«أنَّ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ رمضانَ، فَضَرَبَ بيدَيْهِ فقال: «الشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا» ثم عَقَدَ إبهامَهُ في الثَّالثةِ، «فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإن أُغْمِيَ عليكم فَاقْدُرُوا له ثلاثينَ».
رواه البخاري برقم: (5302)، ومسلم برقم: (1080) واللفظ له، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أُغْمِيَ عليكم»:
أي: غُطِّيَ بِغَيْمٍ أو غيره، مِن غَمَمْتُ الشيء إذا غطَّيتُه، ويجوز أنْ يكون مسنَدًا إلى الظرف، أي: فإنْ كنتم مغمومًا عليكم فصوموا.الفائق، للزمخشري (3/ 76).
قال ابن منظور -رحمه الله-:
يقال: أُغْمِيَ علينا الهلالُ، وغُمِّيَ، فهو مُغْمَىً ومُغَمَّىً، إذا حال دون رؤيته غيم أو قَتَرة. لسان العرب (15/ 135).
شرح الحديث
قوله: «أنَّ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ رمضانَ»:
قال الكماخي رحمه الله-:
«أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ رمضان» أي: شهره، وفيه إيماء إلى جواز ذكره بدون شهر. المهيأ (2/ 172).
وقال الباجي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان» ذكر بعض الناس أنَّه لا يُقال: جاء رمضان، ولا دخل رمضان، وإنَّما يقال: جاء شهر رمضان، وروي في ذلك الحديث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقولوا: جاء رمضان، وقولوا: جاء شهر رمضان؛ فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى»، (و) رأيتُ القاضي أبا الطيب الطبري قال: يقال: صمتُ رمضان؛ لأن المعنى معروف، فإذا وصف بالمجيء لا يقال: جاء رمضان، حتى يقال: جاء شهر رمضان؛ للإشكال فيه.
والصواب: أنَّ ذلك جائز، فقد روي ذلك من غير ما طريق صحيح، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء، وغُلقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين». المنتقى شرح الموطأ (2/ 35).
قال ابن العربي -رحمه الله-:
حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: «لا تَقُولوا: جاءَ رمضان، ولكن قُولُوا: جاءَ شهرُ رمضان؛ فإنَّ رمضانَ اسْمٌ مِن أسماءِ اللَهِ تعالى» وهذا لم يُجمع عليه أنَّه اسمٌ من أسماء الله تعالى. المسالك (4/ 146).
وقال النووي -رحمه الله-:
المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون: أنَّه يجوز أنْ يُقال: رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
قالت طائفة: لا يُقال: رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال: شهر رمضان، هذا قول أصحاب مالك، وزعم هؤلاء أنَّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره إلا بقيد.
وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني: إنْ كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيُكره، قالوا: فيقال: صُمنا رمضان، قُمنا رمضان، ورمضان أفضل الأشهر، ويُندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله، وإنما يُكره أنْ يقال: جاء رمضان، ودخل وحضر رمضان، وأحبُّ رمضان، ونحو ذلك.
والمذهب الثالث: مذهب البخاري والمحققين: أنَّه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة، وهذا المذهب هو الصواب، والمذهبان الأوَّلان فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يثبت فيه نهي، وقولهم: إنه اسم من أسماء الله تعالى، ليس بصحيح، ولم يصح في شيء، وإنْ كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية، لا تُطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة. المنهاج (7/ 187-188).
قوله: «فَضَرَبَ بيديِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فضرب بيديه» أي: طبَّق بين أصابع يديه العشر. البحر المحيط الثجاج (20/ 395).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فضرب بيديه» أي: حرَّكهما، أو وضع كفيه إحداهما على الأخرى، كما في روايَتَي: «وصفَّق بيديه»، «وطبَّق بيديه». الكوكب الوهاج (12/ 332).
قوله: «الشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
معنى «هكذا» في كل إشارة يعني: بيديه جميعًا، إشارة للعَشر أصابع، بدليل قوله: «بيديه»، وقوله في بعضها: «وصفَّق بيديه»، وفي الحديث الآخر: «وطبَّق» وهما ها هنا بمعنى. إكمال المعلم (4/ 15).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«الشهرُ هكذا» أشار به إلى أصابعه العشرة. شرح المصابيح (2/ 510).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ثلاث مرات، فالإشارة الأُولى إلى العشرة، والثانية إلى العشرين، والثالثة إلى الثلاثين. البحر المحيط الثجاج (20/ 395).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
حديث ابن عمر: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني: عشرًا وعشرًا وتسعًا، وأما حديثه الآخر: «الشهر هكذا وهكذا» يعني: مرَّة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، فهذا لم يقل فيه «هكذا» ثلاث مرات، بخلاف الذي قبله، ففيه: «وخَنَسَ الإبهام في الثالثة» فدل على أنَّه يريد تسعة. فتح الباري (1/ 277).
قوله: «ثم عَقَدَ إبهامهُ في الثالثةِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «ثم عَقَدَ إبهامه في الثالثة» يعني: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَبَضَ إصبعًا واحدة، وهي الإبهام من العَشرة الثالثة إشارة إلى كونه تسعة، فجملة ما أشار إليه تسعة وعشرون يومًا. البحر المحيط الثجاج (20/ 395).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: أشار أولًا بأصابع يديه العَشر جميعًا مرتين، وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا المعبَّر عنه بقوله: تسع وعشرون. فتح الباري (4/ 127).
وقال صفي الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «ثم عقد إبهامه في الثالثة» فصار مجموع ما أشار بيديه (في هذا الحديث) تسعًا وعشرين يومًا. منة المنعم (2/ 145).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
(أي): ثم عَقَدَ إحدى إبهامَيه في المرة الثالثة، إشارة إلى نقصان واحد من أيامه الثلاثين، فصارت الجملة تسعة وعشرين، أراد أنَّ الشهر قد يكون تسعًا وعشرين، لا أنَّ كل شهر يكون كذا. الكوكب الوهاج (12/ 332).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله- بعد ذكر الروايات المتعددة في هذه الإشارات:
هذه التعبيرات المختلفة لإشاراته -صلى الله عليه وسلم- لا تَنَاقض بينها، وكلها تحكي حالة واحدة، وقصة واحدة، حاصلها: أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أشار أولًا بأصابع يديه العشر جميعًا مرتين، وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا المعبَّر عنه في بعض الروايات بقوله: «تسع وعشرون».
وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشر ثلاث مرات، وهو المعبَّر عنه في ملحق الرواية العاشرة «الشهر ثلاثون» وطبَّق كفيه ثلاث مرار، لكن أكثر الرواة اقتصر على ذكر حالة قبض الإبهام في الثالثة. فتح المنعم (4/ 498).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
يعني: مرة تسع وعشرون، ومرة ثلاثون، بحسب ما يُرى الهلالُ، لا على الترتيب والتعاقب في ذلك. شرح المصابيح (2/ 510).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
والحاصل: أنَّ العبرة بالهلال، فتارة يكون ثلاثين، وتارة تسعة وعشرين، وقد لا يُرى، فيجب إكمال العدد ثلاثين، وقد يقع النقص متواليًا في شهرين وثلاثة، ولا يقع في أكثر من أربعة أشهر. إرشاد الساري (3/ 357).
قوله: «فَصُومُوا لرؤيتِهِ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
«فصوموا» أي: رمضان. التنوير (5/ 268).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته» يعني: أنه يجب على المسلمين أنْ يصوموا إذا رأوا الهلال: هلال رمضان، فإنْ لم يروه فلا صيام عليهم. شرح رياض الصالحين (5/ 274).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«لرؤيته» اللام فيه للتوقيت، والمراد برؤيته: رؤية بعض المسلمين له. منحة الباري (4/ 349).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
«لرؤيته» اللام فيه للوقت، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الإسراء: 78، أي: وقت دُلوكها. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1579).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«لرؤيته» اللام للتوقيت، أو بمعنى: بَعْد، أي: صوموا لوقت رؤيته، أو بَعْد رؤيته. شرح المصابيح (2/ 509).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«لرؤيته» أي: لأجل رؤية الهلال، فاللام للتعليل، والضمير للهلال على حد {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب} ص: 32؛ اكتفاءً بقرينة السياق؛ ولقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس} النساء: 11، أي: لأبوي الميت. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
اللام للتَّأقيت، لا للتعليل، كما زعمت الروافض، ولو كانت للتعليل لم يلزم تقديم الصوم على الرؤية أيضًا، كما تقول: أَكْرِمْ زيدًا لدخوله، فلا يقتضي تقديم الإكرام على الدخول، ونظائره كثيرة، وحَمْلُه على التأقيت لا بد فيه من احتمال تجوُّز، وخروج عن الحقيقة؛ لأن وقت الرؤية -وهو الليل- لا يكون محلًّا للصوم. إحكام الأحكام (2/ 7).
وقال الفاكهاني -رحمه الله- متعقبًا ابن دقيق العيد:
قلتُ: إذا حمَلْنَا: «صوموا» على انووا الصيام، لم يكن فيه تجوُّز ألبتة، والله أعلم؛ إذ الليل كله ظرف لإيقاع نية الصوم فيه. رياض الأفهام (3/ 380).
وقال ابن حجر -رحمه الله- متعقبًا الفاكهاني:
قلتُ: فوقع في المجاز الذي فرَّ منه؛ لأن الناوي ليس صائمًا حقيقة، بدليل أنَّه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أنْ يطلع الفجر. فتح الباري (4/ 128).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«لرؤيته» أي: لوقت رؤية هلاله الدال عليه، أي: لرؤيته إياه، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله. التنوير (5/ 268).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«لرؤيته» أي: هلال رمضان المدلول عليه بالسياق، أي: لوقت الرؤية، وقد عُلِمَ أنَّ الصوم الشرعي هو الإمساك عن المفطرات نهارًا، مع تبييت النية، فلا يَرِدُ أنَّه يلزم الصوم عند الرؤية وحصولها. التنوير (7/ 17).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«لرؤيته» يعني: الهلال، وإنْ لم يتقدَّم له ذِكْر؛ لدلالة السياق. التيسير (2/ 96).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«لرؤيته» أي: هلال رمضان، كما يومئ إليه المقام، ولو كان الرائي واحدًا، وهو عَدْلٌ، شهادة لا رواية. دليل الفالحين (7/ 31).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
علل الأمر في الصوم بالرؤية، ومَن يخالف من رآه في المطالع لا يقال: إنه رآه لا حقيقةً ولا حكمًا. الشرح الممتع (6/ 309).
وقال النووي -رحمه الله-:
«لرُؤيته» المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يُشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عَدْلَين، وكذا عَدْل على الأصح، هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عَدْلٍ واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوَّزه بِعَدْلٍ. المنهاج (7/ 190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
في قوله: «صوموا لرؤيته» أنه لا يلزم صيام يوم الشَّكِّ احتياطًا، بل لا يجوز عندهم، وعليه جمهور الفقهاء؛ للأثر الوارد في ذلك، خلافًا لأحمد في إيجاب صومه، وإنْ صح أنَّه من رمضان أجزأه، وروي صومه عن عائشة وأسماء وابن عمر وطاوس، وقال الأوزاعي والكوفيون: إنْ صامه وتبيَّن أنه من رمضان أجزأه، وجمهورهم: لا يصومه، ولا يجزئه إنْ صامه، وكان بعض الصحابة يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين، وكره محمد بن مسلمة من أصحابنا تحرِّي ذلك آخر يوم، كما يكره تحرِّي صومه. إكمال المعلم (4/ 12-13).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الأصل: أنه (يوم الشك) محكوم له بأنه من شعبان، حتى يدل الدليل على أنَّه من رمضان، والأدلة الناقلة عن حكم شعبان: الرؤية أو الشهادة، أو إكمال عِدَّة شعبان بثلاثين، ولم يُوجَد واحد منها في يوم الشك، غير أنَّه يُستَحَبُّ أنْ يُمْسِكَ فيه من غير صوم؛ ليَسْلَم من الأكل في زمان رمضان. المفهم (3/ 144).
وقال العراقي -رحمه الله-:
قد جوَّز المالكية والشافعية صومه (يعني: يوم الشك) عن قضاء أو نذر أو كفارة، وتطوعًا إذا وافق وِرْدَه.
واختلفوا في جواز التطوع بصومه بلا سبب، فمنعه الشافعية، وقالوا بتحريمه، فإن صامه فالأصح عندهم بطلانه، والمشهور عن المالكية جوازه، وقال محمد بن مسلمة بكراهته، وكره الحنفية صومه عن واجب آخر، ولم يكرهوا التطوع لصومه، ثم إن ذلك كله مفروض في يوم الشك لا في مطلق الثلاثين من شعبان.
قال أصحابنا (يعني: الشافعية): ويوم الشك يوم الثلاثين من شعبان إذا تَحَدَّث برؤيته أو شَهِدَ بها من لا يثبت بقوله، فإن لم يتحدث برؤيته أحد فليس يوم شك، ولو كانت السماء مغيمة. طرح التثريب (4/ 114).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي الصواب عدم مشروعية صومه مطلقًا، قضاء أو غير ذلك، إلا مَن وافقَ وِرْدَه، فإنه يصح أن يصومه؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدم (يعني: «أَلَا لا تَقَدَّموا الشهر بيوم أو اثنين، إلا رجل كان يصوم صيامًا، فليصمه» والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (20/ 380).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
بهذه الأحاديث تبين أنه لا يُصام رمضان قبل رؤية هلاله، فإن لم ير الهلال أكمل شعبان ثلاثين يومًا، ولا يُصام يوم الثلاثين منه، سواء كانت الليلة صحوًا أم غيمًا؛ لقول عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وذكره البخاري تعليقًا. مجالس شهر رمضان (ص: 23).
قوله: «وأفْطِرُوا لرؤيتِهِ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وأفطروا» بقطع الهمزة «لرؤيته» أي: رؤية بعض المسلمين، فيكفي الناس رؤية عَدْلَيْنِ، بل عَدْلٌ عند الشافعي. التيسير (2/ 96).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: هلال شوال، والرؤية مضافة إلى المفعول، وقد حُذِفَ الفاعل، أي: لرؤيتكم إياه، ويكفي رؤية مَن يَكْمُلُ به نصاب شهادته من واحد على قول، كما اخترناه في حاشية الضوء، أو اثنين. التنوير (7/ 17).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
«وأفطروا لرؤيته» أي: هلال شوال، واللام فيهما محتملة لكونها بمعنى: (عند) كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الإسراء: 78؛ ولكونها للتعليل. دليل الفالحين (7/ 31).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأفطروا» أي: اجعلوا عيد الفطر «لرؤيته» أي: لأجلها، أو بعدها، أو وقتها. مرقاة المفاتيح (4/ 1373).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» يقتضي لزوم حكم الصوم والفطر لمن صحَّتْ له الرؤية، سواء شُوْرِكَ في رؤيته، أو انفرد بها، وهو مذهب الجمهور، وذهب عطاء وإسحاق: إلى أنَّه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، وهذا الحديث ردٌّ عليهما. المفهم (3/ 138-139).
قوله: «فإنْ أُغْمِيَ عليكم»:
قال المازري -رحمه الله-:
أي: إنْ حال بينكم وبين رؤيته غيم، ويقال: صُمنا للغَمَّاء والغُمَّى، أي: عن غير رؤية. المعلم (2/ 44).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«فإنْ أُغْمِيَ عليكم» وفي رواية «فإن غُمِّي عليكم»... إذا حال دون رؤيته غيم أو قَتَرَةٌ، كما يقال: غُمَّ علينا، يقال: صُمنا للغُمَّى، والغُمَّى بالضم والفتح: أي: صمنا من غير رؤية.
وأصل التغمية: الستر والتغطية، ومنه: أُغمي على المريض إذا غُشي عليه، كأن المرض سَتَرَ عقله وغطَّاه. النهاية (3/ 389).
قال الرافعي -رحمه الله-:
ورواه بعضهم: «فإن عمِّي عليكم» بعين غير معجمة، أي: الْتُبِسَ، وفي بعض روايات الصحيح للبخاري: «فإن غُبِّي عليكم» بالباء، ويروى: «فإن غَبِيَ» أي: خَفِيَ. شرح مسند الشافعي (2/ 179).
قوله: «فَاقْدِرُوا له ثلاثينَ»:
قال السيوطي -رحمه الله-:
«فاقدروا له» بالوصل، وضم الدال، وكسرها، يعني: حقِّقوا مقادير أيام شعبان حتى تكملوه ثلاثين يومًا. حاشيته على سنن النسائي (4/ 130).
وقال الرافعي -رحمه الله-:
قوله: «فاقدِروا له»، المعنى عند المعْظَم (الجمهور): التقدير بإكمال العدد ثلاثين، وعلى هذا فقوله: «فاقدروا له» وقوله: «فأكملوا العدة ثلاثين» عبارتان عن معبَّر واحد. شرح مسند الشافعي (2/ 179).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«فاقدروا له ثلاثين» معناه: أنَّ الشهر مقطوع بأنْ لا بد أنْ يكون تسعًا وعشرين، فإنْ ظهر الهلال، وإلا فيُطلب أعلى العدد الذي هو ثلاثون، وهو نهاية عدده. إكمال المعلم (4/ 7).
وقال النووي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في معنى: «فاقدروا له» فقالت طائفة من العلماء: معناه: ضيِّقوا له، وقدِّروه تحت السحاب، وممن قال بهذا: أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوِّز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان...
وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون: معناه: قدِّروه بحساب المنازل.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدِّروا له تمام العدد ثلاثين يومًا.
قال أهل اللغة: يقال: قَدَّرْتُ الشيء أُقَدِّرُهُ، وأُقْدُرُهُ وقَدَّرْتُهُ، وأَقْدَرْتُهُ بمعنى واحد، وهو من التقدير. المنهاج (7/ 186).
وقال النووي -رحمه الله-:
احتج الجمهور بالروايات المذكورة: «فأَكْمِلُوا العدة ثلاثين» وهو تفسير لـ«اقدروا له» ولهذا لم يجتمعا في رواية، بل تارة يذكر هذا، وتارة يذكر هذا، ويؤكده الرواية السابقة «فاقدروا له ثلاثين». المنهاج (7/ 186).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
ذهب كافَّة الفقهاء: إلى أنَّ معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» مجمل يُفسِّره قوله: «فأَكْمِلُوا العدة ثلاثين يومًا»، ولذلك جعل مالك في الموطأ «فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» بعد قوله: «فاقدروا له» كما صنع البخاري؛ لأنه مُفسِّرٌ ومُبيِّنٌ لمعنى قوله: «فاقدروا له»، وحكى محمد بن سيرين أنَّ بعض التابعين كان يذهب في معنى قوله -عليه السلام-: «فاقدروا له» إلى اعتباره بالنجوم، ومنازل القمر، وطريق الحساب، ويقال: إنه مُطَرِّف بن الشِّخِّير، وقوله -عليه السلام-: «فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» نَصٌّ في أنَّه -عليه السلام- لم يُرِدْ اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل؛ لأنه لو كَلَّف ذلك أمَّته لشق عليه؛ لأنه لا يَعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى في الدِّين من حرج، وإنما أحال -عليه السلام- على إكمال ثلاثين يومًا، وهو شيء يستوي في معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله في نفسه، فروي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله يتحفَّظ من شعبان ما لا يتحفَّظ من سائر الشهور، فإذا رأى هلال رمضان صام، وإنْ غُمَّ عليه عَدَّ شعبان ثلاثين يومًا وصام»، ولو كان ها هنا علم آخر لكان يفعله، أو يأمر به، وجمهور الفقهاء على أنه لا يُصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك لا يُقضى بخروج رمضان إلا بيقين مثله؛ لأنه ممكن في الشهر أنْ يكون تسعة وعشرين يومًا، فالرؤية تُصحِّح ذلك، وتُوجِب اليقين، كإكمال العدة ثلاثين يقينًا، هذا معنى قوله: «فاقدروا له» عند العلماء. شرح صحيح البخاري (4/ 27-28).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
لم يحكَ مذهب الصوم بتقدير النجوم والمنازل إذا غُمَّ الهلال إلا عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخير من كبار التابعين، بل من المخضرمين، قال ابن سيرين: وليته لم يفعل، وحكى ابن شريح عن الشافعي مثله، والمعروف من مذهب الشافعي والموجود في كتبه خلاف هذا، وموافقة جميع علماء المسلمين من أن معنى: «اقدروا له» في الأيام عدة الشهر ثلاثين، كما فسره به -عليه السلام- في حديثه الآخر، بقوله: «فإن غم عليكم، فاقدروا له ثلاثين» وفي الحديث الآخر: «فكملوا العدة ثلاثين»، ولهذا أدخل مالك في موطئه هذا الحديث المبَيَّن إثر الأول؛ ليكون كالمفسِّر له، والرافع لإشكاله؛ تهذيبًا للتأليف، وإتقانًا للعلم. إكمال المعلم (4/ 8).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قال ابن بزيزة: وهو (أي: الاعتماد على النجوم) مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حَدْسٌ وتخمين، ليس فيها قطع، ولا ظنٌّ غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا القليل. فتح الباري (4/ 127).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:
وهذا (الحديث وشبهه) دليل على ما أجمع عليه المسلمون، إلا مَن شذَّ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أنَّ مواقيت الصوم والفطر والنُّسك إنما تُقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفُرس والقِبْطِ والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 286).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فتبيَّن أنَّ ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبطِ عباداتهم بمسير الشمس وحُسْباناتها، وأنَّ دِيننا في ميقات الصيام مُعلَّق بما يُرى بالبصر، وهو رؤية الهلال، فإنْ غُمَّ أكْمَلْنَا عِدَّة الشهر، ولم نَحْتَجْ إلى حساب. فتح الباري (3/ 67).
وقال المغربي -رحمه الله-:
الحديث ظاهره وجوب الصوم عقيب الرؤية ليلًا كانت أو نهارًا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل. البدر التمام (5/ 13-14).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
الحديث دليل على وجوب صوم رمضان لرؤية هلاله، وإفطاره أول يوم من شوال لرؤية هلاله، وظاهره اشتراط رؤية الجميع له من المخاطبين، لكن قام الإجماع على عدم وجوب ذلك، بل المراد ما يثبت به الحكم الشرعي من إخبار الواحد العدل، أو الاثنين على خلاف في ذلك. سبل السلام (1/ 558-559).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: جواز اعتماد الإشارة المفْهِمَة. المنهاج (7/ 190).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
إشارته بيده إلى الثلاثين والتسع وعشرين حُجة الحكم بالإشارة، وأنها تقوم مقام النطق في الطلاق والبيوع والوصايا وغيرها، ويدل على صحة الاعتداد بها.
وفيه: حُجة أيضًا لصحة طلاق الأبكم وإقراره وشهادته وحده، إذا فُهم منه القذف، وتحقق ما أشار به.
وفيه: تقريب الأمور بالتمثيل، وهو مقصده -عليه السلام- بذلك لا لغيره. إكمال المعلم (4/ 14-15).
وقال العراقي -رحمه الله-:
فيه: جواز أنْ يقال: رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة. طرح التثريب (4/ 107).
وقال العراقي -رحمه الله- أيضًا:
فيه: النهي عن صوم شهر رمضان قبل رؤية الهلال، أي: إذا لم يكمل عدد شعبان ثلاثين يومًا. طرح التثريب (4/ 107).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان أنَّ وجوب الصوم متعلِّق برؤية الهلال.
ومنها: أنَّه يفيد أنه لا يلزم الصوم، ولا يثبت كون اليوم من رمضان بغير رؤية، لا بتقدير تحت السحاب في الغيم، ولا برجوع إلى حساب...
ومنها: أنَّ مقتضى الحديث أيضًا منع صومه عن غير رمضان...
ومنها: بيان أنَّ النهي عن صوم يوم الشك؛ لعدم رؤية الهلال، وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه ابن خزيمة عن عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- قال: «من صام يوم الشك، فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-»...
ومنها: أنَّ الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم، وغيرها...
ومنها: أنَّه يدل على وجوب الصوم على المنفرد برؤية هلال رمضان، وعلى وجوب الإفطار عليه أيضًا برؤية هلال شوال، وإنْ لم يثبت ذلك بقوله، وهو قول الأئمة الأربعة في هلال رمضان. البحر المحيط الثجاج (20/ 379-381).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا)