه قال مالك والليث، والأوزاعي وإسحاق.
وقال الثوري مرة: شهادة رجلين أحب إليَّ، وقال: تجوز شهادة رجل وامرأتين في الأهلة.
وقال أبو حنيفة: في الصحو لا تقبل إلا الاستفاضة، وفي الغيم تقبل في هلال رمضان شهادة واحد، وفي غيره لا تقبل إلا شهادة اثنين.
فأما شهادة الإفطار: فلا تثبت إلا بشاهدين قولًا واحدًا، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال أبو ثور: تقبل فيه شهادة الواحد؛ قياسًا على الأخبار، وهو عنده إخبار عن مشاهدة فله أسوة أخبار الديانات.
وهذا القول المحكي في آخر الحديث عن الشافعي، أنه قال: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان، هو أحد قوليه اللذين ذكرناهما، ومستند هذا القول هو ما تقدم في هذا الحديث من قول علي -رضي الله عنه-: أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان، فإن هذا القول يدل على أن عليًّا لم يكن مُعَوِّلًا على قول هذا الشاهد الواحد لانفراده بالرؤية، ولكنه لم يكذبه احتياطًا لباب العبادة. الشافي في شرح مسند الشافعي (3/ 173-174).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
واختلفوا في شهادة الشاهد على هلال الصوم وهلال الفطر.
فقال قوم: لا تقبل في ذلك كله إلا شاهدي عدل، كذلك قال مالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والماجشون وإسحاق، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء، وهو قول الشافعي غير أنه قال: أحب إليَّ لو صاموا بشهادة العدل.
وقال الثوري مرة: شهادة رجلين أحب إليَّ، وقد قال: يجوز شهادة رجل وامرأتين في الأهلة.
وقال الليث بن سعد والشافعي، وعبد الملك بن الماجشون: لا تقبل فيه شهادة النساء.
وقال أبو ثور وطائفة من أهل الحديث: تقبل شهادة الواحد في الصوم والفطر.
وفيه قول ثالث: وهو أن يقبل الشاهد الواحد على هلال الصوم، ولا يقبل في الفطر، إلا شاهدين، هذا قول أحمد بن حنبل.
وفيه قول رابع: قاله النعمان (أبو حنيفة) قال: يجوز على هلال رمضان شهادة الرجل العدل وإن كان عبدًا، وكذلك الأَمَة، ولا يجوز في هلال الفطر إلا رجلان أو رجل وامرأتان إذا كانوا عدولًا، وكذلك قال يعقوب. الإشراف على مذاهب العلماء (3/ 112-113).
وقال النووي -رحمه الله-:
مذهبنا ثبوته (الهلال) بعدلين بلا خلاف، وفي ثبوته بعدل خلاف، الصحيح: ثبوته، وسواء أصحت السماء أو غيمت، وممن قال: يثبت بشاهد واحد: عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وآخرون، وممن قال: يشترط عدلان: عطاء، وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والليث والماجشون، وإسحاق بن راهويه، وداود.
وقال الثوري: يشترط رجلان أو رجل وامرأتان كذا حكاه عنه ابن المنذر.
وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة ثبت بشهادة واحد، ولا يثبت غير رمضان إلا باثنين، قال: وإن كانت مصحية لم يثبت رمضان بواحد، ولا باثنين، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة.
واحتُجَّ لأبي حنيفة بأنه يبعُدُ أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة، ولا مانع من الرؤية، ويراه واحد أو اثنان دونهم.
واحتج من شرط اثنين: بحديث الحارث بن حاطب وهو صحيح، واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه» وهو صحيح، حيث ذكره المصنف (الشيرازي)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني رأيتُ الهلال -يعني: رمضان- فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أَذِّنْ في الناس فليصوموا غدًا» رواه أبو داود، وهذا لفظه، والترمذي والنسائي وابن ماجه، والحاكم أبو عبد الله في المستدرك وغيرهم، وقال الحاكم: هو حديث صحيح، قال الترمذي وغيره: وقد روي مرسلًا عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير ذكر ابن عباس، وكذا رواه أبو داود من بعض طرقه مرسلًا، قال أبو داود والترمذي: ورواه جماعة مرسلًا، وكذا ذكره البيهقي من طرق موصولًا، ومن طرق مرسلًا، وطرق الاتصال صحيحة، وقد سبق مرات أن المذهب الصحيح: أن الحديث إذا روي مرسلًا ومتصلًا احتج به؛ لأن مع من وصله زيادة، وزيادة الثقة مقبولة، وقد حكم الحاكم بصحته -كما سبق-، فهذان الحديثان هما العمدة في المسألة.
وأما حديث طاوس عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: «إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين»؛ فرواه البيهقي وضعفه، قال: وهذا مما لا ينبغي أن يحتج به، قال: وفي الحديثين السابقين كفاية، ثم روى البيهقي بإسناده ما رواه الشافعي في المسند وغيره بإسناده الصحيح إلى فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-: أن رجلًا شهد عند علي -رضي الله عنه- على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس بالصيام، وقال: أصوم يومًا من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يومًا من رمضان».
والجواب: عمَّا احتج به أبو حنيفة من وجهين:
أحدهما: أنه مخالف للأحاديث الصحيحة فلا يعرج عليه.
والثاني: أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم لحسن نظره، أو غير ذلك، وليس هذا ممتنعًا؛ ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع، ووجب الصوم بالإجماع، ولو كان مستحيلًا لم ينفذ حكمه، ووجب نقضه.
والجواب: عمَّا احتج به الآخرون أن المراد بقوله: ننسك هلال شوال؛ جمعًا بين الأحاديث أو محمول على الاستحباب والاحتياط، ولا بد من أحد هذين التأويلين للجمع بين الأحاديث.
وحكى الماوردي عن بعض الشيعة: أنهم أسقطوا حكم الأهلة، واعتمدوا العدد؛ للحديث السابق في الصحيحين: «شهرا عيد لا ينقصان»، وبالحديث المروي: «صومكم يوم نحركم».
ودليلنا عليهم: الأحاديث المذكورة هنا، مع الأحاديث السابقة «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته»، والأحاديث المشهورة في الصحيحين: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الشهر تسع وعشرون» أي: قد يكون تسعًا وعشرين، وفي روايات: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر وحبس الإبهام في الثالثة» رواه البخاري ومسلم...، والجواب: عن «شهرا عيد لا ينقصان» أي: لا ينقص أجرهما، أو لا ينقصان في سنة واحدة معًا غالبًا، وقد سبق هذان التأويلان فيه مع غيرهما.
والجواب: عن حديث: «صومكم يوم نحركم» أنه ضعيف بل منكر باتفاق الحفاظ، وإنما الحديث الصحيح في هذا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود بإسناد حسن، ولفظه: «الفطر يوم تفطرون»، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» رواه الترمذي، وقال: هو حديث حسن صحيح -والله تعالى أعلم-. المجموع (6/ 282-284).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
واستدلوا (يعني: القائلين باعتبار شهادة الاثنين) بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الآتي، وفيه «فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا»، وبحديث أمير مكة الآتي، وفيه: «فإن لم نره وشهد شاهدا عدل»، وظاهرهما اعتبار شاهدين، وتأولوا الحديثين المتقدمين (يعني: في اعتبار قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة رجل واحد) باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي -صلى الله عليه وسلم- غيرهما.
وأجاب الأولون (يعني: الشافعي وأحمد) بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديثا الباب (وهما حديث ابن عمر، وحديث ابن عباس، في قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة الواحد) يدلان على قبوله بالمنطوق، ودلالة المنطوق أرجح، وأما التأويل بالاحتمال المذكور فتعسف وتجويز لو صح اعتبار مثله لكان مفضيًا إلى طرح أكثر الشريعة...، واختلف أيضًا في شهادة خروج رمضان، فحكي في البحر عن العترة جميعًا والفقها: أنه لا يكفي الواحد في هلال شوال.
وحكي عن أبي ثور أنه يقبل...، واستدل الجمهور بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم، وهو مما لا تقوم به حجة؛ لما تقدم من ضعف من تفرد به، وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وحديث أمير مكة الآتيان؛ فهما واردان في شهادة دخول رمضان، أما حديث أمير مكة فظاهر؛ لقوله فيه: «نسكنا بشهادتهما»، وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ففي بعض ألفاظه: «إلا أن يشهد شاهدا عدل»، وهو مستثنى من قوله: «فأكملوا عدة شعبان»؛ فالكلام في شهادة دخول رمضان، وأما اللفظ الذي سيذكره المصنف (يعني: ابن تيمية الجد) أعني قوله: «فإن شهد مسلمان فصوموا وأفطروا»؛ فمع كون مفهوم الشرط قد وقع الخلاف في العمل به هو أيضًا معارض بما تقدم من قبوله -صلى الله عليه وسلم- لخبر الواحد في أول الشهر، وبالقياس عليه في آخره؛ لعدم الفارق، فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات هذا الحكم به، وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة، فالظاهر: أنه يكفي فيه واحد قياسًا على الاكتفاء به في الصوم، وأيضًا التعبد بقبول خبر الواحد يدل على قبوله في كل موضع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد، كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر: ما قاله أبو ثور، ويمكن أن يقال: إن مفهوم حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قد عورض في أول الشهر بما تقدم، وأما في آخر الشهر فلا ينتهض ذلك القياس لمعارضته لا سيما مع تأيدهِ بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدم، وهو إن كان ضعيفًا فذلك غير مانع من صلاحيته للتأييد، فيصلح ذلك المفهوم المعتضد بذلك الحديث لتخصيص ما ورد من التعبد بأخبار الآحاد، والمقام بعدُ محل نظر، ومما يؤيد القول بقبول الواحد مطلقًا: أن قوله في أول رمضان يستلزم الإفطار عند كمال العدة استنادًا إلى قوله، وأجيب عن ذلك بأنه يجوز الإفطار بقول الواحد ضمنًا لا صريحًا، وفيه نظر. نيل الأوطار (4/ 222-223).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
الحاصل: أن القول بثبوت شهادة رجل واحد هو الحق، وبهذا تجتمع الأدلة، وأما الإفطار فلا بد من شاهدين؛ لصحة حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو ما أخرجه النسائي (7/ 267) بسند صحيح عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني جالستُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان، فصوموا وأفطروا» وهو حديث صحيح، ولصحة حديث أمير مكة، وهو ما أخرجه الدارقطني في سننه (2/ 167) بسند صحيح، عن حسين بن الحارث الجدلي، أن أمير مكة خطبنا، فنشد الناس، فقال: من رأى الهلال ليوم كذا وكذا؟ ثم قال: «عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية، فإن لم نره، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما»، قال: فسألتُ الحسين بن الحارث: من أمير مكة؟ قال: لا أدري، ثم لقيني بعد، فقال: هو الحارث بن حاطب، أخو محمد بن حاطب، قال الدارقطني: هذا إسناد متصل صحيح، ثم أخرجه بسند آخر، وزاد فيه: وقال: إن فيكم مَن هو أعلم بالله ورسوله، وأشار إلى رجل خلفه، قلتُ: من هو؟ قال: ابن عمر، فقال ابن عمر: بذلك أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
والحاصل: أن الإفطار لا بد فيه من شهادة شاهدين؛ لهذين الحديثين، وهما صحيحان، ولا معارض لهما -والله تعالى أعلم بالصواب-. البحر المحيط الثجاج (20/ 393-394).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
فيه: صريح الرد على الروافض الذين يرون تقديم الصوم على الرؤية؛ لأن رمضان اسم لما بين الهلالين، فإذا صام قبله بيوم فقد تقدم عليه. إحكام الأحكام (2/ 7).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
في هذا الحديث من الفقه: وجوب الصوم برؤية هلال رمضان، ولا يحل للصائم أن يفطر حتى يرى هلال شوال، إلا أنه إذا رأى هلال رمضان عدل واحد، وجب عليه صيامه وعلى الناس بقوله، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يُفرِّق بين الليلة المعتمة والمصبحة.
وأما هلال شوال فإن رآه عدل واحد لم يفطر، لا هو ولا غيره، إلا أن يوافقه عدل آخر احتياطًا للعبادة؛ ولأن الشاهد الواحد في حقوق الآدميين لا توجب شهادته، ولا تسقط بانفراده، فحقوق الله تعالى أولى أن يحتاط لها، فلا يسقط الصيام بشهادة الواحد، وإنما وجب الصوم في أول الشهر بقول الواحد احتياطًا للعبادة. الإفصاح (7/ 198-199).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا» تمسك به من يوجب الصيام إلا بشاهدين، وأنه يكفي كونهما مسلمين، وإن لم يعلم عدالتهما.
قلتُ: قد ثبت الصوم بشاهد واحد...، فالحديث هنا خرج على الغالب، ولا يخفى أن ذكر الرؤية والشهادة والإكمال يدل أنه لا طريق غير ما ذكر في الصوم والإفطار؛ إذ لو كانت لما أهملهما مُعلِّم الشرائع -صلى الله عليه وسلم- في مقام البيان. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 18-19).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
قوله: «مسلمان» فيه دليل على أنها لا تقبل شهادة الكافر في الصيام والإفطار، وقد استُدِلَّ بالحديثين على اشتراط العدد في شهادة الصوم والإفطار، وقد تقدم الجواب عن ذلك الاستدلال، قوله: «شاهدا عدل» فيه دليل على اعتبار العدالة في شهادة الصوم، وعارض ذلك من لم يشترط العدالة بحديث الأعرابي المتقدم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يختبره، بل اكتفى بمجرد تكلمه بالشهادتين، وأجيب بأنه أسلم في ذلك الوقت، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، فهو عدل بمجرَّد تكلمه بكلمة الإسلام، وإن لم ينضم إليها عمل في تلك الحال. نيل الأوطار (4/ 224).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: أن وجوب صوم رمضان يتعلق برؤية هلال رمضان، فلا يصح الصوم بحساب القمر.
ومنها: أنه لا يجوز الفطر من رمضان إلا برؤية هلال شوال.
ومنها: أن النسك من الحج، وكذا الأضحية لا يدخل وقته إلا برؤية هلال ذي الحجة.
ومنها: أنه إذا كان في السماء حجاب يحجب عن رؤية الهلال لزم إكمال ثلاثين يومًا.
ومنها: أن شهادة عدلين برؤبة الهلال يلزم بها الصوم والفطر، والحج -والله تعالى أعلم بالصواب-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (20/ 290).

وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا


ابلاغ عن خطا