الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«أفضلُ الصَّدقةِ ما تركَ غِنًى، واليدُ العُليَا خيرٌ مِن اليدِ السُّفلى، وابْدَأْ بمنْ تَعُولُ»، تقولُ المرأةُ: إمَّا أنْ تُطْعِمَنِي وإمَّا أنْ تُطَلِّقَنِي، ويقولُ العبدُ: أَطْعِمْنِي واسْتَعْمِلْنِي، ويقولُ الابنُ: أَطْعِمْنِي، إلى مَنْ تَدَعُنِي؟
فقالُوا: يا أبا هريرةَ، سمعتَ هذا مِن رسولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ قال: «لا، هذا مِنْ كيسِ أبي هريرةَ».


رواه البخاري برقم: (‌5355)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. 


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«تَعُولُ»:
أي: بِمَنْ تَمُون، وتلزمك نفقته من عيالك، فإنْ فَضَل شيء فليكن للأجانب، يقال: عَالَ الرَّجُل عيالَه يَعُولُهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قُوْتٍ وكسوة، وغيرهما. النهاية، لابن الأثير (3/ 321).

«‌كِيس»:
الكِيسُ - بكسرِ الكافِ - الوعاءُ.. الكواكب الدراري، للكرماني (20/ 4).


شرح الحديث


قوله: «أفضل الصدقة ما ترك غنىً»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«‌أفضل ‌الصدقة» أي: أعظمها. فيض القدير (2/ 36).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أفضل ‌الصدقة» بالنظر إلى حال المتصدِّق، وصفة ذاته. التنوير (2/ 558).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «ما ترك غنىً» يتأوَّل على وجهين:
أحدهما: أنْ يترك غنىً ‌للمتصَدَّق عليه؛ بأنْ تُجْزَل له العطية.
والآخر: أنْ يَترك غنىً ‌للمتصَدِّق، وهو أظهرهما؛ ألا تراه يقول: «وابدأ بمن تعول» أي: لا تضيع عيالك، وتُفضل على غيرك؟. معالم السنن (2/ 78).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «ما ترك غنىً»...، واختلف في معناه، فقيل: أنْ يترك غنى للمتصَدَّقِ عليه، بأنْ يُجزل له العطيَّة، وقيل: أنْ يَترك غنى للمتصَدِّقِ، ورجَّحه بعضهم، واستدل بقوله -عليه السلام-: «وابدأ بمن تعول» أي: لا تضيِّع عيالك، وتفضل على غيرك، وقوله -عليه السلام-: «عن ظهر غنى» يؤيد الثاني أيضًا. شرح أبي داود (6/ 430).
وقال العيني -رحمه الله-:
قوله: «غنىً» يعني: ما لم يجحف بالمُعطي، أي: أنها سهل عليه، كما في قوله: «ما كان عن ظهر غنىً»، وقيل: معناه: ما ساق إلى المعطي غنىً، والأول أَوْجَه. عمدة القاري (21/ 14).
وقال النووي -رحمه الله-:
معناه: ‌أفضل ‌الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مُستغنيًا بما بقي معه، وتقديره: ‌أفضلُ ‌الصدقة ما أبقت بعدها غِنى يعتمده صاحبها، ويستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنَّما كانت هذه ‌أفضل ‌الصدقة بالنسبة إلى من تصدَّق بجميع مالِه؛ لأن مَن تصدَّق بالجميع يندم غالبًا، أو قد يندم إذا احتاج، ويودُّ أنه لم يتصدق، بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا؛ فإنه لا يندم عليها، بل يُسَرُّ بها، وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مُستحب لمن لا دَيْن عليه، ولا له عيال لا يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه. شرح صحيح مسلم (7/ 125).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«أفضل ‌الصدقة ما ترك غنىً» أي: بعد خروجه يكون المتصدِّق باقيًا بوصف الغنى، وهذا إذا لم يكن له قوة وصبر في مقام التوكُّل، ولا يفوته حق واجب؛ لما روى أبو داود: «أفضل ‌الصدقة جُهْدُ الْمُقِلّ»، وقصة الصدِّيق في تجرده عن كل ماله معروفة. الكوثر الجاري (9/ 70).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله : «أفضل الصدقة ما ترك غنىً» أي: ما يبقى لصاحبها عقِبها غنى اليد، أو غِنى القلب، ولعله المراد بقوله: «ما كان عن ظهر غنى» أي: ما يبقى عقِبه غنى، يكون كالظَّهْر لصاحبه يستند إليه، ويعتمد عليه، سواء كان غنى اليد، أو غنى القلب، والله تعالى أعلم. حاشية السندي على صحيح البخاري (3/ 109).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
والمختار: أنَّ معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدِّق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد. فتح الباري (3/ 296).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
فأما على ما أوَّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض، وبيانه: أنَّ الغنى يعني به في الحديث: حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية؛ كالأكل عند الجوع المشوِّش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدُّق، بل يحرم؛ وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك، أدَّى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقِّه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكأن صدقته هي الأفضل؛ لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدَّة المشقة، والله تعالى أعلم. المفهم (3/ 81).

قوله: «واليد العُليا خير من اليد السُّفلى»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «اليد العليا خير من ‌اليد ‌السفلى» فإنه يفسر على وجهين:
أحدهما: أن العليا المنفِقة، والسُّفلى السائلة.
والوجه الآخر: أن تكون العليا هي المتعَفِّفَة، رُوي ذلك عن ابن عمر. أعلام الحديث (2/ 801).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«واليد العليا» وهي المعطِيَة، «خير من اليد السفلى» وهي السائلة. إرشاد الساري (8/ 198).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
وفي قوله: «اليد العُليا خير من ‌اليد ‌السُّفلى» فضل المال والغِنى إذا أُنْفِقَ في طاعة الله. شرح صحيح البخاري (3/ 505).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «اليد العليا خير من ‌اليد ‌السُّفلى» ليس على عمومه، وقد استطْعَمَ موسى والخضر أهل قرية، وقال -عليه السلام- في لحم بريرة: «هو عليها صدقة، ولنا هدية». التوضيح(29/ 438).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومحصَّل ما في الآثار المتقدمة: أنَّ أعلى الأيدي ‌المنفِقة، ‌ثم ‌المتعفِّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة، والله أعلم. فتح الباري (3/ 298).

قوله: «وابدأ بمن تعول»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
«وابدأ بمن تعُول» وعُولُهُ لنفسه أَوكَد عليه من الصَّدقة. شرح صحيح البخاري (6/ 526).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
«‌وابدأ ‌بمن ‌تَعُول» إنما قال ذلك؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله، فإذا صح ذلك فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره؛ إذ كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وأهله وولده؛ إذ فرض عليه النفقة عليهم، وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شك أنَّ الفرض أولى بكل أحد من إيثار التطوع عليه. شرح صحيح البخاري (7/ 530).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
قوله: ‌«وابدأ ‌بمن ‌تعول» معناه: لا تتصدق حتى يكون عندك ما يغنيك، ويغني عيالك، ولا تتعمد إلى ما عندك فتعطيه، فتبقى أنت وهم عالة تتكفَّفون الناس. المسالك (7/ 600).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
«وابدأ بمن تعول» دليل على ما تقدم من تقديم حق النفس والأهل، وأن الصدقة إنما تكون بعد إحراز قوت نفس الإنسان، وقوت أهله؛ لأن حق نفسه وحقهم متعين عليه وفرض، والصدقة والمواساة مرغَّب فيها. إكمال المعلم (3/ 567).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وابدأ» في الإنفاق «بمن تعول» بمن تجب عليك نفقته، وفي حديث النسائي، عن أبي هريرة قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار، قال: «تصدق به على نفسك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدَّق به على زوجتك»، قال: عندي آخر، قال: «تصدق به على خادمك»، قال: عندي آخر، قال: «أنت أَبْصَرُ به». إرشاد الساري (8/ 198).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
واعلم أن الصدقة نافلة، وإغناء النفس والأهل واجب، فإذا أُغْنُوا حسنت الصدقة بعد ذلك، فهذا معنى قوله: «وابدأ بمن تعُول». كشف المشكل (3/ 520).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
قوله: «‌وابدأ ‌بمن ‌تعُول» يعني: أنه يبدأ بكفاية مَن تلزمه كفايته، ثم بعد ذلك يدفع لغيرهم؛ لأن القيام بكفاية العيال واجب، والصدقة على الغير مندوبٌّ إليها، ولا يدخل في ذلك ترفيهُ العيال الزائد على الكفاية؛ فإن الصدقة بما يرفّه به العيال أولى؛ لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشّرع. المفهم (3/ 80).
وقال النووي -رحمه الله-:
«وابدأ بمن تعُول» فيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها مُنحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم.
وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية. شرح صحيح مسلم (7/ 125، 126).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
قوله: «تَعُول» أي: بمن تجب عليك نفقته، وفيهم أيضًا ترتيب، وعالَ الرَّجُل عياله إذا مانَهم، أي: قام لهم بما يحتاجون إليه من القوت والكسوة، وغيرهما. الكواكب الدراري (7/ 196).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
قوله: «‌وابدأ ‌بمن ‌تعول» إذا كان لك عيال ولم يرضوا بفوات حقهم، ولم يصح لهم التوكل. لمعات التنقيح (4/ 379).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«‌وابدأ ‌بمن ‌تعول» فالإنسان يبدأ بمن يعول، يعني بمن يلزمه نفقته، فالإنفاق على الأهل أفضل من الصدقة على الفقراء؛ لأن الإنفاق على الأهل صدقة وصلة وكفاف وعفاف، فكان ذلك أولى، ابدأ بمن تعول، والإنفاق على نفسك أولى، ثم الإنفاق على غيرك. شرح رياض الصالحين (3/ 389).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله -عليه السلام-: «وابدأ بمن تعُول» ولم يذكر إلا الصدقة يدل أن نفقته على من يعول من أهل وولد محسوب له في الصدقة، وإنما أمرهم الله أن يبدؤوا بأهليهم ‌خشية ‌أن ‌يظنوا ‌أن ‌النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرَّفهم -عليه السلام- أنها لهم صدقة؛ حتى لا يخرجوها إلى غيرهم إلا بعد أن يقوتوهم. شرح صحيح البخاري (7/ 530).

قوله: «تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«تقول المرأة» لزوجها: «إما أن تُطعمني» وللنسائي: «إما أن تُنفق عليَّ، وإما أن تطلقني». إرشاد الساري (8/ 198).
وقال السيوطي -رحمه الله-:
«تقول المرأة» هو أول قول أبي هريرة. التوشيح (7/ 3359).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
واختلفوا في المعسر هل يفرَّق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟
فقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إذا أعسر بالنفقة فللزوجة الخيار بين أن تُقيم عليه، ولا يكون لها شيء في ذمته أصلًا، وبين أنْ تطلب الفراق فيفرِّق الحاكم بينهما، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذلك سُنة، وقالت طائفة: لا يفرّق بينهما ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، هذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، فوجب أن يُنظَر حتى يُوسِرَ، وبقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} إلى {يُغْنِهِمُ اللَّهُ} النور: 32، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفُرْقة، وهو مندوب معه إلى النكاح، واحتج عليهم أهل المقالة الأولى بقوله -عليه السلام- في حديث أبي هريرة: «إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني» وهذا نص قاطع في موضع الخلاف، وقالوا أيضًا: أما قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} النور: 32، لم يُرد الفقير الذي لا شيء معه أصلًا، وإنما المراد الفقير الذي حالته منحطَّة عن حالة الغني، بدليل أنه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوب إلى النكاح ولا مستحب له، وأما قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، فإنما ورد في المداينات التي تتعلق بالذمم، واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} البقرة: 231، وإذا لم ينفق عليها فهو مُضِرٌّ بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته، فإن قال الكوفيون: لو كان قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} البقرة: 231 نهيًا واجبًا لم يجز الإمساك وإن رضيَتْه، فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز إمساكهن إذا رضين بذلك، وأما الإعسار فلو أعسر بنفقة خادم، أو حيوان له فإن ذلك يزيل مُلْكَه عنه، ويُباع عليه، كذلك الزوجة، وأيضًا فإن العِنِّين يُجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدة يمكن الصبر على فقدها، ويقوم بدن المرأة بعدمها، والصبر عن القوت ليس كذلك، فصارت الفُرْقة أولى عند عدم النفقة. شرح صحيح البخاري (7/ 531- 533).
وقال الباجي -رحمه الله-:
مذهب مالك -رحمه الله- أن ‌الإعسار بالنفقة، والمؤنة يوجب الخيار للزوجة بين أن تطلق عليه وبين أن تقيم معه بلا نفقة، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يفرَّق بينه وبين امرأته بذلك، والدليل على ما نقوله: أن هذا نوع مِلْكٍ تُسْتَحق به النفقة، فكان للإعسار بها تأثير في إزالته كملك اليمين. المنتقى (4/ 131).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
واختُلف في المعسر: هل ‌يُفرَّق ‌بينه ‌وبين ‌امرأته بعدم النفقة؟
فقال أبو حنيفة: لا؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} الآية، البقرة: 280، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} النور: 32، فندب إلى نكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا للفُرقة.
قال الأئمة الثلاثة: تُخيَّر بين الصبر والفسخ؛ لقوله: «إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني»، ولقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} البقرة: 231، وإن لم ينفق عليها فهو مُضِرٌّ بها، وأما الآية الأولى ففي المداينات، والثانية لم يُرد الفقير الذي لا شيء معه؛ للإجماع على أن مثله ليس مندوبًا على النكاح. اللامع الصبيح (13/ 485، 486).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
واستَدَلَّ بقوله: ‌«إما ‌أن ‌تطعمني وإما أن تطلقني» من قال: يفرَّق بين الرَّجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة، واختارت فِراقه، وهو قول جمهور العلماء، وقال الكوفيون: يلزمها الصبر، وتتعلق النفقة بذمته. فتح الباري (9/ 501).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
«تقول المرأة: إما أن تطعمني أو تطلقني» استدل به الشافعي وأحمد ومالك على أنه المرأة تفسخ النكاح بإعسار الزوج على النفقة، وقال أبو حنيفة: لا يفرَّق بين الزوج والمرأة، ولكن تُؤمر بالاستدانة عليه (أي تشتري بالدَّين)؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280، وأورد عليه قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} البقرة: 231، وأما إذا رضيَت فلا ضرار، وبه يندفع أيضًا قوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} النور: 32؛ لأن ابتداء النكاح يستلزم الرضا. الكوثر الجاري (9/ 70).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
ولو أنَّ الزوج يمنعها النفقة أو الكسوة أو الصداق ظلمًا، أو لأنه فقير لا يقدر لم يجز لها منع نفسها منه من أجل ذلك؛ لأنه وإن ظلم فلا يجوز لها أن تمنعه حقًّا له قِبَلَها، إنما لها أن تنتصف من ماله -إن وجدته له- بمقدار حقها. المحلى بالآثار (9/ 254).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
واستَدل بقوله: «إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني» من قال: يُفرَّق بين الرجل وزوجته إذا أعسر بالنفقة، واختارت فِراقه، كما يفسخ بالجَبِّ (قطع الذَّكَر) والعُنَّة (العجز عن الوطء)، بل هذا أولى؛ لأن الصبر عن التمتع أسهل منه عن النفقة ونحوها؛ لأن البدن يبقى بلا وطء، ولا يبقى بلا قوت، وأيضًا منفعة الجماع مشتركة بينهما، فإذا ثبت في المشترك جواز الفسخ لعدمه ففي المختص بها أولى، وقياسًا على المرقوق (العبد الرقيق) فإنه يبيعه إذا أعسر بنفقته، ولا فسخ للزوجة بنفقة عن مدة ماضية إذا عجز عنها؛ لتنزُّلها منزلة دَين آخر يثبت في ذمته.
وقال الحنفية: إذا أعسر بالنفقة تُؤمر بالاستدانة عليه، ويلزمها الصبر وتتعلق النفقة بذمته؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280. إرشاد الساري (8/ 199).
وقال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
قوله: «إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني...» إلخ، دلّ على الحصر في الصورتين، فلا سبيل لها إلى التفريق بإعسار الزوج، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهل كان السلف إلا معسرين، فكيف يمكن أن يكون إعسار الزوج موجبًا للتفريق، ولا أعرف من السلف من كان ذهب إليه، إلا سعيد بن المسيب، وفيه توسيع عند مالك. فيض الباري (5/ 617).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
فإذا قال قائل: إذا أعسر الزوج بعد الغنى فهل للزوجة حق في المطالبة بالنفقة أو الفسخ؟
فالجواب على ذلك أن فيه قولين للعلماء:
الأول: أن لها الحق في طلب الفسخ؛ لأنه لم يقم بالواجب عليه.
والقول الثاني: أنه ليس لها الحق في ذلك؛ لأن هذا شيء بغير اختياره، وعموم قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الطلاق: 7 يدل على أن من لم يؤته شيئًا فإنه لا يكلفه. فتح ذي الجلال والإكرام (4/ 551).
وقال ابن القيم -رحمه الله-:
والظاهر أنه رُوي بالمعنى، وأراد قوله أبي هريرة -رضي الله عنه-: «امرأتك تقول: أطعمني أو طلقني»، وأما أن يكونَ عند أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّه عليه وسلَّم- أنه سُئل عن الرجل لا يجد ما يُنفِقُ على امرأتِه، فقال: يُفرق بينهما، فواللهِ ما قال هذا رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدَّث به، كيف وأبو هريرة لا يستجيزُ أن يَرويَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: «امرأتُك تقول: أطعمني وإلا طلقني» ويقول: هذا من كيس أبي هريرة؛ لئلا يتوهم نسبته إلى النبيِّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-؟.
والذي تقتضيه أصولُ الشريعة وقواعدها في هذه المسألة: أنَّ الرَّجل إذا غرَّ المرأة بأنه ذو مال، فتزوَّجته على ذلك، فظهر مُعْدمًا لا شيء له، أو كان ذا مالٍ، وترك الإِنفاق على امرأته، ولم تَقدرْ على أخذ كفايتها من ماله بنفسها، ولا بالحاكم أن لها الفَسخ، وإن تزوجته عالمةً بعُسرته، أو كان موسِرًا ثم أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه فلا فسخَ لها في ذلك، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار، ولم ترفعهم أزواجُهم إلى الحكام ليفرِّقوا بينهم وبينهن، وبالله التوفيق. زاد المعاد (5/ 521).

قوله: «ويقول العبد: أطعمني واستعملني»:
قال القسطلاني -رحمه الله-:
«ويقول العبد أطعمني» بهمزة قطع «واستعملني» وزاد الإسماعيلي: «وإلا فبِعْنِي». إرشاد الساري (8/ 198).
وقال البغوي -رحمه الله-:
يجب على المولى نفقة مملوكه وكسوته. التهذيب (6/ 401).
وقال المظهري -رحمه الله-:
يجب على السيد نفقة رقيقه خبزًا وإدامًا قدر ما يكفيه من غالب قوت مماليك ذلك البلد، وغالب الإدام والكسوة. المفاتيح (4/ 137).
وقال المناوي -رحمه الله-:
طعام المملوك وكسوته بقدر ما تندفع ضرورته مستحق له على سيده. فيض القدير (5/ 292).

قوله: «ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني؟»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله في حديث أبي هريرة: «يقول الابن: ‌أطعمني، ‌إلى ‌من ‌تدعني؟» يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف، ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه، والكسب لها. شرح صحيح البخاري (7/ 531).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟» في رواية النسائي والإسماعيلي: «تكلني» وهو بمعناه، واستُدل به على أن من كان من الأولاد له مال أو حرفة لا تجب نفقته على الأب؛ لأن الذي يقول: «إلى من تدعني؟» إنما هو من لا يرجع إلى شيء سوى نفقة الأب، ومن له حرفة أو مال لا يحتاج إلى قول ذلك. فتح الباري (9/ 501).
وقال أبو الليث السَّمرقندي -رحمه الله-:
وأجبر الوالد على ‌نفقة ‌الابن إذا كان زَمِنًا (‌الزَّمِن: من به ‌عِلة باقية مع الزمان قد أبطلت جوارحه أو بعضها). عيون المسائل(ص:87).
وقال ابن عبد السلام -رحمه الله-:
إذا أَعسر الابن البالغ بالنفقة؛ فإن عَجز عن الكَسب وجبت نفقته، وإن قدِر فقولان؛ فإن شرطنا العَجز عن الكسب لم يشترط العمى، وفي اشتراط المرض اللازم مع سلامة البنية وجهان. الغاية (6/ 231).
قوله: «فقالوا: يا أبا هريرة، سمعتَ هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة»:
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «‌من ‌كيس ‌أبي ‌هريرة» بكسر الكاف، رواه الكافة، أي: مما عنده من العلم المقتنى في قلبه، كما يُقتنى المال في الكيس، ورواه الأصيلي بفتحها، أي: من فقهه وفطنته، ومن عنده لا من روايته. مشارق الأنوار (1/ 350).
وقال الكرماني -رحمه الله-:
والكيس بكسر الكاف الوعاء، وهذا إنكار على السائلين عنه، يعني: ليس هذا إلا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففيه نفي يريد به الإثبات، وإثبات يريد به النفي على سبيل التعكيس، ويحتمل أن يكون لفظ هذا إشارة إلى الكلام الأخير إدراجًا من أبي هريرة، وهو: «تقول المرأة» إلى آخره، فيكون إثباتًا لا إنكارًا، يعني: هذا المقدار من كيسه، فهو حقيقة في النفي والإثبات، وفي بعضها بفتح الكاف، يعني: من عقل أبي هريرة، وكياسته. الكواكب الدراري (20/ 4 ، 5).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
قوله: «هذا ‌من ‌كيس ‌أبي ‌هريرة» أي: من قوله، يعني: «تقول المرأة» إلى آخره. التوضيح (26/ 15).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«‌من ‌كيس ‌أبي ‌هريرة» بكسر الكاف، يعني: أنه من كلام أبي هريرة نفسِه، لا مما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-. مصابيح الجامع (9/ 103).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«فقالوا: يا أبا هريرة سمعتَ هذا» يعني قوله: «تقول المرأة» إلى آخره «من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة» بكسر الكاف، أي: من كلامي أدرجته في آخر الحديث، لا مما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذٍ فهو موقوف استنبطه مما فهمه من الحديث المرفوع الواقع. إرشاد الساري (8/ 198).
قال الصنعاني -رحمه الله-:
قوله: ‌«من ‌كيس ‌أبي ‌هريرة» أي: مِن حِفظه، وعبَّر عنه بالكيس إشارة إلى ما في صحيح البخاري وغيره، من أنه بسط ثوبه أو نمرة كانت عليه فأملاه. سبل السلام (2/ 325).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
«اليد العليا خير من اليد السفلى» فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحضّ على معالي الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالي الأمور.
وفيه: حض على الصدقة أيضًا؛ لأن العليا يد المتصدِّق، والسفلى يد السائل، والمعطي مُفَضَّل على المعطَى، والمفَضَّل خير من المفضَّل عليه، ولم يرد -صلى الله عليه وسلم- أن المفضَّل في الدنيا خير في الدِّين، وإنما أراد في الإفضال والإعطاء. شرح صحيح البخاري (3/ 431).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
من الفقه: أن الاختيار للمرء أن يستبقي لنفسه قُوتًا، وألا ينخلع من مُلْكِه أجمع مرة واحدة؛ لما يُخاف عليه من فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده، فيندم فيذهب ماله، ويبطل أجره، ويصير كَلًّا على الناس. معالم السنن (2/ 77، 78).
وقال القنازعي -رحمه الله-:
«خيرٌ من ‌اليد ‌السفلى» ففي هذا بيان ألا يَسأل الإنسان أحدًا شيئًا، إلا عند الحاجة والضرورة؛ لأنه إذا كانت يده سفلى مع إباحة المسألة، فهو أحرى أن يمنع من ذلك عند غير الضرورة. تفسير الموطأ (2/ 781).
وقال ابن بطال -رحمه الله- أيضًا:
وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارًا فرض عليه؛ لقوله: «إلى من تدعني؟»، وكذلك نفقة العبد والخادم للمرء واجبة لازمة. شرح صحيح البخاري (7/ 530).
وقال الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -رحمه الله- أيضًا:
ما يفيده الحديث:
1. الترغيب في الإِنفاق والبذل من غير إسراف.
2. وجوب تقديم النفقة الواجبة على غيرها من النفقات.
3. وجوب نفقة الزوجة والأولاد والمماليك. فقه الإسلام شرح بلوغ المرام (8/ 108).

وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا


ابلاغ عن خطا