«مَنْ جاءَ مسجدي هذا، لم يأتهِ إلا لخيرٍ يتعلَّمُهُ أو يُعَلِّمُهُ، فهو بمنزلةِ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ، ومَن جاءَ لغيرِ ذلك، فهو بمنزلةِ الرجلِ ينظُرُ إلى متاعِ غيرِهِ».
رواه أحمد برقم: (9419)، وابن ماجه برقم: (227) واللفظ له، والبيهقي في الشعب برقم: (1575)، وأبو يعلى برقم: (6472)، وابن أبي شيبة برقم: (32521) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (6184)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (87).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«مَتَاع»:
المتاع: ما يستمتع به الإنسان في حوائجه من أمتعة البيت، ونحوه من كل شيء. العين، للفراهيدي (2/ 83).
شرح الحديث
قوله: «مَن جاءَ مسجدي هذا»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«من جاء مسجدي هذا» أي: المسجد النبوي في المدينة المعطَّرة. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «من جاء مسجدي هذا» ذكر مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم- على طريق الاتفاق والتمثيل لا التقييد، ولا بدَّ منه؛ لكون هذا الحكم فيه أَتَمُّ وأكملُ وأفضلُ. لمعات التنقيح (2/ 492).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «من جاء مسجدي هذا» أراد مسجده وتخصيصه بالذّكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلًّا للكلام حينئذٍ، وحكم سائر المساجد كحكمه. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 100).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
يُؤيِّد الإطلاق حديث أَبي أُمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن غدا إلى المسجد لا يريد إلا أنْ يتعلَّم خيرًا، أو يُعلِّمه، كان له أجر معتمر تامِّ العمرة، فمَن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلَّم خيرًا، أو يعلِّمه، فله أجر حاجٍّ تامِّ الحجة» رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبيّ -والله تعالى أعلم-. مشارق الأنوار الوهاجة (4/ 353).
وقال الزركشي -رحمه الله-:
ينبغي قصد المدينة للتعلُّم أو التعليم، ففي سنن ابن ماجه...، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلَّمه أو يعلِّمه...» الحديث. إعلام الساجد (ص: 273).
قوله: «لم يأتهِ إلا لخيرٍ يتعلَّمُهُ أو يُعَلِّمُهُ»:
قال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «لم يأتِ» أي: جاء مسجدي حال كونه غير آتٍ إلا لخير. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 956).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «لم يأتهِ إلا لخير» الجملة حال، أي: حال كونه آتيًا للخير، لا لغيره، والكلام فيمن لم يأتِ الصلاة، وإلا فالإتيان لها هو الأصل المطلوب في المساجد. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 100).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «لم يأتِ» أي: حال كونه غير آتٍ «إلا لخير» أي: علم أو عمل «يتعلمه أو يعلمه» (أو) للتنويع. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
جملة قوله: «لم يأتهِ إلا لخير» حال من فاعل «جاء»، والضمير المنصوب عائد إلى «المسجد» أي: حال كونه آتيًا إياه للخير لا لغيره، والمراد بالخير: العلم؛ أي: حالة كونه لا يأتيه إلا لعلم «يتعلمه» من الناس «أو يعلمه» غيره بالتدريس والإفتاء مثلًا. مرشد ذوي الحجا والحاجة (2/ 286).
وقال الفيومي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لم يأته إلا لخير يتعلمه...» الحديث، والمراد هنا: العلم، وورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «ما أعمال البر في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر والجهاد في طلب العلم، إلا كبصقة في بحر» (لم نقف على إسناد له)؛ فتبيَّن من هذا الحديث: أنَّ أعظم أعمال الآخرة إنما هو طلب العلم، قال الله العظيم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} آل عمران: 18، فجعل العلماء في ثاني درجة من ملائكته، وفي ثالث درجة منه -سبحانه وتعالى- أعني في الشهادة. فتح القريب المجيب (1/ 735).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
مما يدل على جواز تعلم العلم في المساجد وتعليمه ما أخرجه أحمد وأبو داود وإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرًا أو ليعلِّمه، كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له». السيل الجرار (ص: 111).
قوله: «فهو بمنزلةِ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ»:
قال محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «فهو بمنزلة المجاهد» جواب الشرط؛ أي: فذلك الآتي لغرض التعلم أو التعليم بمنزلة الغازي «في سبيل الله» لإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ووجه مشابهة طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله: أنَّه إحياء للدين، وإذلال للشيطان، وإتعاب للنفس، وكسر ذُرى الشهوات، كيف وقد أبيح له التخلُّف للتفقُّه عن الجهاد؟! فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} التوبة: 122 الآية. مرشد ذوي الحجا والحاجة (2/ 286).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله» مِن حيث أنّ كلًا منهما يريد إعلاء كلمة الله العليا، أو لأن العلم والجهاد كل واحد منهما قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، أو لأن كلًّا منهما عبادة نفْعُها مُتَعَدٍّ إلى عموم المسلمين. مرقاة المفاتيح(2/ 622).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «بمنزلة المجاهد» وجه مشابهة طلب العلم بالمجاهد في سبيل الله: أنه إحياء للدين وإذلال للشيطان، وإتعاب النفس وكسر ذُرَى اللذة، كيف وقد أبيح له التخلّف عن الجهاد فقال تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} التوبة: 122 الآية. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 100).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي -حفظه الله-:
قوله: «لم يأتهِ إلا لخير يتعلَّمُه أو يعلِّمُه...» فيه بيان أنَّ التعلُّم والتعليم نوع من الجهاد؛ ولهذا قال سبحانه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة:122.
وفيه: فضل التعلُّم في المساجد؛ فالمساجد لها فضل في التعلُّم والتعليم. شرح سنن ابن ماجة (15/ 8).
وقال المجددي -رحمه الله-:
الحديث يدل على أنَّ تعلُّم العلم خير من كثرة الأعمال؛ لأن تعلُّم آية خير من مائة ركعة...، ودل الحديث أيضًا على أنَّ العالم إنْ لم يعمل بعلمه بحيث جاءه الموت بغتة، أو اشتغل في تعليم الناس بحيث فاته الأعمال جُوْزِيَ بمثل ما جُوْزِيَ العامل؛ ولذا قال فقهاؤنا: إنَّ العالم إذا صار مرجعًا للناس، وسِعَهُ ترك السنن الرواتب، ولم يَجُزْ له أن يخرج إلى الغزو والجهاد إذا لم يكن في البلد عالم غيره.
وفي الحديث: دليل أيضًا على أنَّ تعلُّم العلم خير من تعلُّم القرآن إذا قرأ ما يصح به الصلاة بعشر درجة. إنجاح الحاجة، مخطوط، لوح (33).
قوله: «ومَن جاءَ لغيرِ ذلكَ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ومَن جاء لغير ذلك» أي: لغير ما ذُكِرَ من الخير، وهو العلم والعمل الذي يشمل الصلاة والاعتكاف والزيارة. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «ومَن جاء لغير ذلك» يُوهِم أنَّ الصلاة داخلة فيه، وليس كذلك؛ لأن أمر الصلاة مفروغ منه، وأنَّها مستثناة من أصل الكلام. الكاشف عن حقائق السنن (3/ 956).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «ومَن جاء لغير ذلك» أي: لغير الخير مطلقًا، من غير تقييده بقيد التعليم أو التعلُّم، فلا يدخل مَن جاء لصلاة أو ذِكر أو اعتكاف أو نحوها مما ليس من باب العلم، بل مَن جاء لغير الخير كاللهو واللعب والعبث والمرور. لمعات التنقيح (2/ 492).
قوله: «فهو بمنزلةِ الرجلِ ينظُرُ إلى متاعِ غيرِهِ»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
قوله: «فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» أي: فهو مُتَحَسِّر محروم عمَّا ينتفع به الناس في الدنيا من العلم والعمل والثناء الجميل، وفي العقبى من الدرجات والجزاء الجزيل. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
قوله: «بمنزلة الرجل» فيه معنى التشبيه، كأنه شبَّه حالة مَن أتى المسجد لغير الصلاة والتعلُّم بحالة مَن ينظر إلى متاع الغير بغير إذنه، ومع ذلك لم يقصد تملكه بوجهٍ شرعي، فإنَّ ذلك محظور، وكذلك إتيان المسجد لغير ما بُنِيَ له محظور، لا سيما مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه يجب توقيره وتعظيمه إجلالًا وتبجيلًا لمكانة صاحبه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يدخله عبثًا، ولا مارًّا، فكيف بغيرهما؟ الكاشف عن حقائق السنن (3/ 956).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقِّبًا:
لكن كون النظر المجرَّد إلى متاع الغير محظورًا محل نظر، ثم رأيتُ ابن حجر تعقَّبَه بقوله: إنَّ المحظور المحرَّم، ولا حرمة هنا، بل يجوز النظر لمتاع الغير، وإنْ لم يقصد تملُّكَهُ ما لم يكن بإشراف، من كَوَّة (فتحة أو نافذة للتهوية والإضاءة) ونحوها...
والمراد بالحظر: الحرمة، وإلا فالمرور مكروه من غير ضرورة بلا خلاف، والنوم فيه تفصيل، لكنه مكروه لا محرم بالإجماع. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» المقصود: بيان التحسُّر والتألُّم بالنظر إلى ثواب غيره ممن جاء لخير، ويعمل في المسجد أعمال الخير، كما يحصل لمن ينظر إلى متاع غيره بنظر إعجاب واستحسان، وليس له مثله. لمعات التنقيح (2/ 493).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله «فهو بمنزلة» إلخ، أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري، بل لينظر إلى أمتعة الناس، فهل يحصل له بذلك فائدة؟ فكذلك هذا.
وفيه: أنَّ مسجده -صلى الله عليه وسلم- سوق العلم، فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم. كفاية الحاجة (1/ 101).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قيل: المقصود: أنَّ مَن لم يأتِ المسجد لخير يتعلَّمه أو يعلِّمه ينظر يوم القيامة إلى ثواب غيره ممن يعمل أعمال الخير في المسجد، كمن ينظر إلى متاع غيره نظر إعجاب واستحسان وليس له مثله. مرعاة المفاتيح (2/ 456).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فيه: دلالة ظاهرة على جواز التدريس في المسجد، خلافًا لما تقدَّم عن الإمام مالك، ولعله منع رفع الصوت المشوش. مرقاة المفاتيح (2/ 622).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
فيه أيضًا: التنويه بشرف تعلُّم العلم وتعليمه؛ لأنه هو الخير الذي لا يُقاوم قدره، وهذا إنْ جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلُّم وتعليم لخير، أيّ خير كان تحت ذلك، فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل، أو يعلمها غيره، وفيه أيضًا: الإرشاد إلى أنَّ التعليم والتعلُّم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة. مرعاة المفاتيح (2/ 455-456).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
فيه: أنَّ الثواب المذكور إنَّما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة. نيل الأوطار (2/ 183).
وقال الشوكاني -رحمه الله- أيضًا:
فيه: تصريح بأنَّ الأجر المترتب على الدخول إنَّما يحصل لمن كان في مسجده -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة؛ لأنه قياس مع الفارق. نيل الأوطار (2/ 183).