«مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ، ومَن قام ليلةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تقَدَّمَ مِن ذنبِهِ».
رواه البخاري برقم: (2014)، ومسلم برقم: (760)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«إيمانًا»:
أي: تصديقًا بأنَّه حقٌّ، فصدَّق بفضل صيامه وقيامه. التوضيح، لابن الملقن (3/ 61).
«احْتِسَابًا»:
أي: مُحتسِبًا قاصدًا به وجه الله تعالى. دليل الفالحين، لابن علان (7/ 30).
وقال ابن الأثير-رحمه الله-:
الاحتساب: مِن الحَسَبِ، كالاعتداد من العَدِّ، وإنما قيل لمن يَنْوِي بعَمَلِهِ وجه الله: احْتَسَبَهُ؛ لأنَّ له حينئذٍ أن يَعْتَدَّ عمله، فجُعِلَ في حالِ مباشرة الفعل، كأنه مُعْتَدٌّ به. النهاية، لابن الأثير (1/382).
شرح الحديث
قوله: «مَن صامَ رمضانَ»:
قال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قوله: «مَن صام رمضان» بنصبه على الظرفية، أي: فيه. مرعاة المفاتيح (6/ 404).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
قوله: «مَن صام رمضان» إلخ، أي: مَن صام كل أيامه، أما من أفطر بعض أيامه بغير عذر، فلا ينال هذا الجزاء، ومَن أفطر لعذر كان له الجزاء إنْ أدى ما وجب عليه من القضاء أو الإطعام، كمَن صلى جالسًا لعذر فإنَّ له أجر صلاة القائم. المنهل العذب المورود (7/ 308).
قوله: «إيمانًا»:
قال التوربشتي -رحمه الله-:
قوله: «إيمانًا» مفعول له، ويجوز أنْ ينصب على الحال، أي: صام مؤمنًا ومصدِّقًا، ويجوز نصبه على المصدر، أي: صام صوم مؤمن ومصدِّق، وأحسن الوجوه أنْ يُجعل مفعولًا له. الميسر (2/ 457).
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«إيمانًا» يعني: مُصَدِّقًا بما وَعَد الله من الثواب عليه. شرح صحيح البخاري (4:146).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
قوله: «إيمانًا» أي: تصديقًا بالمعبود، الآمر له، وعِلْمًا بفضيلة القيام، ووجوب الصيام، وخوفًا من عِقاب ترْكِه. كشف المشكل (3/376).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى الإيمان به: التصديق بوجوبه، والتعظيم لحقه. أعلام الحديث (2/ 945).
وقال ابن العربي-رحمه الله-:
يريد بقوله: «إيمانًا»: أنَّ فَرْضَهُ من عند الله، وأنَّ عبادته فيه إنما هي لله تعالى؛ إذ الأعمال كلها تحتمل أنْ تكون لله ولغيره، ولا عبرة بها إلا أن تكون لله على نية امتثال أمره، والتقرب إليه، كمَن توضأ تَبَرُّدًا لا يُعتد به عبادة، وكذلك مَن صام إِجْمَامًا لمعدته لا يُعد عبادة؛ ولذلك قال علماء الحقائق: إنّ الرجل إذا قال: أصوم غدًا، يقصد بذلك التَّطَبُّبَ إنه لا يجزئه، وكذلك لو قَصَد بالصلاة رياضة أعضائه لم يجزئ أيضًا حتى ينوي بذلك الخدمة لمن تجب له القُرْبة. القبس (ص: 277).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«إيمانًا» أي: لأجل الإيمان بالله تعالى لا لغرض من الأغراض الدنيوية.
ويحتمل: أنْ يُقدَّر: مَن قام لياليه في حالة الإيمان بالله تعالى، والمراد منه إما الإيمان بكل ما أوجبه الإيمان بالله تعالى، أو بأنَّ هذا القيام حق وطاعة، وبأنه سبب ومغفرة. شرح سنن أبي داود (6/ 610).
قوله: «واحْتِسَابًا»:
قال النووي -رحمه الله-:
معنى: «احتسابًا»: أنْ يريد الله تعالى وحدهُ لا يقصد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص. المنهاج (6/ 39).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
«واحتسابًا» محتسبًا جَزِيلَ أجره، وهذه صفة المؤمن. كشف المشكل (3/376).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«واحتسابًا» اعتدادًا بأنَّ ذلك مَرْقُومٌ عند الله تعالى. التنوير (10/336).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وقيل: معنى «احتسابًا» اعتداده بالصبر على المأمورية من الصوم وغيره، وعن النهي عنه من الكذب والغيبة ونحوه، طيِّبة نفسه به، غير كارهة له، ولا مستثقلة لصيامه، ولا مستطيلة لأيامه. مرقاة المفاتيح (4/ 1361).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
معنى الاحتساب فيه: أنْ يتلقى الشهر بطيبة نفس، فلا يتجَهَّم لمورده، وأنْ لا يستطيل زمانه، لكن يغتنم طول أيامه، وامتداد ساعاتها؛ لما يرجوه من الأجر والثواب فيها. أعلام الحديث (2/ 945).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
«واحتسابًا» طلبًا للأجر، بخلاف من فعل ذلك تقليدًا. الحلل الإبريزية (2/ 120).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
أما قوله: «احتسابًا» فمذهب الـمُنْقَطِعِين إلى الله تعالى أنَّ معناه: يصومه لامتثال الأمر لا لطلب الأجر.
ومن مذهبهم: أنَّ الإخلاص في العبادات إنما يكون بأنْ يُطِيع الرَّجُل ربَّه محبة فيه، لا يستجلب بذلك جَنَّةً، ولا يدفع بذلك نارًا، ويُرْوَى في ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يقول إذا نظر إلى صهيب: «نِعْمَ العبد صهيب؛ لو لم يَخَف الله لم يَعْصِهِ» وآثارًا في ذلك سواه.
وأنكر ذلك الفقهاء، وقالوا: إنه لولا رجاء الجنة وخوف النار ما عَبَدَ الله تعالى أحدٌ، وهو الصحيح عندي؛ لأن العبادة حظُّ النفس، وخالصة منفعتها، لا يبالي الباري عنها؛ إذ العبادة وترْكها بالإضافة إلى جلاله واحدة، ولكنه بحكمته البالغة، ومشيئته النافذة، جعل الدنيا دار عمل، وجعل الآخرة دار جزاء، وقد صرَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في الحديث المتقدم: «مَثَلُكُمْ ومَثَلُ أهل الكتاب مِن قبْلِكُم كَمَثَلِ رَجُلٍ استأجر أُجراء...» الحديث إلى آخره، فصرَّح أنها أُجْرة، ويكون معنى قوله: «احتسابًا» أنه يَعْتَدُّ الأُجْرَة عند الله مُدَّخَرة إلى الآخرة، لا يريد أن يستعجل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يَفتح الله تعالى على العبد في الدنيا مِن أَمَلٍ، ونَالَهُ فيها مِن لَذَّةٍ محسوب من أَجْرِهِ، مُحاسَب يوم القيامة به، فعلى العبد أنْ ينفي ذلك عن قلبه، وأنْ ينوي بعمله الدار الآخرة خاصة، فإنْ يَسَّر الله تعالى له في هذه الدار أملًا، فذلك فضله يؤتيه من يشاء. القبس (ص: 277-279).
قوله: «غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ»:
قال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«غُفر له» بالبناء للمفعول، جواب «مَن» وهو من الغَفْر، وهو الستر، ومنه الْمِغْفَر وهو الخُوْذَة. البحر المحيط الثجاج (15/ 657).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «مِن ذَنبه» كلمة «مِن» إما متعلقة بقوله: «غُفر» أي: غُفر من ذنبه ما تقدم، فهو منصوب المحل، أو هي مبيِّنة لما تقدم، فهي مرفوع المحل؛ لأن ما تقدم هو مفعول ما لم يسمَّ فاعله. الكواكب الدراري (1/ 154).
وقال ابن المنذر -رحمه الله-:
قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» قول عام يُرجى لمن قامها إيمانًا واحتسابًا أنْ يُغفَر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها. الإشراف (3/ 172).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: الذنب عام؛ لأنه اسم جنس مضاف، فهل يقتضي مغفرة ذنب يتعلق بالناس؟
قلتُ: لفظه مقتضٍ لذلك، لكن عُلِمَ من الأدلة الخارجية أنَّ حقوق العباد لا بد فيها من رضا الخصوم، فهو عام اختص بحق الله تعالى بالإجماع، ونحوه مما يدل على التخصيص، ويجوز أن يكون «مِن» تبعيضية. الكواكب الدراري (1/ 154).
وقال العيني -رحمه الله- متعقبًا الكرماني:
قيل: يجوز أنْ تكون «مِن» تبعيضية، وفيه نظر. عمدة القاري (1/ 228).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «مِن ذنبه» اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب، إلا أنه مخصوص عند الجمهور. فتح الباري (4/ 116).
وقال النووي -رحمه الله-:
«غُفر له ما تقدَّم مِن ذنبه» المعروف عند الفقهاء أنَّ هذا مختص بغفران الصغائر دون الكبائر.
قال بعضهم: ويجوز أنْ يخفف من الكبائر ما لم يصادف صغيرة. المنهاج (6/ 40).
وقال الجويني الشافعي -رحمه الله-:
كل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب فهو عندي محمول على الصغائر دون الموبقات. نهاية المطلب (4/ 73).
وقال النووي -رحمه الله- معلقًا على كلام الجويني:
قد ثبت في الصحيح ما يؤيده (يعني: يؤيد كلام الجويني)، فمن ذلك: حديث عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوؤها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تُؤتَ كبيرة؛ وذلك الدهر كله» رواه مسلم، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» رواه مسلم، وعنه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهن من الذنوب إذا اجتنب الكبائر» رواه مسلم.
قلتُ: وفي معنى هذه الأحاديث تأويلان:
أحدهما: يكفِّر الصغائر بشرط ألا يكون هناك كبائر، فإنْ كانت كبائر لم يكفِّر شيئًا لا الكبائر ولا الصغائر.
والثاني وهو الأصح المختار: أنه يكفِّر كل الذنوب الصغائر، وتقديره: يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر. المجموع (6/ 382).
وقال محمود السبكي -رحمه الله-:
فإن قيل: قد ثبت في تكفير الذنوب عدة أحاديث صحيحة منها: الحديث السابق (يعني حديث: «من قام رمضان»)...، وحديث صوم يوم عرفة يكفِّر سنتين، وحديث صوم عاشوراء يكفِّر سَنة، إلى غير ذلك من الأحاديث، وإذا كانت الذنوب تكفَّر بأحد هذه الأعمال، فما الذي يكفِّره الآخر؟
قلنا: المراد أنَّ كل واحدة من هذه الخصال صالحة لتكفير الذنوب، فإن صادفتها كفَّرتها، وإن لم تصادفها بأن كان فاعلها سليمًا من الذنوب يُكتب له بها حسنات، ويُرفع بها درجات. المنهل العذب المورود (7/ 308).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
هذه المغفرة مقيدة باجتناب الكبائر. الحلل الإبريزية (2/ 120).
قوله: «ومَن قامَ ليلةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ومن قام» يعني: من أحيا ليالي رمضان، أو بعضًا من كل ليلة بصلاة التراويح وغيرها من الطاعات. المفاتيح (3/ 8).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
«من قام ليلة القدر» قيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة، وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضًا، قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى.
ومراده (يعني: سفيان) أنَّ كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يَكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم. لطائف المعارف (ص: 204).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
«ليلة القدر» منصوب على أنه مفعول به، لا فيه؛ إذ المعنى: مَن أحيا ليلة القدر، ويجوز نصبه بأنه مفعول فيه، أي: من أطاع الله فيها.
قيل: ويكفي في ذلك ما يسمى قيامًا حتى إنّ مَن أدَّى العشاء بجماعة فقد قام، لكن الظاهر من الحديث عُرْفًا، كما قال الكرماني إنه لا يقال: قام الليلة إلا إذا قام جميعها، أو أكثرها. مرعاة المفاتيح (6/ 405).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
بالصلاة وسائر أنواع العبادة من قراءة ودعاء وصدقة وغير ذلك إيمانًا؛ بأن الله شرع ذلك واحتسابًا للثواب عنده لا رياء. مجموع الفتاوى(15/ ٤٣١)
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» هذا أيضًا مثل الأول (أي: الجملة الأولى من الحديث)، ولعل هذا فيمن لم يقم رمضان فيُغفر له لقيامه ليلة القدر، أو مَن لم يكن قيامه إخلاصًا واحتسابًا. إكمال المعلم (3/ 113).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قيام ليلة القدر بمجرده يكفِّر الذنوب لمن وقعت له كما في حديث عبادة بن الصامت وقد سبق ذكره (يعني: «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»)، وسواء كانت أول العشر أو أوسطه أو آخره، وسواء شَعَرَ بها أو لم يَشْعُر، ولا يتأخر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشهر.
وأما صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب له على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه بتمام السببين، وهما صيامه وقيامه.
وقد يقال: إنه يغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلة من رمضان بقيام رمضان قبل تمام نهارها، وتتأخر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصوم، فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر، ويدل على ذلك ما خرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خمس خصال في رمضان لم تُعْطَهَا أمَّة غيرهم: خُلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويُزَيِّن الله كل يوم جَنَّته، ويقول: يوشك عبادي أن يُلْقُوا عنهم المؤنة والأذى، ويصيروا إليك، ويصفَّد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلة فيه، فقيل له: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله». لطائف المعارف(ص: 207-208).
وقال النووي -رحمه الله-:
«من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» هذا مع الحديث المتقدم: «من قام رمضان»، قد يقال: إن أحدهما يغني عن الآخر. وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران، وإن لم يقم غيرها. المنهاج (6/ 40).
وقال العراقي -رحمه الله- متعقبًا النووي:
قلتُ: الأحسن عندي الجواب بأنه -عليه الصلاة والسلام- ذكر للغفران طريقين:
أحدهما: يمكن تحصيلها يقينًا إلا أنها طويلة شاقة، وهي قيام شهر رمضان بكماله.
والثاني: لا سبيل إلى اليقين فيها إنما هو الظن والتخمين إلا أنها مختصرة قصيرة، وهي قيام ليلة القَدر خاصة. طرح التثريب (4/ 164).
قال المناوي -رحمه الله-:
قال الزركشي: قال الزركشي: كُل ما ورد من إطلاق غفران الذنوب كلها على فعل بعض الطاعات من غير توبة، كهذا الحديث(من قام رمضان) وحديث الوضوء يكفّر الذنوب، وحديث: من صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له، فحملُوه على الصغائر، فإن الكبائر لا يكفّرها غير التوبة.
ونازع في ذلك صاحب الذخائر، وقال: "فضل الله أوسع." وكذلك ابن المنذر في الأشراف، فقال في حديث: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه» يُغفر له جميع ذنوبه، صغيرها وكبيرها. وحكاه ابن عبد البر عن بعض معاصريه.فيض القدير(6/١٩١).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
اختلفوا أيضًا هل يحصل الثواب المرتَّب عليها (يعني: ليلة القدر) لمن اتفق له أنه قامها، وإن لم يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة.
وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: «من يقم ليلة القدر فيوافقها»، وفي حديث عبادة عند أحمد: «من قامها إيمانًا واحتسابًا ثم وُفِّقَتْ له». فتح الباري (4/ 266).
وقال العراقي -رحمه الله-:
لا يتوقف حصول المغفرة بقيام ليلة القدر على معرفتها، بل لو قامها غير عارف بها غُفر له ما تقدم من ذنبه، لكن بشرط أنْ يكون إنما قام بقصد ابتغائها، وقد ورد اعتبار ذلك في حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني مرفوعًا: «فمن قامها ابتغاءها إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفِّقَتْ له غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
فإن قلتَ: قد اعتبر شرطًا آخر وهو أنْ تُوفَّق له، وكذا في صحيح مسلم في رواية: «من يقم ليلة القدر فيوافقها» قال النووي في شرح مسلم: معنى «يوافقها»: يعلم أنها ليلة القدر.
قلتُ: إنما معنى توفيقها له أو موافقته لها: أنْ يكون الواقع أنَّ تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر، وإنْ لم يعلم هو ذلك، وما ذكره النووي من أنَّ معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضي هذا، ولا المعنى يساعده. طرح التثريب (4/ 164).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا على كلام العراقي:
وهو تحقيق نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم. البحر المحيط الثجاج (15/ 677).
وقال ابن حجر -رحمه الله- معلقًا على كلام النووي:
هو جارٍ على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها، وهو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يعلم بها، ولو لم تُوفَّق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعيَّن الموعود به، وفرَّعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص، فيُكشف لواحد ولا يُكشف لآخر، ولو كانا معًا في بيت واحد.
قال الطبري: في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب مَن زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السَّنة؛ إذ لو كان ذلك حقًّا لم يخفَ على كل من قام ليالي السَّنة فضلًا عن ليالي رمضان.
وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أنْ يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوم دون قوم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحصر العَلَامة، ولم ينفِ الكرامة، وقد كانت العلامة في السَّنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر، ونحن نرى كثيرًا من السنين ينقضي رمضان دون مطر، مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، قال: ومع ذلك فلا نعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلا مَن رأى الخوارق، بل فضل الله واسع، ورُبَّ قائم تلك الليلة لم يحصل منها إلا على العبادة من غير رؤية خارق، وآخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة، فإنها تستحيل أنْ تكون إلا كرامة، بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة، وقد يقع فتنة، والله أعلم. فتح الباري (4/ 267).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وفيه: أنه لا يكره أنْ يقال: رمضان بدون شهر، وكرهه بعض العلماء؛ لخبر أنه من أسماء الله، وهو شاذ؛ لأن الخبر الضعيف لا يثبت (به) اسم الله. مرقاة المفاتيح (4/ 1361).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
هذا الحديث: دليلٌ بيِّنٌ أنَّ الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تتقبل إلا مع الاحتساب، وصِدْقِ النيات، كما قال -عليه السلام-: «الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» وهذا يردُّ قول زُفَر، فإنه زعم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نية، وقوله مردود بهذه الآثار. شرح صحيح البخاري (4/ 21).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: الحث على قيام رمضان، وعلى الإخلاص في الأعمال. شرح سنن أبي داود (6/ 611).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه: دليل على إمكان معرفة ليلة القدر وبقائها. نيل الأوطار (4/ 320).
وقال الشيخ فيصل ابن المبارك -رحمه الله-:
في هذا الحديث: أنَّ من قام ليلة القدر مؤمنًا بها، ومحتسبًا العمل فيها، أنه يُرجى له مغفرة ذنوبه. تطريز رياض الصالحين (ص: 671).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
دلّ هذا الحديث على شرف ليلة القدر، وفضل إحيائها بالعبادة، وأنَّ قيامها لمن وافقها سبب للغفران، وإنْ لم يقم غيرها، فإن كانت له ذنوب كفَّرَتها، وإن لم تكن له ذنوب فإنه يُكتب له بها حَسنات، ويُرفع بها درجات. منار القاري (3/244).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
في فوائده:
منها: بيان فضل شهر رمضان، وعِظم قدر ما منَّ الله -سبحانه وتعالى- على هذه الأمَّة بغفران ما تقدم من ذنوبهم إذا قاموه إيمانًا واحتسابًا.
ومنها: بيان وجوب التصديق بالعمل الذي يعمله الشخص، وهذا معنى قوله: «إيمانًا» أي: مصدِّقًا بكونه طاعة لله تعالى، فلا ينفع العمل بلا تصديق.
ومنها: الحث على إخلاص العمل لله -سبحانه وتعالى-، وأنه لا ينفع إلا إذا ابْتُغي به وجهه، وطلب الأجر منه وحده، وهذا معنى قوله: «واحتسابًا».
ومنها: بيان أنَّ بعض الأعمال تكفِّر الذنوب الماضية كلها، أما الصغائر فلا خلاف فيها، وأما الكبائر فيُرجى من الله عفوها، بل إذا لم يكن للعبد إلا الكبائر فلا بد من تخفيفها، والله -عز وجل- ذو الفضل العظيم.
ومنها: بيان جواز إطلاق لفظ رمضان من غير إضافة شهر إليه، خلافًا لمن منع ذلك، حتى يقال: شهر رمضان، قال: لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا باطل؛ لأن ذلك لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتبصَّر، والله تعالى أعلم بالصواب. البحر المحيط الثجاج (15/ 661).
وقال الشيخ عبد الله العتيبي -حفظه الله-:
من فوائد هذا الحديث: أنَّ مَن صام رمضان على وجه التقليد والمراءاة لا يحصل على هذا الأجر، بل يأثم، وكذلك من قام ليلة القدر ليس إيمانًا بشرعيتها، ولا احتسابًا لأجرها، فلا يحصل له هذا الأجر، وهذا هو المفهوم والظاهر من الحديث، والله أعلم. شرح كتاب الصوم من صحيح البخاري (ص: 30).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)