«ما مِن مسلمٍ يُلَبِّي إلا لَبَّى مَن عن يمينهِ أو عنْ شِمالِهِ مِن حَجَرٍ أو شجَرٍ أو مَدَرٍ، حتَّى تَنْقَطِعَ الأرضُ مِن ها هنا وها هنا».
رواه الترمذي برقم: (828) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (2921)، والحاكم برقم: (1656)، وابن خزيمة برقم: (2634)، من حديث سهل بن سعد السَّاعديّ -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (5770)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1134).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«يُلَبِّي»:
أي: يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. المهيأ، للكماخي(2/ 268).
«أو مَدَرٍ»:
المدَرُ: جمع مَدَرة مثل قصب وقصبة، وهو التراب الْمُتَلَبِّدُ...، وبعضهم يقول: الطين العِلْكُ الذي لا يخالطه رَمل. والعرب تسمِّي القرية مدرة؛ لأن بنيانها غالبًا مِن المَدر وفلانٌ سيدُ مَدَرَتِهِ؛ أي قريتِهِ. المصباح المنير، للفيومي (2/ 566).
وقال الأزهري -رحمه الله-:
مَدر: قال الليث: المدر قِطَع الطين اليابس، الواحدة مَدرة، والمدر: تطيينك وجه الحوض بالطين الحُرِّ؛ لئلا ينشف، والممْدَرَةُ: موضِع فيه طين حُرٌّ، وقد مَدَرتُ الحوض أمْدُرُهُ. تهذيب اللغة (14/ 86).
«حتَّى تَنْقَطِعَ»:
أي: إلى حيث تنتهي الأرض شرقًا وغربًا. شرح المصابيح، لابن الملك(3/ 254).
شرح الحديث
قوله: «ما مِنْ مسلمٍ يُلَبِّي»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«ما مِن مُسلم» لفظ رواية الحاكم: «ما من مُلَبٍّ». فيض القدير (5/ 499).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قوله: «ما من مسلم يلبي» عام لم يخصص، والكافر خارجٌ منه بالمفهوم. الأزهار، مخطوط، لوح (248).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «ما من مُسلم يلبي» تلبية الإحرام. التنوير (9/ 509).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «ما من مُلَبٍّ يُلَبِّي» أيًّا كان. مرشد ذوي الحجا والحاجة (17/ 126).
قوله: «إلَّا لَبَّى مَن عن يمينهِ أو عنْ شماله مِن حجَرٍ أو شجَرٍ أو مَدَرٍ»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله» أي: الملبي. التيسير (2/ 368).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
قوله: «إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله» وقُدَّامِهِ وورائه، وجميع جهاته، و«ما» هنا موصولة. مرشد ذوي الحجا والحاجة (17/ 126).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «مَنْ» ها هنا بمعنى (ما)؛ لأنه يفسِّره بقوله: «من حجرٍ أو شجرٍ أو مدَرٍ»، وكلُّ ذلك ليس بعقلاءَ، فإذا لم تكن هذه الأشياء للعقلاء تكون «مَن» بمعنى (ما)؛ لأن (مَنْ) للعقلاء، و(ما) للجمادات وللحيوانات غيرِ العقلاء. المفاتيح (3/ 271).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وفي بعض النسخ: «ما عن يمينه» فلا إشكال. مرقاة المفاتيح (5/ 1761).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
قلتُ: كذا وقع في رواية الترمذي بلفظة «من»، وهكذا ذكر الجزري في جامع الأصول، وعزا الحديث للترمذي فقط، وعند ابن ماجه والحاكم والبيهقي: «إلا لبَّى ما عن يمينه».
والمدَرَ بفتحتين: قطع الطين اليابس. مرعاة المفاتيح (8/ 473).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: «إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر» عاضده لذكره وتلبيته؛ إكرامًا له. التنوير (9/ 509).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «إلا لبَّى ما عن يمينه...» إلخ، إنْ قلتَ: أيُّ فائدة للمسلم في تلبية الأحجار وغيرها مع تلبيته؟
قلتُ: اتباعهم في هذا الذكر دليل على فضيلته وشرفه ومكانته عند الله؛ إذ ليس اتباعهم في هذا الذِّكْر إلا لذلك، على أنَّه يجوز أنْ يُكتب له أجر هذه الأشياء؛ لما أنَّ هذه الأشياء صدر عنها الذِّكْر تبعًا، فصار المؤمن بالذِّكْر كأنَّه دالٌّ على الخير -والله أعلم-. كفاية الحاجة (2/ 216).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
لا يبعد أنْ يُكتب له ثواب ذلك، كأنَّه فعله بنفسه، زيادة عن ذكره الخاص؛ لأنَّه المتسبِّب فيه. مرعاة المفاتيح (8/ 473).
قوله: «حتَّى تنقطع الأرضُ مِن ها هنا وها هنا»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «تنقطع الأرضُ مِن ها هنا وها هنا» يعني: إلى منتهى الأرض من جانبِ الشرقِ، وإلى منتهى الأرض من جانب الغَرْب؛ يعني: يوافقُه في التلبية كلُّ رَطْبٍ ويابس في جميع الأرض. المفاتيح (3/ 271).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
أي: يوافقه في التلبية كُل شيء في الأرض كلها. الكاشف عن حقائق السنن (6/ 1956).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
(قوله): يوافقه في التلبية جميع ما في الأرض. ا. هـ، وفيه نظر لا يخفى. مرقاة المفاتيح (5/ 1761).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «من ها هنا» أي: شرقًا «وها هنا» أي: غربًا، إلى منتهى الأرض من جانب الشرق والغرب، مما يبلغ صوته.
وتخصيص الشرق والغرب لإفادة العموم، فلا ينافي القُدَّام والوراء. مرقاة المفاتيح (5/ 1761).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «مِن ها هنا، وها هنا» إشارة إلى المشرق والمغرب، والغاية محذوفة، أي: إلى منتهى الأرض. لمعات التنقيح (5/ 301).
وقال الشاه الدهلوي -رحمه الله-:
«ما مِن مُسلم يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر...» أقول: سِرُّهُ أنَّه من شعائر الله، وفيه: تنويه ذكر الله، وكل ما كان من هذا الباب فإنه يُستحب الجهر به، وجعله بحيث يكون على رؤوس الخامل والنبيه، وبحيث تصير الدار دار الإسلام، فإذا كان كذلك كتب في صحيفة عمله صورة تلبية تلك المواضع. حجة الله البالغة (2/ 96).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا حديث وإنْ لم يكن صحيح السند، فإنَّه ممكن يشهد له الحديث الصحيح في المؤذن.
وفيه: تفضيل لهذه الأُمَّة لحرمة نبيه، فإنَّ الله أعطاها تسبيح الجماد والحيوانات معها، كما كانت تُسبِّح مع داود -عليه السلام-، وخص داود بالمنزلة العليا أنَّه كان يسمعها ويدعوها، فتجيبه وتساعده. عارضة الأحوذي (4/37-38).
وقال البهوتي الحنبلي -رحمه الله-:
(و) يسن (الإكثار منها) أي: من التلبية؛ لخبر سهل بن سعد: «ما من مسلم يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا» رواه الترمذي بإسناد جيد وابن ماجه. كشاف القناع (2/ 419).
وقال ابن علان -رحمه الله-:
واستدل البيهقي للإكثار من التلبية بحديث سهل بن سعد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما لبَّى مُلَبٍّ إلا لبَّى الذي يليه من ها هنا وها هنا عن يمينه وشماله»، وفي رواية: «إلَّا لبَّى عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض». الفتوحات الربانية (4/ 358).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -حفظه الله-:
قال: «إذا لبَّى المسلم لبَّى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض» كله يلبِّي، هذا الجماد يحب ذكر الله -جلَّ جلالُهُ-؛ ولذلك ينبغي للمسلم أنْ يكثر من هذه التلبية، وأنْ يرفع بها الصوت -نسأل الله العظيم أن يحيي بنا هذه السُّنة، وأنْ يعيننا على تطبيقها-، ولا يستحي الإنسان، فالتاجر يصيح في تجارته بخمسة، بعشرة، بعشرين، ولا يحس أنَّ في ذلك غضاضة؛ بل يتشرَّف ويفتخر بذلك، فكيف بمن يتاجر تجارة الآخرة، فكيف بمن ينطق بكلمة لا أصدق منها، وهي كلمة التوحيد وما دل عليها؛ فلذلك لا ينبغي للإنسان أنْ يستحي أو يخجل من الناس، فإذا كنتَ بين قوم غافلين فارفع بها صوتك، واعتز بدينك وربك. التوحيد في الحج (ص: 22).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
وفيه فضل التلبية. التنوير (9/ 509).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في الحديث: دلالة ظاهرة على إدراك الجمادات والنباتات الأمور الواقعة في الكائنات، وعلمها بربها من توحيد الذات، وكمال الصفات، وأنَّ تلبيتها وتسبيحها بلسان القال، كما عليه جمهور أهل الحال، فإنَّ التأويل الذي يقبل التسبيح يأبى عنه التلبية بالتصريح، فيكون بلسان القال هو الصحيح. مرقاة المفاتيح (5/ 1761).