«نزلَ الحجرُ الأسودُ من الجنةِ، وهو أشدُّ بياضًا من اللَّبَنِ فسوَّدَتْه خطايا بني آدم».
رواه أحمد برقم: (2795)، والترمذي برقم: (877) واللفظ له، وابن خزيمة برقم: (2733).
ولفظ أحمد: «أشدُّ بياضًا من الثلجِ، حتى سوَّدته خطايا أهلِ الشركِ»، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (6756)، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم:(2618).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الحجرُ الأسودُ»:
هو الذي في ركن الكعبة، القريب من باب البيت، من جانب الشرق، ويقال له: الركن الأسود، وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع. الكواكب الدراري (8/ 116).
شرح الحديث
قوله: «نزلَ الحجرُ الأسودُ من الجنةِ»:
قال الكرماني -رحمه الله-:
«الحجر الأسود» هو الذي في ركن الكعبة القريب من باب البيت من جانب الشرق، ويُقال له: الركن الأسود، وارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع. الكواكب الدراري (8/ 116).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«نزل الحجر الأسود من الجنة» وفي بعض النُّسخ: «حجرُ الأسودِ» بالإضافة، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا يجوز حمله على ظاهره، ويجوز التأويل بأنه أراد به مشاركته لجواهر الجنة في الكرامة، كأنه نزل منها. شرح المصابيح (3/ 279).
وقال الأزرقي -رحمه الله-:
وذَرْعُ ما بين الحجر (الأسود) إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع، وذَرْع ما بين الركن والمقام ثمانية وعشرون ذراعًا. أخبار مكة (1/ 347).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الحجر الأسود» ويسمى الركن الأسود، وهو ركن الكعبة الذي في الباب من جانب الشرق... «من الجنة». فيض القدير (3/ 408).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
هذا لا يُؤمِن به إلا من كان سُنيًّا، والقدرية تُنكره من وجهين:
أحدهما: أنَّ الجنة لم تُخلق.
الثاني: أنَّ الخطايا لا تُسوِّد ولا تُبيِّض حقيقةً ولا توليدًا على أصلهم في التوليد، وقد أقمنا الأدلة الواضحة على خلق الجنة، وأنها مُعدَّة للمتقين، وأما خلق السواد في الأبيض، والبياض في الأسود فليس في قدرة الله بمُسْتَنْكَر. عارضة الأحوذي (4/86).
وقال ابن العربي -رحمه الله- أيضًا:
وعن السُّدِّيّ أنه قال: "أَهْبَطَ اللَّهُ آدمَ بالهندِ، وأنزلَ معه الحَجَرَ الأسودَ، وأنزل معه قَبْضَةً من ورَقِ الجنَّة، فنثرها آدمُ بالهند، فأنبتتْ شجرةَ الطِّيبِ، فأصلُ ما ترون من الطيب بالهند من ذلك الوَرَق"، وقال بعض علمائنا: إنَّما قبض تلك القبضة آدمُ أسفًا حين أُخْرِجَ منها، والأحاديث في هذا الباب كثيرة المساق، وأَمْثَلُها ما سردناه عليهم. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 402).
قوله: «وهو أشدُّ بياضًا من اللَّبَنِ» وفي لفظ: «من الثلج»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وهو أشد بياضًا من اللبن» جملة حالية. مرقاة المفاتيح (5/ 1789).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
«وهو أشد بياضًا من اللبن» يعني: أنه كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت. شرح المصابيح (3/ 280).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أشد بياضًا من الثلج» وهو أشد الأشياء بياضًا. التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 124).
قوله: «فسوَّدَتْه خطايا بني آدم» وفي لفظ: «حتى سوَّدته خطايا أهلِ الشركِ»:
قال ابن الملك -رحمه الله-:
«فسودته خطايا بني آدم» معناه: ذنوب الزائرين بيت الله، انتقلت منهم إلى الحجر، فصار أسود، كما جاء في الحديث: «إن مسح الحجر الأسود ينفي الذنوب»، وهذا شيء يقبله المؤمن بالإيمان تصديقًا؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-، وفيه تنبيه على أن الخطايا تؤثِّر في الجماد، فتَجْعَل المبيضَّ منه مسودًّا، فكيف بقلوبكم؟! شرح المصابيح (3/ 280).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«فسوَّدَته خطايا بني آدم» أي: صارت ذنوب بني آدم الذين يمسحون الحجر سببًا لسواده، والأظهر حمل الحديث على حقيقته؛ إذ لا مانع نقلًا...
وفي الحديث: «إذا أَذْنَبَ العبدُ نُكِتَتْ في قلبه نُكتةً سوداء، فإذا أذنبَ نُكِتَت فيه نُكتةً أخرى، وهكذا حتى يسودَّ قلبه جميعه، ويصير ممن قال فيهم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المطففين: 14»، والحاصل: أن الحجر بمنزلة المرآة البيضاء في غاية من الصفاء، ويتغير بملاقاة ما لا يناسبه من الأشياء حتى يسود لها جميع الأجزاء، وفي الجملة: الصحبة لها تأثير بإجماع العقلاء. مرقاة المفاتيح (5/ 1789- 1790).
وقال ابن العطار -رحمه الله-:
لأنهم يأتونه للزيارة متلوِّثِين بالخطايا، فيتَّقُون منها باستلامهم إياه، فيكسبه السواد، ويلبسهم النقاء من الذنوب، والله أعلم. العدة في شرح العمدة (2/ 1022).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قال بعض الشارحين: في تسويده وجهان:
أحدهما: التخويف؛ ليجتنبوا عن ارتكاب المعاصي، بأنها لما أثرت في الجماد الذي نزل من الجنة بياضًا بتسويده، فلأن تُؤثِّر في القلوب بالتسويد أولى.
والثاني: التكفير، قال ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: «إنَّ مَسْحَهُ كفارة للخطايا». الأزهار مخطوط لوح (252).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«حتى سوَّدَته خطايا بني آدم» ولا يلزم من تسويدها له أن تبيِّضه طاعات المؤمنين، فقد يكون فائدة بقائه مسودًّا أنه يأتي بسواده يوم القيامة شهيدًا عليهم. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 205).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«حتى سوَّدته خطايا أهل الشرك» حقيقة أو مجازًا؛ للمبالغة في التعظيم، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثِّر في الجماد، فتجعل الْمُبيَضَّ مسودًّا؛ ولأنه من حيث كونه مكفِّرًا للخطايا كأنه منها، ومن كثرة تحمله لأوزارنا كأنه ذو بياض فسوَّدته الذنوب...، وروى الجنيد في فضائل مكة بسند ضعيف عن ابن عباس: إنما غيره بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة. فيض القدير (3/ 408).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«فسوَّدته خطايا بني آدم» وإنما لم يبيِّضْهُ توحيد أهل الإيمان؛ لأنه طمس نوره لتستر زينته عن الظَّلَمة، فالسواد كالحجاب المانع من الرؤية، أو لأن اسوداده للاعتبار ليعرف أن الخطايا إذا أثرت في الحجر ففي القلوب أَولى، وقال بعضهم: إنما سوَّدته الخطايا دون غيره من أجزاء البيت؛ لأنه ألقم ما كتب فيه من العهد يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الأعراف: 172، وهو الفطرة التي فُطر الناس عليها من توحيده فكل مولود يولد على الفطرة وقلبه أبيض بسبب ذلك العهد، ثم يسود بالذنوب، فكذا الحجر الذي ألقم فيه العهد. فيض القدير (6/ 282).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«حتى سوَّدته خطايا أهل الشرك» فإذا علمتم أن الخطايا تُؤثر في الجماد فتجنَّبوها؛ مخافة أن تسودَّ قلوبكم. السراج المنير (3/ 104).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«حتى سوَّدته خطايا بني آدم» الواقعة على الأرض مِن كُفر وغيره من المعاصي، ويحتمل معاصي الوافدين عليه التي يكفِّرها الله تعالى، فإنها تكسوه لقربهم منه السواد، وسواده ليس عقوبة له، بل محق بركة للعباد أن الحجر الذي أُمِروا بإعظامه سوَّدُوه بذنوبهم، وإعلامًا لهم بأن المعاصي تؤثر في الجمادات التي لا ذنب لها فكيف بهم؟ ويحتمل أن الله -سبحانه- جعل له إدراكًا فهو يتأثَّم من عصيان العباد، واسودَّ من ذلك التأثُّم، أو لأن العباد لعصيانهم ليسوا أهلًا لأن يلقاهم بذلك النور السارّ للقلوب، أو لحكمة لا يعلمها إلا الله.
فائدة: في أمالي ابن دريد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أن آدم -عليه السلام- أُهبط ومعه الحجر الأسود، وكان أشد بياضًا من الثلج فوضعه على أبي قُبَيس، فكان يضيء من الليل كأنه القمر، فحيث بلغ ضوؤه كان من الحرم». التنوير شرح الجامع الصغير (8/ 124).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«فسودته خطايا بني آدم» ظاهره الحقيقة، وأن الخطايا قَلَبَتْ لونَه المبْيَضَّ مسودًّا؛ لشؤمها، وإنه إخبار بأن هذا أثرها في حَجَر لم يعمل خطيئة، فكيف قلوب العصاة؟! وأن مِن شؤم الذنوب سَلْب نوره وإضاءته، وطمس لون الجنة؛ لئلا ينتفع به أهل الدنيا، ويتلذذون بمشاهدة لون الجنة في دار الدنيا، فطمسه عقوبة لهم؛ لأنه وإنما لم تبيِّضْهُ حسناتهم؛ لأن السيئات أكثر وأغلب فكأن الحكم لها. التنوير شرح الجامع الصغير (10/ 501).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«فسوَّدته خطايا بني آدم» فقد ثبت تجسُّد الذنوب، وتسويده للحجر الأسود. البحر المحيط الثجاج (6/ 298).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
وهذا يحتمل أن يُراد منه ما دلّ عليه الظاهر، ويحتمل أن يؤوَّل على ما يستقيم عليه المعنى من باب الاتساع، ولسنا نرى -بحمد الله- خلاف الظواهر في السنن إلا إذا عارضه من السنن الثوابت ما يُحْوِجُ إلى التأويل، أو وجدنا اللفظ في كلامهم بين الأمر في المجاز والاستعارة، فسلكنا به ذلك المسلك؛ وإذ قد عرفنا من أصل الدِّين بالنصوص الثابتة أن الجنة وما احتوت عليه من الجواهر مُبَايِنَةٌ لما خَلَقَ في هذه الدار الفانية في حكم الزوال والفناء، وإحاطة الآفات بها، فإن ذلك خلق خلقًا محكمًا غير قابل لشيء من ذلك، وقد وجدنا الحجر أصابه الكسر حتى صار فِلَقًا؛ وذلك من أقوى أسباب الزوال لم نستبعد فيه مذهب التأويل؛ وذلك بأن نقول: جعل الجحر لما وضع فيه من الأنس والهيبة واليُمْن والكرامة كالشيء الذي نزل من الجنة، وأراد به مشاركته جواهر الجنة في بعض أوصافها، ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «العجوة (نوع من التمر) من الجنة»، وقد علمنا أنه أراد بذلك مشاركتها ثمار الجنة في بعض ما جعل فيها من الشفاء والبركة بدعائه -صلى الله عليه وسلم- بذلك فيها، ولم يُرِدْ ثمار الجنة نفسها، للاستحالة التي شاهدنا فيها، كاستحالة غيرها من الأطعمة، ولخلوها عن النعوت والصفات الواردة في ثمار الجنة، وتأويل قوله: «نزل من الجنة» أي: الصفات الموهوبة لها، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} الحديد: 25، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: 6، فحمل الإنزال على معنى القضاء والقسمة.
ومنهم مَن ذهب فيه إلى معنى الخلق، ومنهم مَن أقام إنزال الأسباب فيها مقام إنزالها نفسها. الميسر (2/ 604- 605).
وقال ابن قتيبة -رحمه الله-:
وأما قولهم (أي: أهل الكلام وأصحاب الرأي): إن كانت الخطايا سوَّدته، فقد يجب أن يَبْيَضَّ لما أسلم الناس.
فمَن الذي أوجب أن يَبْيَضَّ بإسلام الناس؟ ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك من غير أن يجب.
وبعد: فإنهم أصحاب قياس وفلسفة، فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ، والبياض ينصبغ ولا يصبغ؟ تأويل مختلف الحديث (ص:415).
وقال المظهري -رحمه الله-:
معنى هذا: أنه جاء في الحديث: أنَّ مسح الحجر الأسود ينقي الذنوب حتى انتقلت ذنوب الحُجَّاج من أبدانهم إلى الحجر الأسود، فصار أسود، وهذا شيء يقبله المؤمن بالإيمان؛ تصديقًا لقول النبي -عليه السلام-.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة:
إحداها: تخويف الأُمَّة، فإن الرَّجُل إذا عَلِمَ أن الذنب يُسوِّد الحجر يحترز من الذنب؛ كي لا يسوَدَّ بدنه بشؤم الذنب.
والثانية: تحريض الأُمَّة على التوبة؛ كي لا يجتمع الذنب عليهم فتسودّ أبدانهم.
والثالثة: ترغيبهم على مسح الحجر الأسود؛ لينالوا بركته، ولتنتقل ذنوبهم من أبدانهم إليه.
والرابعة: امتحان إيمانهم، فإن كان كامل الإيمان يَقبل هذا بلا تردد، وضعيف الإيمان يتردد فيه، والكافر يُنكره. المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 293- 294).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
لعل هذا الحديث جارٍ مجرى التمثيل والمبالغة في تعظيم شأن الحَجر الأسود، وتفظيع أمر الخطايا والذنوب.
والمعنى: أن الحجر لما له من الشرف والكرامة، وما فيه من اليُمْن والبركة يشارك جواهر الجنة، فكأنه نزل منها، وأن خطايا بني آدم تكاد تؤثِّر في الجماد، فتجعل المبيضَّ منها مسودًّا، فكيف بقلوبهم؟!
أو لأنه من حيث إنه مكفِّر للخطايا محَّاء للذنوب؛ لما روي عن ابن عمر: أنه كان يزاحم على الركنين، وقال: سمعتُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ مَسْحَهُما كفارة للخطايا» كأنه من الجنة، ومن كثرة تحمُّله أوزار بني آدم صار كأنه ذا بياض شديد، فسودته الخطايا.
هذا وإنَّ احتمال إرادة الظاهر غير مدفوع عقلًا ولا سمعًا، والله أعلم بالحقائق، والمطلع على ما في الضمائر. تحفة الأبرار (2/ 147).
وقال الصنعاني -رحمه الله- متعقبًا:
قلتُ: بل لا يروّج سِواه (الحمل على الحقيقة) ولا يترجح غيره، كيف وقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمرو: «أنَّ الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طَمَسَ الله تعالى نورهما، ولو لم يطْمِسْ نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب»، فإنه منادٍ على أنه نور حقيقي، ومن البعيد أن يكون نورًا غير حقيقي، فإنه صريح في أنه حقيقي، وفي أنَّ سبب الطمس إثم الذنوب. التنوير شرح الجامع الصغير (5/ 411-412).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله- معلقًا على القول بالتأويل:
هذا الذي قاله بعض الحنفية غير صحيح؛ فإن النصوص إذا صحت فالواجب حملها على ما يقتضيه ظاهرها، إلا إذا منع منه مانع، وهنا لا يوجد مانع منقول، ولا معقول من إرادة الحقيقة، فيتعين الحمل عليها. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (25/ 224).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
فإذا أثَّرَتْ الخطايا في الحجر، ففي جسد فاعلها أولى، فإما أن يُقدَّرَ «خرج من وجهه أثر كل خطيئة»، أي: السَّوادُ الذي أحدثته، وإما أن يقال: إنَّ الخطيئة نفسها تتعلق بالبدن، على أنها جسمٌ لا عَرضٌ، بناء على إثبات عالم المثال؛ ولهذا صحَّ عَرْضُ الأعراضِ على آدم -عليه السلام- ثم على الملائكة {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} البقرة: 31، وإلاَّ فكيف يُتصور عَرْضُ الأعراض لو لم يكن لها صورة تتشخص بها؟ وقد حققتُ ذلك في تأليف مستقل، وأشرت إليه في الحاشية التي علقتها على تفسير البيضاوي. قوت المغتذي على جامع الترمذي (1/ 32-33).
وقال محب الدين الطبري -رحمه الله-:
وقد اعترض بعض الملاحدة فقال: كيف يسوِّد الحجر خطايا أهل الشرك، ولا يبيِّضه توحيد أهل الإيمان؟
والجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس المتقدم آنفًا، أن الله -عز وجل- إنما طَمَسَ نوره ليستر زينته عن الظَّلَمة، قال: وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد، كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية، وإن رؤي جُرمه؛ إذ يجوز أن يطلق عليه أنه غير مرئي، كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية.
والثاني: أجاب به ابن حبيب فقال: لو شاء الله كان ذلك، وما علمتَ أيها المعترض أن الله تعالى أجرى العادة بأن السواد يَصبِغ ولا ينصبغ، والبياض ينصبغ ولا يَصبِغ.
والثالث -وهو منقاس-: أن يقال: بقاؤه أسود -والله أعلم- إنما كان للاعتبار؛ ليُعلم أن الخطايا إذا أثَّرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم. القرى لقاصد أم القرى (ص: 295).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
وفي هذا الحديث: التخويف؛ لأنه إذا كانت الخطايا تؤثر في الحجر، فما ظنك بتأثيرها في القلوب؟ وينبغي أن يتأمل كيف أبقاه الله تعالى على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه؛ ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار، وواعظًا لكل مَن وافاه من ذوي الأفكار؛ ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات. إرشاد الساري (3/ 161).