«كنتُ أُحِبُّ أنْ أدخل البيت، فأُصلِّيَ فيه، فأخذ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بيدي فأَدْخَلَنِي في الحِجْرِ فقال: صلِّي في الحِجْرِ إذا أَرَدْتِ دخول البيتِ، فإنَّما هو قِطْعَةٌ مِن البيتِ، فإنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حين بَنَوْا الكعبةَ، فأَخْرَجُوهُ مِن البيتِ».
رواه أحمد برقم: (24616)، وأبو داود برقم: (2028) واللفظ له، والترمذي برقم: (876)، والنسائي برقم: (2912)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
صحيح الجامع برقم: (3792)، صحيح أبي داود برقم: (1769).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الحِجْرِ»:
بكسر المهملة، وحُكِي فتحها، فسكون المعجمة: رسم حائط مستديرٌ إلى جانب الكعبة. فتح الودود، للسندي (2/ 440).
وقال النووي -رحمه الله-:
حِجْر الكعبة زادها الله تعالى شرفًا هو بكسر الحاء، وإسكان الجيم، هذا هو الصواب المعروف الذي قاله العلماء من أصحاب الفنون، ورأيتُ بعض الفضلاء المصنفين في ألفاظ المهذب أنه يقال أيضًا: حَجْر بفتح الحاء، كحجر الإنسان؛ سمي حِجْرًا لاستدارته. تهذيب الأسماء واللغات (3/ 80).
شرح الحديث
قوله: «كُنت أُحبُّ أن أدخل، البيت فأُصَلِّي فيه»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«كُنتُ أحبُّ أنْ أدخلَ البيتَ، وأصلي فيه» كأنَّها قالت: فقلتُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك. بذل المجهود (7/ 541).
قوله: «فأَخذ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بيدي، فأَدْخَلَنِي في الحِجْرِ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدِي» بكسر الدّال. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فأدخلني في الحِجْر» وهو الحَطيم. بذل المجهود (7/ 541).
وقال المناوي -رحمه الله-:
لكن الأشهر أنَّ الحطيم: ما بين الحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وهو أفضل محل بالمسجد بعد الكعبة، وحِجْرها. فيض القدير (4/ 271).
وقال النووي -رحمه الله-:
الحَجْر: عرصة مُلصقة بالكعبة منقوشة على صورة نصف دائرة، وعليه جدار، وارتفاع الجدار من الأرض نحو ستة أذرع، وعرضه نحو خمسة أشبار، وقيل: خمسة وثلث، وللجدار طرفان: ينتهي أحدهما: إلى ركن البيت العراقي، والآخر: إلى الركن الشامي، وبين كل واحد من الطرفين وبين الركن فتحة يدخل منها إلى الحِجْر، وتدويرة الحِجْر تسع وثلاثون ذراعًا وشبر، وطول الحِجْر من الشاذوران الملتصق بالكعبة إلى الجدار المقابل له من الحجر أربعة وثلاثون قدمًا ونصف قدم، وما بين الفتحتين أربعون قدمًا إلا نصف قدم، وميزاب البيت يضرب في الحجر. تهذيب الأسماء واللغات (3/ 80).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«فأدخلني الحِجْر» بكسر الحاء، وحكى النووي فتحها، سُمي بذلك لاستدارته. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «فأدخلني الحِجْر» بكسر الحاء، وسكون الجيم، وهو اسم للحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي؛ سُمّي به لأنه حجر من البيت، أي: منع من دخوله في بنائه، ولكنه في حُكم البيت حتى إذا طاف من داخل الحِجْر لا يعتد به، وسُمّي الحطيم أيضًا؛ لأنه حُطم من البيت، أي: كُسر. نخب الأفكار (6/ 186).
وقال العراقي -رحمه الله-:
ذكر المالكية أنَّ الصلاة في الحِجْر كالصلاة في البيت، وحينئذٍ فيفرق فيه عندهم بين الفرض والنفل، وقد ثبت في الحديث الصحيح: «أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر عائشة بالصلاة في الحِجْر، وقال: إنَّه من البيت». طرح التثريب (5/ 142).
وقال العيني -رحمه الله-:
فهذا رسولُ الله -عليه السلام- قد أجاز الصلاة في الحِجر الذي هو من البيت، فقد ثبت بما ذكرنا تصحيح قول مَنْ ذهب إلى إجازة الصلاة في البيت، فهذا حُكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.
وأما حُكمه من جهة النظر، فإنَّ الذين يَنْهون عن الصلاة فيه؛ إنما نهوا عن ذلك لأن البيت كُله عندهم قبلة، قالوا: فمَنْ صلى فيه فقد استدبر بعضه فهو كمُسْتدبر بعض القبلة، فلا تجزئه صلاته، فكان من الحجة عليهم في ذلك: أنَّا رأينا من استدبر القبلة، أو ولَّاها يمينه أو شماله، أنَّ ذلك كله سواء، وأنَّ صلاته لا تجزئه، وكان مَنْ صلى مُسْتقبل جهةٍ من جهات البيت أجزأته الصلاة باتفاقهم، وليس هو في ذلك مستقبل جهة القبلة كلها؛ لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت، وما عن يساره ليس هو مُسْتقبله، فلما كان لم يتعبد باستقبال جهات كل البيت في صلاته، وإنما يتعبد باستقبال جهة من جهاته، ولا يضره ترك استقبال ما بقي من جهاته بعدها، كان النظر على ذلك أنَّ مَن صلى فيه فقد استقبل إحدى جهاته، واستدبر غيرها، فما استدبر من ذلك فهو في حكم ما كان عن يمين ما استقبل من جهات البيت وعن يساره إذا كان خارجًا منه؛ فثبت بذلك أيضًا قول الذين أجازوا الصلاة في البيت؛ وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-. نخب الأفكار (6/ 186).
قوله: «صلِّي في الحِجْرِ إذا أردت دخول البيت، فإنَّما هو قِطعة من البيتِ»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«صلِّي» بإثبات ياء التأنيث آخره. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«صلِّي» بالكسر، خطابًا لعائشة. التيسير (2/ 182).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«في الحِجْر» أي: الحطيم. بذل المجهود (7/ 541).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
«في الحِجْر» بكسر المهملة، وسكون الجيم، هو ما تحت الميزاب، وهو على صورة نصف الدائرة، وتدوير الحِجْر تسع وثلاثون ذراعًا، وقال أصحابنا (الشافعية): ست أذرع منه محسوب من البيت بلا خلاف. الكواكب الدراري (8/ 104).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
الروايات كلها تجتمع على أنَّها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعًا: «لكنتُ أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع» فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح؛ لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، ثم ظهر لي لرواية عطاء وجهٌ: وهو أنَّه أُريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحِجْر، فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإنَّ الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء؛ ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة في هذه القصة: «ولأدخلتُ فيها من الحجر أربعة أذرع»؛ فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك، ولم أرَ مَن سبقني إلى ذلك. فتح الباري (3/ 443).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّما هو قِطْعَةٌ مِن البيتِ» الفاء للتعليل، أي: لأن الحِجْر قطعة من البيت، وقد تقدَّم أنَّ الأرجح في معناه: أنَّ بعضه من البيت؛ حملًا للروايات المطلقة على المقيّدة. ذخيرة العقبى (25/ 183).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «فإنَّما هو قِطعة من البيت» فيه استحباب الإكثار من دخول الحِجْر والصلاة فيه، والدعاء؛ لأنه من البيت، أو بعضه، وقد اختلف العلماء هل الحِجْر كُله من البيت أو بعضه؟ وفيه وجهان لأصحابنا (الشافعية): أصحهما: أنَّ بعضه المتصل بالبيت من البيت، والزائد ليس من البيت، واختلفوا في قدر البعض الذي هو من البيت، والأصح: ستة أذرع، وقيل: خمسة. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال الساعاتي -رحمه الله-:
«فإنَّما هو قطعة من البيت» هذا ظاهره: أنَّ الحِجر كله من البيت، وكذا قوله في رواية عائشة عند البخاري قالت: سألتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجدار أَمِنَ البيت هو؟ قال: «نعم»، وبذلك كان يفتي ابن عباس، كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال: سمعتُ ابن عباس يقول: لو وليتُ من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلتُ الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت؟ الفتح الرباني (12/ 51).
وقال العيني -رحمه الله-:
قال شيخنا زين الدين -رحمه الله تعالى- (العراقي الأب) ...: إنَّ الحِجْر كله من البيت، وهو ظاهر نص الشافعي في (المختصر)، ومقتضى كلام جماعة من أصحابه كما قال الرافعي، وقال النووي: إنه الصحيح، وعليه نص الشافعي، وبه قطع جماهير أصحابنا، قال: وهذا هو الصواب، وكذا رجحه ابن الصلاح قبله، وقال الرافعي: الصحيح أن ليس كله من البيت، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع متصل بالبيت، وبه قال الشيخ أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين والغزالي والبغوي. عمدة القاري (9/ 218).
وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-:
ويُسن التنفل فيه -أي في الحِجْر- لخبر عائشة، وأما الفرض فيه -أي: الحِجْر- فكالفرض داخلها، لا يصح إلا إذا وقف على منتهاه، بحيث لم يبق وراءه شيء منه، أو وقف خارجه وسجد فيه. كشاف القناع (2/ 216).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-:
فمن تركَ الطَّوافَ بالحِجْرِ لم يَطُفْ بجميعِ البيتِ، فلم يَصِحَّ، كما لو تركَ الطَّوافَ ببعضِ البناءِ؛ ولأنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- طافَ من وراءِ الحِجْرِ، وقد قال -عليه السلام-: «لِتَأْخُذُوا عنّي مَنَاسِكَكُمْ». المغني (5/ 230).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
لو ملتُ إلى قول أسامة وابن عباس: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخل الكعبة دعا فيها، ولم يصل، لم أجز فيها نافلة ولا فريضة من جهة استدبار بعضها، ولكن القول بالزيادة المفسرة لمعنى الصلاة أولى، ورواية من أثبت أولى من رواية من نفى -والله أعلم، وبه التوفيق لا شريك له-. التمهيد (15/ 321).
قوله: «فإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوهُ من البيت»:
قال السهارنفوري -رحمه الله-:
«فإنَّ قومكِ» أي: قريشًا. بذل المجهود (7/ 541).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «اقتصروا» لفظ البخاري: «قصَّرت بهم النفقة». التحبير (3/ 357).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«اقْتَصَرُوا»...، وفي الرواية المتقدمة: «استقصرت»، وفي رواية عند مسلم: «فإن قريشًا اقتصرتها»، وفي أخرى: «استقصروا من بنيان البيت»، وفي أخرى: «قصروا في البناء»، وفي أخرى: «قصرت بهم النفقة».
قال العلماء: هذه الروايات كلها بمعنى واحد، ومعنى «استقصرت» قصَّرت عن تمام بنائها، واقتصرت على هذا القَدر لقصور النفقة بهم عن تمامها. ذخيرة العقبى (25/ 183).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
أي: قصرت عن تمام بنائها، واقتصرت على هذا القدر؛ لقصور النفقة بهم عن تمامها. الكواكب الدراري (8/ 105).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«اقتصروا» أي: من البيت على بعضه حين «بنوا الكعبة» أي: لما ضاقت بهم النفقة الطيبة التي تصلح للإنفاق في عمارته؛ «فأخرجوه من البيت»، وفيه: دليل على أنه كان داخلًا في البيت قبل ذلك. شرح سنن أبي داود (9/ 208).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
أي: النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك، كما جزم به الأزرقي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية: أنَّ أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قال لقريش: «لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس»، وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه: أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك، فسأله عمر عن بناء الكعبة، فقال: «إنَّ قريشًا تقرَّبت لبناء الكعبة -أي: بالنفقة الطيبة- فعجزت، فتركوا بعض البيت في الحجر». فتح الباري (3/ 444).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
واستدل ابن عمر بهذا على أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمس الركن الشامي والعراقي؛ لأنهما ليسا بركنين في الحقيقة؛ لأن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.
قلتُ: ويؤيد ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف دائمًا من وراء الحطيم، ولم يطف مرة بين الفرجتين، ولكن قالت الفقهاء: إذا صلَّى المصلي، واستقبل الحطيم فقط لا تجوز صلاته؛ لأن استقبال البيت في الصلاة قطعي الثبوت، وكون الحطيم داخل البيت ثبت بحديث ظني؛ لهذا لا يجوِّزون استقبالها حتى يكون الاستقبال إلى جزء من البيت. بذل المجهود (7/ 541).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: دليل على أنَّ الصلاة في الكعبة كانت معلومة عندهم للرجال والنساء. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
فيه: أنَّه يُستحب للمرأة دخول الحِجْر، وهو أولى لها من دخول البيت بخلاف الرجل، لا سيما في هذا الزمان لما يحصل (في دخولها) من المفاسد العظيمة، فنسأل الله العافية، فإذا كان مع الرجل امرأة من محارمه، وأرادت دخول البيت، فيُستحب له أنْ يدخلها الحِجْر تأسيًّا به -صلى الله عليه وسلم-. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «في الحِجْر إذا أردتِ دخول البيت» فيه: أنَّ الصلاة في الحِجْر، وفي البيت ليسا واجبين؛ إذ لو كانا واجبين لما علقهما بإرادتها. شرح سنن أبي داود (9/ 207).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
السُّنة إذا أراد النساء دخول البيت أنْ يخرج الرجال عنه، بخلاف الطواف حول البيت.شرح صحيح البخاري (4/ 299).