الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«اكْلَفُوا من العملِ ما تُطِيقُون، فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ، وإنْ قَلَّ»، وكانَ إذا عَمِلَ عملًا أَثْبَتَهُ.


رواه أبو داود برقم: (1368)، والنسائي في الكبرى برقم: (840)، من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
وأصله في البخاري برقم: (5861)، ومسلم برقم: (782).


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«اكْلَفُوْا»:‌
بفتح اللّام، يقال: كَلِفَ الرَّجُلُ -بكسر العين- يَكْلَفُ -بفتحها-: إذا بالغَ في الشَّيءِ. المسالك في شرح موطأ مالك، ابن العربي (2/ 488).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«اكْلَفُوا» بهمزة وصل ولام مفتوحة، يقال: كَلِفْتُهُ بكسر اللام إذا تحمَّلتُه، وكَلِفْتُ بالشيء إذا ولِعْتُ به وأَحْبَبْتُه، أي: تَحَمَّلُوا. شرح سنن أبي داود (6/ 597).

«تُطِيْقُوْنَ»:
أي: الذي تقدرون عليه، ولا تَتَكَلَّفُوا فوق ما تُطِيقُونه فتَعْجَزوا. عمدة القاري (11/ 75).
مأخوذ مِن الطَّوق، وهو ما يُوضَع في العُنُق حِلْيِةً، فيكون ما يستطيعون من الأفعال طَوْقًا لهم في المعنى. فيض القدير، المناوي (2/ 97).

«أَثْبَتَه»:
أي: لَازَمَهُ ودَاوَمَ عليه. شرح سنن أبي داود، لابن رسلان (6/ 597).

«أَدْوَمُهُ»:
أي: أكثرها تَتَابُعًا ومواظبةً. فيض القدير، المناوي (1/ 165).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
أَدْوَمُهُ، أي: ما داوم عليه صاحبه. شرح سنن أبي داود (6/ 598).


شرح الحديث


قوله: «اكْلَفُوْا مِن العمل ما تُطِيقُون»:
قال العيني -رحمه الله-:
«اكْلَفُوْا» بفتح اللام، والهمزة فيه للوصل، مِن كلِفتُ بالشيء إذا ولِعْتُ به، وأَحْبَبْتُه، من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. شرح سنن أبي داود (5/ 271).
وقال النووي -رحمه الله-:
«اكْلَفُوْا من الأعمال ما تطيقون» أي: ما تطيقون من الدوام عليه بلا ضرر.شرح النووي على مسلم (6/ 70).
وقال محمود خطاب السبكي -رحمه الله-:
«‌اكلفوا من العمل ما ‌تطيقون» المعنى: خذوا من عمل البِرِّ ما تستطيعون المداومة عليه، ولا تُحَمِّلوا أنفسكم من الطاعات ما لا تقدرون على المداومة عليها، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكَلُّف ما لا يطاق منها، وهو عام في أعمال البِرِّ؛ لعموم اللفظ، وإن كان سببه خاصًّا بصلاة الليل. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (7/ 302).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«اكْلَفُوْا» أي: تَحَمَّلُوا «من العمل ما تطيقون» دَوَامَه؛ فإن العمل إذا كان كثيرًا لا يُطاق دوامه، بل يحصل منه مِلَالَة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 633).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«اكْلَفُوْا» أي: تحَمَّلُوا من العمل ما تقدرون على فِعْلِه على الدوام، ولا تُحَمِّلُوا أنفسكم شيئًا تعجزون عنه؛ فإن العمل القليل مع المداومة خير من الكثير مع الانقطاع والتَّرْكِ. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (5/ 1586).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«مِن العمل» الصالح «ما تُطيقون» هو من قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة: 286، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 79).

قوله:«فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
معناه: أن الله سبحانه لا يَمَلُّ أبدًا، وإن مَلَلْتُمْ، وهذا كقول الشاعر الشَّنْفَرَى:
صَلِيتْ مني هُذيلُ بِخِرْقٍ ** لا يمل الشرَّ حتى تَمَلُّوا
يريد: أنه لا يملُّ إذا مَلُّوا، ولو كان يَمَلُّ عند مِلَالِهِم لم يكن له عليهم فضل، وقيل: معناه: أن الله لا يَمَلُّ من الثواب ما لم تَمَلُّوا من العمل، ومعنى يَمَلُّ: يترك؛ لأن مَن مَلَّ شيئًا تَرَكَه وأعرض عنه. معالم السنن (1/ 280).
وقال المازري -رحمه الله-:
وقد اختُلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: إنما ذلك على معنى المقابلة، أي لا يدَعُ الجزاء حتَّى تَدَعُوا العمل، وقيل: (حتى) هاهنا بمعنى الواو؛ فيكون قد نفى عنه -جلَّت قدرته- المللَ، فيكون التقدير: لا يَمَلُّ وتَمَلُّون، وقيل: (حتى) بمعنى حين. المعلم بفوائد مسلم (1/ 458).
وقال النووي -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا» هو بفتح الميم فيهما، وفي الرواية الأخرى: «لا يَسْأَمُ حتى تَسْأَمُوا» وهما بمعنى، قال العلماء: الملل والسَّآمَة بالمعنى المتعارف في حقنا مُحَال في حق الله تعالى؛ فيجب تأويل الحديث، قال المحققون: معناه: لا يعاملكم معاملة المالِّ فيقطع عنكم ثوابه وجزاءه وبَسْطَ فَضْلِه ورحمتِه حتى تقطعوا عملكم، وقيل: معناه: لا يَمَلُّ إذا مَلَلْتُم، وقاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابي وغيره. شرح النووي على مسلم (6/ 71).
وقال الكرماني-رحمه الله-:
فقال الخطابي: معناه أنه لا يَترك الثواب على العمل ما لم يَتركوا العمل وذلك أن مَن مَلَّ شيئا تركه، فكُنِّيَ عن التَّرْك بالملل الذي هو سبب الترك. وقال ابن قتيبة: معناه أنه لا يَمَلُّ إذا مللتم، قال: ومثله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى ينقطع خُصُومُه، معناه: لا ينقطع إذا انقطعت خصومه، ولو كان معناه: ينقطع إذا انقطعت خصومه لم يكن له فضل على غيره.
وقال بعضهم: معناه: أن الله تعالى لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جُهْدُكم قبل ذلك، فلا تتكَلَّفوا ما لا تطيقون من العمل، كُنِّيَ بالْمِلَالِ عنه لأن مَن تناهت قُوَّته في أمر وعجز عن فعله مَلَّهُ وتَرَكَهُ. التيمي: قالوا: معناه أن الله تعالى لا يَمَلُّ أبدًا، ‌مَلَلْتُمْ ‌أنتم ‌أم ‌لم ‌َتَمَلُّوا، نحو قولهم: لا أُكَلِّمك حتى يشيب الغراب، ولا يصح التشبيه؛ لأن شَيْبَ الغراب ليس ممكنًا عادة، بخلاف مِلَالِ العباد. الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 172)
وقال الفيومي -رحمه الله-:
فإن قلتَ: الْمِلَال لا يصح على الله تعالى، فما وجهه؟
قلت: الْمِلَالُ كناية عن عدم القبول، أي: فإن الله يقبل طاعتكم حتى تَمَلُّوا، فإنه لا يَقبل ما يصدر منكم على سبيل الْمِلَالَة، وأَطْلَقَ الْمِلَال على طريقة المشاكلة. فتح القريب المجيب (12/ 518).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا» أي: لا يترك الثواب حتى تتركوا العمل بالملل، وقيل: (حتى) بمعنى الواو، والمعنى: لا يَمَلُّ وتَمَلُّوا.
شرح سنن أبي داود (6/ 597).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «لا يَمَلُّ» بفتح الميم، قيل: معناه: لا يَمَلُّ أبدًا، مَلِلْتُم أو لم تملوا، وقيل: لا يَمَلُّ بمعنى لا يترك؛ لأن مَن مَلَّ شيئًا تركه، فالمعنى لا يترك الثواب ما لم يَمَلُّوا من العمل، فعلى هذا يكون من باب ذكر الملزوم، وإرادة اللازم، وقيل: لا يقطع عنكم فضله، ما لم تَمَلُّوا سؤاله، فسَمَّى فعْلَه مَلَلاً، وليس بملل؛ ولكن لتَزْدَوِج اللفظة بأختها في اللفظ، وإن خالَفَتْها في المعنى، وهذا كقوله تعالى {وَجَزَاءُ سيئة سيئةٌ مثْلُهَا} الشورى:40، وقوله تعالى: {فمَنَ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} البقرة:194، وقوله تعالى: {ومَكرُوا وَمَكَرَ اللهُ} آل عمران: 54، وقال الشاعر:
أَلَا لا يجْهَلَنْ أحدٌ علينا ** فنَجْهَل فوق جَهْلِ الجاهلينا
أراد: فيجازيه، فسماه جهلًا، والجهل لا يَفْخَرُ به ذو عقل، ولكنه على المذهب المذكور -أعني: الازدواج والمشاكلة-.
وقيل: معناه: لا يطرحكم حتى تتركوا العمل، أو تزهدوا في الرغبة إليه، فسمَّى الفِعْلَين مَلَلاً وليْسَا بملل في الحقيقة، على مذهب العرب في وضع الفعل موضع الفعل إذا وافق معناه، كقول الشاعر:
ثم أَضْحَوْا لَعِبَ الدهرُ بهم ** وكذلك الدهر يُوْدِي بالرجالِ
فجعل هلاكَه إياهم لَعِبًا. شرح سنن أبي داود (5/ 271).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وقال غيره (أي: الهروي): معناه: لا يتناهى حقُّه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، ‌وهذا ‌كله ‌بناء ‌على ‌أن (‌حتى) على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم، وجنح بعضُهم إلى تأويلها، فقيل: معناه: لا يَمَلُّ الله إذا مَلَلْتُم، وهو مستعمل في كلام العرب، يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار، أو حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه؛ لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية! وهذا المثال أشبه من الذي قبله؛ لأن شَيْبَ الغراب ليس ممكنًا عادة، بخلاف الملل من العابد...
والأول أَلْيَقُ وأَجْرَى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض طُرُق حديث عائشة -رضي الله عنها- بلفظ: «اكْلَفُوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يَمَلُّ مِن الثواب حتى تملُّوا من العمل»، لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. فتح الباري (1/ 102).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» يعني: لا يَقْطَع ثوابه عمن قطع العمل مِلَالًا، عبَّر عنه باسم الْمِلَالِ مِن تسمية الشيء باسم سببه، أو المراد: لا يقطع عنكم فضلَه حتى تمَلُّوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه. فيض القدير (2/ 97).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» معناه: أنه تعالى لا يَمَلُّ أبدًا، مَلَلْتُمْ أو لم تمَلُّوا، فجرى مجرى قولهم: حتى يشيب الغراب وتبيض القار، وقيل: معناه: لا يقطع عنكم فضله حتى تمَلُّوا. التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 79).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ» الْمِلَالَة في حقه تعالى ليس على حقيقتها، بل هي استعارة لِقَطْعِ الإقبال بالإحسان، أي: لا يقطع الإقبال عليكم بالإحسان «حتى تمَلُّوا» عن العبادة، وإطلاق الْمِلَالة عليه -سبحانه وتعالى- من باب المشاكلة. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 633).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-:
«فإن الله لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» من نصوص الصفات، وهذا على وجهٍ يليق بالباري لا نقص فيه، كنصوص الاستهزاءِ والخِداع فيما يتبادر. فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 209).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
وقوله: «فإن الله -عز وجل- لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» الفاء تعليلية، وفي بعض الروايات: «فوالله لا يَمَلُّ الله حتى تمَلُّوا».
وأكثر الروايات بلفظ: «عليكم من العمل بما تطيقون» بدل «اكْلَفُوا» وتقدم الكلام على الوصفين أول الكتاب.
وقوله: «لا يَمَلُّ» أي: لا ينقطع ثوابه عن العامل بالخير حتى يَكِلَّ العاملُ ويترك العمل، كقوله -صلى الله عليه وسلم-لمن قال له: «إذًا أُكثِر»، فقال: «الله أَكْثَر» أي: أكثَر مِن العمل، فأخبره أن الله أكثر، فمهما كثُر عملُه فثوابُ الله أكثر منه.
وليس للغاية هنا اعتبار إلا بالنسبة لانقطاع ما يترتب على عملهم إذا انقطع عملهم، وإلا فالله -عز وجل-لا ينقطع خيرُه وثوابُه، ولا غاية له ولا عدَّ إلا بالنسبة لما جعله مُرَتَّبًا على عمل العباد. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (5/ 1586).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا»، فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملَلِ لله، لكن مَلَلُ الله ليس كمَلَلِ المخلوق؛ إذ إنَّ مَلَلَ المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سَأَمِهِ وضَجَرِهِ من هذا الشيء، أما مَلَلُ الله فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نُثْبِتُها لله على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالًا.
ومن العلماء من يقول: إنَّ قوله: «لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» يُراد به: بيان أنه مهما عَمِلْتَ من عمل فإنَّ الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك، فإنَّ الله لا يَمَلُّ مِن ثوابك حتى تَمَلَّ من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملَلِ لازِمُ الملَلِ.
ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملَلِ لله إطلاقًا؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم؛ لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضاً: «لا يَمَلُّ حتى تمَلُّوا» لا يستلزم ثبوت الملل لله -عَزَّ وجَلَّ-.
وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقْصٍ مِن المَلَلِ وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل فالمراد به مَلَلٌ ليس كمَلَلِ المخلوق. مجموعة دروس وفتاوى الحرم (1/152).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
ليس في هذا الحديث إثبات الملَلِ لله -عز وجل-صريحًا، بل هو من باب مفهوم المخالفة، وأما صريحُه فنَفْيُ الملَلِ عنه، فلا ينبغي أن نُثْبِتَ به صفة الملَلِ، فالأَوْلَى عندي قول بعضهم: إن «حتى» هنا بمعنى الواو، وليست للغاية، فيكون المعنى: إن الله لا يَمَلُّ، وأنتم تمَلُّون، أو يكون المعنى: لا يَمَلُّ إذا مللتم.
والمراد به: تشجيعهم على المداومة على الأعمال القليلة التي لا تنقطع، ولا تؤدي إلى الملل؛ حيث إن الله تعالى لا يلحقه ملل، فلا ينبغي للعبد أن يَمَلَّ عن الإقبال عليه؛ إذ يؤدي مَلَلُهُ إلى إعراض الله عنه، فإنَّ مَن أَعْرَض عن الله أعرض الله عنه؛ فقد أخرج الشيخان عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما أحدهم فأَوَى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحْيَا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه». ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 486).

قوله: «وإنَّ أَحَبَّ العمل إلى الله أَدْوَمُهُ، وإن قَلَّ»:
قال ابن العربي -رحمه الله-:
«وإنَّ أَحَبَّ» محبّةُ الله إرادةُ إِثَابَتِهِ، وقيل: المحبّةُ من اللهِ هي: إرادة حُبِّ الجزاء وكريم المآب، والبُغضُ منه: شدَّةُ العقاب وسوء المآب. المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 501).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-مُعلقًا:
قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى: تَعَلُّق الإرادة بالثواب، أي: أكثر الأعمال ثوابًا أدومها، وإن قلَّ.
وهذا تأويل لمعنى المحبة بلازمها، وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى نفي صفة المحبة عن الله تعالى بمعناها الحقيقي اللائق به -سبحانه وتعالى-، فالصواب إثباتها له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسُّنة على المعنى اللائق به -سبحانه وتعالى-، كسائر صفاته العليَّة، من الرضا، والإرادة، والقدرة، والعلم، وغيرها من غير فَرْقَ، ولا يلزم في ذلك تشبيهه بالمخلوقين؛ إذ صفاته تعالى لا تُشْبِهُ صفات المخلوقين، كما أن ذاته تعالى لا تُشْبِهُ ذواتهم، ولا فَرْقَ، وإنما يلزم التشبيه لو أثبتناها على المعنى الذي تُفَسَّر به إذا كانت للمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فتَبَصَّر، ولا تتحَيَّر، واسلك سبيل السلف، تَسْلَم من الضلال والتَّلَف. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (9/ 487).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فإنَّ أَحَبَّ العمل إلى الله أَدْوَمُهُ» أي: ما دَاوَمَ عليه صاحبه.
«وإن قلَّ» وإنما قال -صلى الله عليه وسلم- ذلك خشية الإملال اللاحق بمن انقطع عن العبادة، وقد ذم الله تعالى مَن التزم فعل البِرِّ ثم قطَعَه بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} الحديد:27، وابن عمرو -رضي الله عنهما- لما ضَعُفَ عن العمل نَدِمَ على مراجعته -صلى الله عليه وسلم- في التخفيف عنه، وقال: ليتني قَبِلْتُ رخصة النبي -صلى الله عليه وسلم-. شرح سنن أبي داود (6/ 597).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
إنما أَحَبَّ الدائم لمعنيين:
أحدهما: أن المقْبِل على الله -عز وجل- بالعمل إذا تركه من غير عذر كان كالْمُعْرِضِ بعد الوصل، فهو مُعرَّض للذم؛ ولهذا ورد الوعيد في حق مَن حَفِظَ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حِفْظِهَا لا يتعين عليه الحفظ، ولكنه أعرض بعد المواصلة، فَلَاقٍ به الوعيد، وكذلك يُكْرَهُ أن يُؤْثِرَ الإنسان بمكانه من الصف الأول؛ لأنه كالراغب عن القُرَب إلى الله -عز وجل-؛ ولهذا قال -عليه السلام- لعبد الله بن عمرو: «لا تكوننَّ مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
والثاني: أن مُداوِم الخير مُلازِمٌ للخدمة، فكأنه يتردد إلى باب الطاعة كل وقت، فلا يُنسى من البِرِّ لتَرَدُّدِهِ، وليس كمن لازَمَ الباب يومًا دائمًا ثم انقطع شهرًا كاملًا. كشف المشكل (4/ 278).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«أَدْوَمُهُ وإن قلَّ» لا تنافي بينهما (أي بينه وبين قوله: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون») من حيث إن الدوام استغراق الأوقات، فلا يكون قليلًا؛ بل هو غير مقدور؛ لأن المراد بالدوام: المواظبة العُرْفية، وهي الإتيان بها في كل شهر، أو كل يوم بِقَدْرِ ما يُطْلَق عليه عُرفًا اسم المداومة. اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح (15/ 496).
وقال الغزالي -رحمه الله-:
قطرات من الماء تقع على الحجر على توالٍ فتؤثر فيه؛ وذلك القَدْرُ من الماء لو صُبَّ عليه دفعة واحدة لم يؤثر؛ ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خير الأعمال أَدْوَمُهَا وإن قَلَّ»، والأشياء تُسْتَبَانُ بأضداها، وإنكان النافع من العمل هو الدائم وإن قلَّ، فالكثير المنصرم قليلُ النفع في تنوير القلب وتطهيره. إحياء علوم الدين (4/ 32).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
إنما كان العمل الذي يُداوَم عليه أحبَّ؛ لأن النفس تَأْلَفُ به، ويدوم بسببه الإقبالُ على الله تعالى؛ ولهذا يُنْكِرُ أهل التصوف ترك الأَوْرَادِ كما يُنكَرون ترك الفرائض. شرح المصابيح (2/ 171).
وقال الدهلوي -رحمه الله- مُعلقًا:
إدامة العمل والتزامهم -أي: الصوفية- النوافل والأوراد، ولكن ينبغي أن يُعْلَم أن المداومة على الوِرْدِ ضربان: بالشخص وبالنوع، أما بالشخص: فَبِأَنْ يُواظِبَ ويُداوِمَ على وِرْدٍ واحد بالشخص من صلاة أو صيام أو آية أو دعاء أو ذِكْرٍ، ويكرره كل يوم، وأما بالنوع: فَبِأَنْ يقرأ كل يوم فردًا منها غير ما قرأ اليوم السابق أيًّا شاءه، وبهذا الطريق أيضًا يحصل المداومة، ويحصل تأثيره. لمعات التنقيح (3/ 348).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
مَن سلك الطريقَ المتوسطَ يَقدِر على المداومة والمواظبة، وأفضلُ الأعمال عند الله «أَدْوَمُها وإن قَلَّ»، وإنْ بالَغَ في العمل وأَتعبَ نفسَه عجزَ عن المداومة على ذلك وانقطعَ عنه، بل ربما إذا بالَغَ وأقبلَ الناسُ عليه بوجوههم اغترَّ بنفسه، وتَدَاخَلَه أنه خيرٌ من غيره، فيصير أحمقَ مُعجَبًا بنفسه، متكبرًا بعمله. شرح المصابيح (5/ 448).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
الغرض من العمل: ملاحظة جَلَالِ المعبود على الدوام؛ وذلك إنما يكون مع قِلَّةِ العمل، فإنَّ الإفراط يُورِثُ الانقطاع. الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (10/ 151).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وإنَّ أَحَبَّ العمل إلى الله ‌أَدْوَمُهُ وإن قَلَّ» فالقليل الدائم أحَبُّ إليه من الكثير المنقطع، فأَمَرَهم بالاقتصاد في الطاعة؛ لئلا يطيعوا باعث الشغف فيُحَمِّلُوا أنفسهم فوق ما يطيقون؛ فيُؤدِّي لعجزهم عن الطاعة، أو قيامهم بها بتَكَلُّفٍ. فيض القدير (2/ 97).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
فالقليل الدَّائِم أَحَبُّ إِلَيْهِ من كثير مُنْقَطع؛ لِأَنَّهُ كالإعراض بعد الْوَصْل، وَهُوَ قَبِيح كما مرّ. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 205).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
أي: أنَّ أَحَبَّ أعمال الطاعات -التي هي نوافل إلى الله تعالى- ما داوم عليه فاعله وإن كان شيئًا قليلًا؛ لأن في المداومة فوائد، منها: دوام الاتصال بطاعة الرب، وطَرْق باب الخير، وعدم الإعراض، بخلاف المنقطع مِن العمل؛ فإن صاحبه كأنه أعرض بعد انتهائه.
ومنها: أن النفحات قد تُصَادِف هذا الدائم، وقد قال: «فتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِهِ» بعد قوله: «إنَّ لله في أيامِ دَهْرِكُمْ نفحات».
ومنها: أن المداومة على طاعةٍ ما إذا عَاقَهُ شيء كَسَفَرٍ أو مرضٍ كُتب له أجرُ ما كان يعمل كما ثبت في الحديث.
ومنها: أن ثواب القليل الدائم لا يزال يزيد ويكثر بالتكرر حتى يزيد على الكثير المنقطع في ثوابه. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (5/ 1586).

قولها: «وكان إذا عَمِلَ عملًا أَثْبَتَهُ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وكان» أي: النبي -عليه الصلاة والسلام- «إذا عمل عملًا أَثْبَتَهُ» أي: دَاوَمَ عليه ووَاظَبَهُ، ولا يقطعه. شرح سنن أبي داود (5/ 271).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«وكان» أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا عمل عملًا أَثْبَتَهُ»:
أي: داوَم عليه ولم يتركه إلَّا لمصلحة شرعية دعت إليه. بذل المجهود في حل سنن أبي داود (5/ 633).
وقال النووي -رحمه الله-:
فيه: الأمر بالاقتصاد في العبادة؛ وهو أن يأخذ منها ما يُطِيقُ الدوام عليه، وأَمَرَ من كان في صلاة فتركَهَا ولَحِقَه مَلَلٌ ونحوه بأن يتركها حتى يزول ذلك...
وفيه: دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة، واجتناب التعمُّق، وليس الحديث مختصًّا بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر...
وفي هذا الحديث: كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- ورأفته بأُمَّتِهِ؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يُمكِنُهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفسُ أنشطُ والقلب منشرحًا، فتتم العبادة، بخلاف مَن تعاطى من الأعمال ما يَشُقُّ؛ فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم، وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- من اعتاد عبادة ثم فرَّطَ فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعايتها} الحديد: 27، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- على تركه قبول رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد.
وفيه: الحث على المداومة على العمل، وأنَّ قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذِّكْر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق -سبحانه وتعالى-، ويُثْمِر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. شرح النووي على مسلم (6/ 71).
وقال العيني -رحمه الله-:
وفيه: الحث على المداومة على العمل، وأنَّ قليله الدائم خيرٌ من كثيره الذي ينقطع؛ وذلك لأن بدوام القليل تدوم الطاعة، ويُثمر ذلك، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة. شرح سنن أبي داود (5/ 271).
وقال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-:
فمَن عمل عملًا يَقْوَى عليه بدنُه في طول عمره، في قُوَّته وضعفه؛ استقام سَيْرُهُ، ومَن حَمَلَ ما لا يطيق فإنّه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكُليَّة، وقد يَسْأَمُ ويضْجَرُ فيقطع العمل، فيصيرُ كالْمُنْبَتِّ لا أَرْضًا قَطَعَ ولا ظَهْرًا أَبْقَى. لطائف المعارف (ص: 227).
وقال محمود خطاب السبكي -رحمه الله-:
دل الحديث: على مشروعية التوسط والاعتدال في العمل، وكراهة التعمق في الطاعة.
وفيه: دليل للجمهور على أن قيام كل الليل مكروهٌ، وكَرِهَهُ مالكٌ أولًا، وقال: لعله يُصْبِحُ مغلوبًا، وفي رسول الله أُسْوَةٌ، ثم قال: لا بأس به ما لم يَضُرَّ ذلك بصلاة الصبح. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود (7/ 302).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن التعمق في العبادة وإجهاد النفس في العمل؛ خشية الانقطاع، ومتى دَخَلَ أحد في شيء من العبادة لم يصلح له الانصراف عنها، وقد ذمَّ الله مَن فَعَلَ ذلك بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ} الحديد: 27 الآية، فوبَّخَهم على ترك التمادي فيما دخلوا فيه؛ ولهذا قال عبد الله بن عمرو حين ضعف عن القيام بما كان التزمه: ليتني قَبْلْتُ رخصة رسول الله. شرح صحيح البخاري (4/ 120).


ابلاغ عن خطا