الأحد 23 رمضان 1446 هـ | 23-03-2025 م

A a

«كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادَ أنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بأَطْيَبِ ما يجدُ، ثم أرى الدُّهْنِ في رأسهِ ولحيَتِهِ بعدَ ذلك».


رواه مسلم برقم: (1190)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
وفي رواية للبخاري برقم: (5918)، ومسلم برقم: (1190)، قالت عائشة -رضي الله عنها-: «كأنِّي أنظرُ إلى وبِيصِ الطِّيبِ في مَفَارِقِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مُحْرِمٌ».


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«‌وَبِيصَ»:
أي: بريق. مصابيح الجامع، للدماميني(2/ 246).
وقال الجوهري -رحمه الله-:
البرقُ وغيره يَبِصُ وَبيصًا، أي: بَرَقَ ولمع. الصحاح(3/ 1060).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
«وبيص» بالموحدة المكسورة، وآخره صاد مُهملة هو البَريق. فتح الباري (3/ 398).

«مَفَارِقِ»:
جمْع مَفْرِق، وهو المكان الذي يفترق فيه الشَّعْر في وسط الرأس، قيل: ذَكَرَته بصيغة الجمع تعميمًا لجوانب الرأس التي يُفْرَق فيها الشَّعْر. فتح الباري، لابن حجر (3/ 398).


شرح الحديث


قولها: «كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادَ أنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ ما يجدُ»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«يتطيب» أي: يتعطر «بأطيب» أي: بأحسن «ما يجد» من أنواع الطيب. الكوكب الوهاج (13/ 310).
وقال المناوي -رحمه الله-:
أي: بأطيب مَا تيَسّر عِنْده من طيب الرِّجَال. التيسير (2/ 237).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
أجاز الطيب قبل الإحرام من الصحابة: سعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبو سعيد الخدري وابن الزبير وعائشة وأم حبيبة، ومن التابعين: عروة والقاسم بن محمد والشعبي والنخعي، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
واعتل الذين لم يجيزوا الطيب للإحرام، بأنْ قالوا: يحتمل أنْ يكون -عليه السلام- مخصوصًا بالطيب؛ لأنه أملك لإربه من سائر أمته، وأنَّ الطيب إنما مُنِعَ في الإحرام؛ لأنه داعية إلى الجماع. شرح صحيح البخاري (4/ 207).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
اعتذر بعض أصحابنا عن حديث عائشة هذا: بادعاء خصوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ولم يَرَ مالك على مَن تطيب حينئذٍ دمًا؛ لأنه أوقعه بعد تحلل...، وقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: «لَأَنْ أصبح مطليًّا بقطران أحبُّ إليَّ من أنْ أصبح محرمًا أنضخ طيبًا»، موافق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمتطيب المحرم: «اغسل عنك الطيب»، والتمسُّك به أولى من حديث عائشة؛ لأن الأول مقعد للقاعدة، وحديث عائشة قضية عينية، محتملة للخصوص، فالأول أولى. المفهم (3/ 275).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
قد اختلف الفقهاء هل هو ممنوع من استدامته (الطيب للمُحْرِم) كما هو ممنوع من ابتدائه أو يجوز له استدامته؟ على قولين:
فمذهب الجمهور: جواز استدامته اتباعًا لما ثبت بالسُّنة الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنَّه كان يتطيب قبل إحرامه، ثم يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه»، وفي لفظ: «وهو يلبي»، وفي لفظ: «بعد ثلاث»، وكل هذا يدفع التأويل الباطل الذي تأوله مَن قال: إنَّ ذلك كان قبل الإحرام فلما اغتسل ذهب أثره، وفي لفظ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يجد، ثم يُرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك»، ولله ما يصنع التقليد، ونصرة الآراء بأصحابه.
وقال آخرون منهم: إنَّ ذلك كان مختصًّا به، ويرد هذا أمران: أحدهما: أنَّ دعوى الاختصاص لا تُسمع إلا بدليل.
والثاني: ما رواه أبو داود عن عائشة: «كنَّا نخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسُّكِّ المطيَّب عند الإحرام، فإذا عَرِقَتْ إحدانا، سال على وجهها، فيراه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهانا». زاد المعاد (2/ 224).

قولها: «ثم أَرَى الدُّهْنِ في رأسِهِ ولحيَتِهِ بعدَ ذلك»:
قال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«في رأسه ولحيته بعد ذلك» أي: بعد ما تطيب وأحرم. الكوكب الوهاج (13/ 310).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«في رأسه ولحيته» هذا يدل أنَّ مواضع الطيب من الرجال مخالفة لمواضعه من النساء، وذلك أنَّ عائشة ذكرت أنها كانت تجد وبيص الطيب في رأس النبي -عليه السلام- ولحيته، فدل ذلك أنَّها إنما كانت تجعل الطيب في شعر رأسه ولحيته، لا من وجهه، كما تفعل النساء فيخططن وجوههن بالطيب يَتَزَيَّنَّ بذلك، وهذا لا يجوز للرجال بدليل هذا الحديث، وهو مباح للنساء؛ لأن جميع أنواع الزينة بالحلي والطيب ونحوه جائز لهنَّ ما لم يُغَيِّرْنَ شيئًا من خلقهن. شرح صحيح البخاري (9/ 162-163).

قولها: «كأنِّي أنظرُ إلى وَبِيصِ الطِّيبِ في مَفَارِقِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو مُحْرِمٌ»:
قال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «كأني أنظرُ» أرادت بذلك قوة تحققها لذلك، بحيث إنها لشدة استحضارها له، كأنها ناظرة إليه.
قوله: «وبيص» قد تقدم في الغسل قول الإسماعيلي: إنَّ الوبيص زيادة على البريق، وأنَّ المراد به: التلألؤ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط. قوله: «في مفارق» جمع: مفرق، وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع تعميمًا لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. فتح الباري (3/ 398).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«الوَبِيص» اللمعان، يقال: وَبَص البرق وغيره، أي: لَمَع، والفَرْق: مَعْلَم وسط الرأس، وهو الذي يفرق فيه الشعر...، والتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام مختلف فيه، وقد كان عمر أمير المؤمنين -رضي الله عنه- ينهى عن ذلك، وبه أخذ جمع من العلماء، ووجه ذلك ظاهر، وهو أنَّ المحرم إنما منع من التطيب حالة الإحرام؛ ليكون تفلًا مُتَنَكِّبًا في إحرامه عن الترفُّه والتّنعيم، وإذا وجد منه رائحة الطيب بعد الإحرام، خالف هديه المحرمين، وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يتشدد أيضًا في ذلك.
ويحتمل: أنْ يكون الذي رأته عائشة في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوبيص كان لتَدَهُّنِهِ بالدهن المطَيَّب قبل الإحرام. الميسر (2/ 590).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وأما قولها في الأحاديث الأخر: «كأني أنظر إلى ‌وبيص الطيب في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم» لا امتراء أنَّ جسم الطيب وريحَه يذهبه الغسل للإحرام، ويبقى أثر دهنه في الشعر، وقد بينته بقولها في الرواية الأخرى: «ثم أرى ‌وبيص ‌الدهن في رأسه ولحيته بعد ذلك»، وبقية أثر ‌الدهن وزينيَّة الطيب بعد ذهاب ريحه لا حكم لها، ولا على المحرم شيء إذا تدهن قبل إحرامه، وإنْ بقي الدهن عليه باتفاق، ما لم يكن مُطَيّبًا.
واختلفوا في استعمال الحاجِّ الدهن غير المطيب، فمنعه مالك، وأجازه الليث وابن حبيب، وقيل: قد يكون الطيب مما اختصَّ به -عليه السلام- للقائه الملائكة؛ ولأن الطيب إنما مُنعَهُ المحرمُ؛ لأنه من دواعي الجماع، والنبي -عليه السلام- بِخلاف غيرِه لِملكة إِرْبِهِ. إكمال المعلم (4/ 190).
وقال النووي -رحمه الله-:
قولها: ‌«كأني ‌أنظر ‌إلى ‌وبيص الطيب في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم»، المراد به: أثره لا جرمه، هذا كلام القاضي، ولا يُوافَق عليه، بل الصواب: ما قاله الجمهور: أنَّ الطيب مستحب للإحرام؛ لقولها: «طيبته لحرمه»، وهذا ظاهر في أنَّ الطيب للإحرام لا للنساء، ويعضده قولها: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب»، والتأويل الذي قاله القاضي غير مقبول؛ لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه. المنهاج (8/ 98).
وقال الطحاوي -رحمه الله-:
عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه: «أنَّ رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجعِرَّانَة، وعليه جُبَّة صوف، وهو مصفر لحيته ورأسه، فقال: يا رسول الله، إني قد أحرمت، وأنا كما ترى، فقال: انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة، وما كنتَ صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك»؛ فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا به التطيب عند الإحرام، وقالوا: بما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-...، وعن سعد بن إبراهيم عن أبيه، قال: «كنتُ مع عثمان -رضي الله عنه- بذي الحُليفة، فرأى رجلًا يريد أنْ يحرم، وقد دهن رأسه، فأمر به فغسل رأسه بالطين»، وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا بالتطيب عند الإحرام بأسًا، فقالوا: أما حديث يعلى فلا حجة فيه لمن خالفنا؛ وذلك أنَّ الطيب الذي كان على ذلك الرجل إنما كان صفرة، وهو خلوق، فذلك مكروه للرجل لا للإحرام، ولكن لأنه مكروه في نفسه في حال الإحلال، وفي حال الإحرام، وإنما أبيح من الطيب عند الإحرام ما هو حلال في حال الإحلال، وقد رُوي عن يعلى ما بيَّن أن ذلك الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل بغسله كان خلوقًا. شرح معاني الآثار (2/ 126).
قال ابن حجر -رحمه الله-:
واستُدِل به على استحباب التطيُّب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام، وأنه لا يضرُّ بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرُم ابتداؤه في الإحرام، وهو قول الجمهور.
وعن مالك: يحرُم، ولكن لا فدية. وفي روايةٍ عنه: تجب. وقال محمد بن الحسن: يُكره أن يتطيَّب قبل الإحرام بما يبقى عينُه بعده.
واحتج المالكية بأمور، منها: أنه -صلى الله عليه وسلم- اغتسل بعد أن تطيَّب، لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدِّمة في الغسل: «ثم طاف بنسائه، ثم أصبح مُحرِمًا»، فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر.
ويردُّه قوله في الرواية الماضية أيضًا: «ثم أصبح محرمًا ينضح طيبًا"، فهو ظاهرٌ في أن نضح الطيب، وهو ظهور رائحته، كان في حال إحرامه. ودعوى بعضهم أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: «طاف على نسائه ينضح طيبًا، ثم أصبح مُحرِمًا»، خلافُ الظاهر.
ويردُّه قوله في رواية الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عند مسلم: "كان إذا أراد أن يُحرِم، يتطيَّب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك»، وللنسائي وابن حبان: "رأيت الطيب في مَفرِقه بعد ثلاث وهو مُحرِم»...فتح الباري(3/٣٩٨).
وقال العيني -رحمه الله-:
فإنْ قلتَ: كان الوبيص بقايا الدهن المطيب، فزال، وبقي أثره من غير رائحة؟
قلتُ: قول عائشة: ينضح طيبًا، يردُّ هذا، فإنْ قلتَ: بقي أثره لا عينه؟ قلتُ: ليس في شيء من طرق حديث عائشة أنَّ عينه بَقِيَتْ، قاله ابن العربي.
قلتُ: قد روى أبو داود وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: كنا نُضَمِّخُ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أنْ نحرم، ثم نحرم فنعرق، فيسيل على وجوهنا، ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا ينهانا، وفي رواية: كنا نخرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فَنُضَمِّدُ جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجوهنا، فيراه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهانا، فهذا صريح في بقاء عين الطيب.
فإنْ قلتَ: هذا خاص بالنساء؟ قلتُ: لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن النساء والرجال سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين، فإنْ قلتَ: كان ذلك الطيب لا رائحة له، دل عليه رواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: «بطيب لا يشبه طيبكم»، قال بعض رواته: يعني: لا بقاء له، أخرجه النسائي.
قلتُ: يردُّ هذا ما رواه مسلم من رواية منصور بن زادان عن عبد الرحمن بن القاسم: «بطيب فيه مسك»، وفي رواية الطحاوي عن عائشة: «بالغالية الجيدة» كما ذكرناه، فهذا يدل على أنَّ معنى قولها: «بطيب لا يشبه طيبكم»: أطيب من طيبكم، لا كما فهمه بعض رواته.
ومنها: أنهم ادعوا أنَّ هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجبنا عن ذلك عن قريب، ومنها: ما قاله بعضهم: بأنَّ عمل أهل المدينة على خلافه، ورد بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسًا من أهل مكة منهم القاسم بن محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمروه به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يُدَّعى مع ذلك العمل على خلافه؟! عمدة القاري (9/ 158).
وقال ابن الهمام -رحمه الله-:
وللآخرين ما أخرج البخاري ومسلم عن يعلى بن أمية قال: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل مُتَضَمِّخٌ بطيب، وعليه جُبَّة، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تَضَمَّخَ بطيب؟ فقال له -عليه الصلاة والسلام-: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك»، وعن هذا قال بعضهم: إن حل الطيب كان خاصًّا به -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه فعله ومنع غيره.
ودُفِع بأنَّ قوله للرجل ذلك يحتمل كونه لحرمة التطيب، ويحتمل كونه لخصوص ذلك الطيب، بأنْ كان فيه خلوق، فلا يفيد منعه الخصوصية، فنظرنا فإذا في صحيح مسلم في الحديث المذكور «وهو مصفر لحيته ورأسه»، وقد نهى عن التزعفر؛ لما في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه-: «أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى عن التزعفر»، وفي لفظ لمسلم: «نهى أنْ يتزعفر الرجل»، وهو مقدم على ما في أبي داود: «أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران»، وإنْ كان ابن القطان صححه؛ لأن ما في الصحيحين أقوى خصوصًا، وهو مانع فيقدم على المبيح.
وحينئذٍ فالمنع من خصوص الطيب الذي به في قوله: «أما الطيب الذي بك» إذا ثبت أنه نهى عنه مطلقًا لا يقتضي المنع عن كل طيب. فتح القدير (2/ 431).
وقال عبيد الله المباركفوري -رحمه الله-:
فهذا الحديث: دليل صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام، وإنْ كان أثره باقيًا بعد الإحرام، بل ولو بقي عينه وريحه؛ لأن رؤيتها ‌وبيص الطيب في مفارقه -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم صريح في ذلك، قالوا: وقد وردت آثار بذلك تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أحرم وعلى رأسه مثل الرُّبِّ من الغالية، وقال مسلم بن صبيح: رأيتُ ابن الزبير وهو محرم وعلى رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال، واحتج الذين منعوا ذلك بحديث يعلى بن أمية التميمي الآتي في باب ما يجتنبه المحرم، فقد صرح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بغسل الطيب الذي تَضَمَّخَ به يعلى قبل الإحرام، وأمر بإنقائه، فهو دليل واضح على أنَّ مَن تَضَمَّخَ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام، بل يجب غسله وإنقاؤه ، وقد اعتضد حديث أبي يعلى هذا ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة، منهم عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص. مرعاة المفاتيح (8/ 430).
وقال الشوكاني -رحمه الله- بعد أن ساق أقوال العلماء:
والحقُّ أن المحرَّم من الطِّيب على المُحرِم هو ما تطيَّب به ابتداءً بعد إحرامه، لا ما فعله عند إرادة الإحرام وبقي أثرُه لونًا وريـحًا. ولا يصح أن يُقال: "لا يجوز استدامة الطِّيب قياسًا على عدم جواز استدامة اللباس"؛ لأن استدامة اللبس ليست بخلاف استدامة الطِّيب، فليست بطيب. سلمنا استواءهما، فهذا قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار.نيل الأوطار(4/٣٦١).
وقال الشوكاني -رحمه الله-:
واستُدِلَّ بالحديث على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، ولو بقيت رائحته عند الإحرام، وعلى أنه لا يضر بقاء رائحته ولونه، وإنَّما المحرم ابتداؤه بعد الإحرام. نيل الأوطار (4/ 359).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
يكره للإنسان أنْ يطيب ثياب ‌الإحرام، وهذا قبل عقد ‌الإحرام، وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم أن يطيب ثياب ‌الإحرام قبل عقد ‌الإحرام.
أما تطييب بدنه، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اغتسل للإحرام ‌طيب رأسه ولحيته، وهذا سنة...، والخلاصة: أنَّ ثياب ‌الإحرام لا تطيب، وأما بدن المحرم فإنه يتطيب في رأسه ولحيته، وهذا كله قبل عقد ‌الإحرام، أما بعد عقد ‌الإحرام، فلا يتطيب لا في بدنه ولا في ثيابه ولا يمس شيئًا فيه. مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (22/ 157).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث... فوائد:
الأولى: أنَّ التطيب للإحرام والإحلال سُنة؛ لمداومة الرسول -صلوات الله عليه- عليه.
والثانية: لأن لا كراهية ولا فدية في التطيُّب قبل الإحرام بطيب يبقى أثره بعد الإحرام، وهو مذهب أكثر علماء الصحابة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وكرهه مالك، وأوجب أبو حنيفة الفدية. تحفة الأبرار (2/ 127).
وقال العلقمي -رحمه الله-:
فيه: دلالة على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنْ يكون بأطيب الطيب، وأنَّه لا بأس باستدامته، ولا ببقاء وبيص المسك -هو بريقه ولمعانه- بعد الإحرام، وإنَّما يحرم ابتداؤه في الإحرام، وهذا مذهبنا، وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين، وجماهير المحدثين والفقهاء وغيرهم.
وقال آخرون: بمنعه، منهم الزهري ومالك ومحمد بن الحسن، وحُكي عن جماعة من الصحابة والتابعين. الكوكب المنير مخطوط لوح (477).


ابلاغ عن خطا