«كان أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قبلَ الأضحى بيومٍ أو بيومينِ أَعْطَوْا جَذَعَيْنِ، وأَخَذُوا ثَنِيًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الْجَذَعَةَ تُجزئُ مما تُجزئُ منه الثَّنِيَّةُ».
رواه أحمد برقم: (23123) واللفظ له، وأبو داود برقم: (2799)، والنسائي برقم: (4383)، ورقم: (4384)، وابن ماجه برقم: (3140)، عن رجلٍ من مُزَيْنَةَ أو جُهَيْنَةَ، وقد جاء عند أبي داود والبيهقي تسميته: مجاشع بن مسعود -رضي الله عنه-.
ولفظ أبي داود برقم: (2799)، والنسائي برقم: (4383): «إنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مما يُوَفِّي منه الثَّنِيُّ».
صحيح الجامع برقم: (1595)، وإرواء الغليل برقم: (1146).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الجذع»:
الجَذَعُ قَبْل الثَّنْي، والجمع: جُذْعان وجِذاع، والأنثى: جَذَعَة، والجمع: جذعات، تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللابل في السنة الخامسة: أجذع، والجذع: اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط، وقد قيل في ولد النعجة: إنه يجذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر؛ وذلك جائز في الأضحية. الصحاح، للجوهري (3/ 329).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
والجَذع: من أَسْنَان الدواب وهو ما كان منها شابًّا فتيًّا، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن ما تمَّت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير. النهاية(1/ 250).
«الثَّنِي والثَّنِيَّةُ»:
الثَّنِيَّة: واحدة الثنايا من مقدَّم الأسنان، وهي أربع: ثنيتان من أعلى، وثنيتان من أسفل، والثَّنِيّة من الشَّاءِ والبقر: التي بلغت الإِثناء، والثَّنِيَّةُ من الإِبل: التي تمت لها خمس سنين ودخلت في السادسة. شمس العلوم، لنشوان الحميري (2/ 896).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
والبعير إذا اسْتكْمل الخامسة وطَعن في السَّادسة فهو ثَنِيٌّ، والأُنثى: ثَنِيّة، وهو أدنى ما يجوز من سِنّ الإبِل في الأضاحي، وكذلك من البقر والمِعْزَى؛ فأما الضَّأْن فيجوز منها الجَذَع في الأضاحي. تهذيب اللغة(15/ 101-102).
«يُوفِّي»:
أي: يُجزِئ، كما تُجزِئ الثَّنِيَّة. نيل الأوطار، للشوكاني (5/ 136).
شرح الحديث
قوله: «كان أصحابُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قبلَ الأضحى بيومٍ أو بيومينِ، أَعْطَوْا جَذَعَيْنِ، وأخذوا ثَنِيًّا»:
قال الساعاتي -رحمه الله-:
قوله: «أَعْطَوْا جَذَعَيْنِ، وأخذوا ثَنِيًّا» معناه: أنَّ الرجل منهم كان يشتري الثنية بجذعين؛ لفهمه أنَّ الجذعة من الضأن لا تجزئ في الضحية، فأخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها تجزئ مما تجزئ منه الثنية، وهو حجة لما ذهب إليه الجمهور من أنَّ الجذعة تجزئ مع وجود الثنية. الفتح الرباني (13/ 74).
قوله: «فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ الجَذعة تُجزئُ مما تُجزئُ منه الثَّنِيَّةُ»:
قال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إنَّ الجذعة» بفتحتين، وكأنَّ المراد بالجذعة من الضأن -والله تعالى أعلم-. حاشيته على مسند (5/350).
وفي رواية: «إنَّ الْجَذَعَ يُوَفِّي مما يُوَفِّي منه الثَّنِيُّ»:
قال محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«إنَّ الجذع» أي: من الضأن؛ لما في رواية البيهقي: «إنَّ الجذع من الضأن يفي ما تفي منه الثنية»، «يوفي» يحتمل أنْ يكون من الإيفاء، أو من التوفية، أي: يجزئ ويُغني «مما يوفي منه الثني» هو المسن. ذخيرة العقبى (33/ 316).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «يُوفِي» بضم المثناة تحت، وتخفيف الفاء المكسورة «مما يُوفِي منه الثني» أي: يقوم ويجزئ عما يجزئ منه الثني؛ بدليل رواية النسائي: «إنَّ الجذعة تجزئ ما تجزئ منه الثنية»، وأوله: «كُنَّا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الأضحية بيومين يعطي الجذعتين بالثنية...» الحديث.
وفي رواية له: «كُنَّا في سفر، فحضر الأضحى، فجعل الرجل منا يشتري المسنة بالجذعتين والثلاثة...» الحديث.
واستدل بهذا الحديث عطاء والأوزاعي: أنَّ الجذع يجزئ من جميع الأجناس، وأما إجزاؤه من الضأن، فمذهب الجمهور. شرح سنن أبي داود (12/ 165).
وقال عبيد الله المباكفوري -رحمه الله-:
قوله: «إن الجَذَع» أي: من الضأن، كما في رواية للبيهقي، وهو ما تمت له سنة «يُوفَّى» بصيغة المعلوم من التوفية، أو الإيفاء، يُقال: أوفاه حقه، ووفَّاه: إذا أعطاه وافيًا، أي: تامًّا، والمراد: يجزئ ويكفي «مما يُوفَّى منه الثني» أي: من المعز، والثني هو المسن، يعني: أنَّ الجذع من الضأن يجزئ في الأضحية، كما يجزئ الثني من المعز، ففي رواية النسائي والبيهقي: أن الجذعة تجزئ مما تجزئ منه التثنية. مرعاة المفاتيح (5/ 100-101).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره، وبهذا قال مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال ابن عمر والزهري: لا يجزئ الجَذع؛ لأنه لا يجزئ من غير الضأن، فلا يجزئ منه، كالحمل.
وعن عطاء والأوزاعي: يجزئ الجذع من جميع الأجناس؛ لما روى مجاشع بن سليم، قال: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ الجذع يُوفي مما يوفي منه الثني» رواه أبو داود والنسائي.
ولنا: أنَّ الجذع من الضأن يجزئ: حديث مجاشع وأبي هريرة وغيرهما، وعلى أنَّ الجذعة من غيرها لا تجزئ: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تذبحوا إلا مُسنَّة، فإنْ عسُر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن»، وقال أبو بردة بن نيار: عندي جذعة أحب إليَّ من شاتين، فهل تجزئ عني؟ قال: نعم، ولا تجزئ عن أحد بعدك» متفق عليه.
وحديثهم محمول على الجذع من الضأن؛ لما ذكرنا، قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن؛ لأنه ينزو فيلقح، فإذا كان من المعز لم يلقح، حتى يكون ثنيًّا. المغني (11/ 100).
وقال النووي -رحمه الله-:
ولا يجزئ من الضأن إلا الجذع والجذعة فصاعدًا، ولا من الإبل والبقر والمعز إلا الثني أو الثنية فصاعدًا، هكذا نص عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب، وحكى الرافعي وجهًا: أنه يجزئ الجذع من المعز، وهو شاذ ضعيف، بل غلط، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بردة بن دينار خال البراء بن عازب: «تجزئك -يعني الجذعة من المعز- ولا تجزئ أحدًا بعدك» -والله أعلم-.
ثم الجذع ما استكمل سنة على أصح الأوجه، والوجه الثاني: ما استكمل ستة أشهر، والثالث: ثمانية أشهر، والرابع: إن كان متولدًا بين شابين، فستة أشهر، وإلا فثمانية. المجموع (8/ 393).
وقال المازري -رحمه الله-:
ففيه (أي: حديث أَبي بُردة «ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك») دلالة على أنَّ الجذع من المعز لا يجزئ في الضَّحايا، وأمَّا الجذع من الضَّأن فيضحَّى به، خلافًا لمن منعه، والحجَّة في الإجزاء ما ذكره مسلم بعد هذا عن عقبة بن عامر أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاه غنمًا يقسمها على أصحابه ضحايا، فبقي عَتُود، فذكره لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ضحِّ به أنت»، وفي بعض طرقه: عن عقبة بن عامر قال: قَسَمَ فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضَحَايَا فأصَابَنِي جذع، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّه أصَابَنِي جَذَع، فقال: ضحِّ به»، وعند النَّسائي وأبي داود أنَّه -عليه السلام- كَان يقول: «إنَّ الجذَعَ يوفي بما يوفي منه الثّنيّ»، وعند التّرمذي عن أبي هريرة سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «نِعْمَ أو نِعْمَتِ الأضحِيَة الَجذَع مِنَ الضّأن».
فإنْ تعلَّق المخَالف بقوله في كتاب مسلم: «لا تذبحوا إلا مسنَّة، إلا أن تعسر عليكم، فتذبَحوا جَذَعَةً من الضَّأن»، قيل: يصحّ حمل هذا على الاستحباب للمُكثر أن يذبح فوق سنّ الجذعة، لا على أنها لا تجزئ أصلًا، كيف وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن»؛ فلو كانت لا مدخل لها في الأضاحي، لم يقل هذا، كما لم يقل: ما لا يجزئ من الحيوان. المعلم بفوائد مسلم (3/ 90-91).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
وقد أجمع أهل العلم: أن لا يجزئ الجذع من المعز، وقالوا: إنَّما يجزئ الجذع من الضأن. سنن الترمذي (4/ 94).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وقد أجمع العلماء على الأخذ بحديث أبي بُردة، وأنه لا يجزئ الجذع من المعز. إكمال المعلم (6/ 410).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء، قيل: والإجزاء مصادر للنص، ولكن يحتمل أنْ يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولًا على مَن وجد. فتح الباري (10/ 15).
وقال الترمذي -رحمه الله-:
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، أن الجذع من الضأن يجزئ في الأضحية. سنن الترمذي (4/ 88).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري: أنَّ الجذع لا يجزئ مطلقًا، سواء كان من الضأن أم من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر: ابن المنذر في الأشراف، وبه قال ابن حزم، وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه، ويحتمل: أنْ يكون ذلك أيضًا مقيدًا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغيرهم. فتح الباري (10/ 15).
وقال النووي -رحمه الله-:
حكوا عن ابن عمر والزهري: أنهما قالا: لا يجزئ (الجذع مطلقًا)، وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث («لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن») قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب -والله أعلم-. شرح مسلم (13/ 117).
وقال عبيد الله المباكفوري -رحمه الله-:
فيه دليل على أنها تجوز التضحية بالجذع من الضأن، كما ذهب إليه الجمهور، فيرد به على ابن عمر والزهري، حيث قالا: إنَّه لا يجزئ.
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، لكن لم يسم النسائي الصحابي، بل وقع عنده أنه رجل من مزينة، وأنَّ ذلك كان في سفر، فيُستدل به على أنَّ المسافر يضحي كالمقيم. مرعاة المفاتيح (5/ 100-101).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي: أنَّ ما ذهب إليه الجمهور من أنَّ الجذع يُجزئ إذا كان من الضأن دون غيره، هو الأرجح؛ لظهور أدلّته، كما سمعت -والله تعالى أعلم-. البحر المحيط الثجاج (33/ 369).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- أيضًا:
في فوائده (أي: هذا الحديث):
منها: ما ترجم له المصنف (النسائي) -رحمه الله تعالى- وهو: بيان حكم المسنة والجذعة في الأضحية، وهو جواز التضحية بهما، والمراد بالجذع هو: الجذع من الضأن؛ لما تقدم من حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- مرفوعًا: «لا تذبحوا إلا مسنة...» إلخ؛ ولما في رواية البيهقي المذكورة.
ومنها: مشروعية الأضحية في السفر (لرواية: «كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فحضر الأضحى»).
ومنها: جواز بيع الحيوان بعضها ببعض متفاضلًا. ذخيرة العقبى (33/ 316).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)