«أُمتي هذه أُمةٌ مَرحُومةٌ، ليس عليها عذابٌ في الآخِرةِ، عذابُهَا في الدُّنيا الفتنُ، والزَّلازِلُ، والقتلُ».
رواه أحمد برقم: (19678)، وأبو داود برقم: (4278) واللفظ له ، من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.
سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (959)، صحيح الجامع برقم: (1396)
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«أُمَّتِي»:
أي: أُمَّة الإجابة الموجودة ذهنًا، المعهودة معنىً، كأنَّها المذكورة حسًّا. مرقاة المفاتيح، للقاري (8/ 3372).
«الزَّلازِلُ»:
جمع زلزلة: وهي حركة الأرض بتحرك الموضع منها حتى ربما سقط البناء. التوضيح، لابن الملقن (8/ 284).
وقال العظيم أبادي -رحمه الله-:
الزلازل: أي: الشدائد والأهوال. عون المعبود (11/ 241).
شرح الحديث
قوله: «أُمَّتِي هذه أُمَّة مرحومة»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
«أُمَّتِي هذه أُمَّة مرحومة» خصص، بـ«هذه» التي هي اسم إشارة للموجودين من أُمَّته، وهم أهل قَرْنِه عموم أُمَّته -صلى الله عليه وسلم- التي تعم الموجودين والقرون الحادثة بعده، وفي هذا تشريف وتمييز، فضله لقرنه الذي هو فيهم أنهم لا عذاب عليهم في الآخرة. شرح سنن أبي داود (17/ 54).
وقال ابن رسلان -رحمه الله- أيضًا:
قوله: «أمَّة مرحومة» أي: جماعة مخصوصة بالرحمة الشاملة، فإنَّ الأمَّة تطلق على الجماعة، بل على الواحد المنفرد بدِين، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «قس بن ساعدة يبعثه الله يوم القيامة أمَّة وحده». شرح سنن أبي داود (17/ 55).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
«أُمَّتِي هذه» إشارة تعظيم إجماعًا. الأزهار مخطوط لوح (440).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«أُمَّتِي هذه» أي: أمَّة الإجابة الموجودة ذهنًا، المعهودة معنىً، كأنها المذكورة حسًّا «أمَّة مرحومة» أي: رحمة زائدة على سائر الأمم؛ لكون نبيهم رحمة للعالمين، بل مسمى بنبي الرحمة، وهم خير أمَّة. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
«أمَّة مرحومة» أي: في العقبى. شرح مسند أبي حنيفة (1/ 280).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أمَّتي هذه» أي: الموجودون الآن، وهم قَرْنُه أو أعم «أمَّة مرحومة» أي: مخصوصة بمزيد الرحمة، وإتمام النعمة. التيسير (1/ 237).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أمَّة مرحومة» من الله، أو من بعضهم لبعض. التيسير (1/ 237).
وقال السهارنفوري -رحمه الله-:
«أُمَّتِي هذه أمَّة مرحومة» أي: رحمة الله عليها غالبة على غضبه؛ ولهذا يَسَّرَ لها في الشرائع، وزاد في أجورها. بذل المجهود (12/ 319).
وقال العزيزي -رحمه الله-:
«أمَّة مرحومة» أي: مخصوصة بمزيد الرحمة، وإتمام النعمة، أو بتخفيف الإصر والأثقال التي كان على الأمم قبلها من قتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقرض موضع النجاسة. السراج المنير شرح الجامع الصغير (1/ 339).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قيل: المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أمَّتى هذه» المسلمين عمومًا، وهو إشارة جنس، وقيل: من لم يأتِ بالكبيرة منهم، وقيل: الصحابة، وهذا أقرب إلى اللفظ والمعنى؛ لورود الخبر بتعذيب بعض الأمَّة في الآخرة، ومن لم يأتِ كبيرة لم يحتج إلى التفتين والزلازل والقتل في الدنيا ليُرحم في الآخرة . الأزهار مخطوط لوح (440).
وقال الشيخ محمد الأمين الهرري -رحمه الله-:
«مرحومة» لشرف نبيها، لا ينزل بها عذاب الاستئصال، والإعدام بالكلية، ولو طغت غاية الطغيان؛ إكرامًا لنبيها. مرشد ذوي الحجا والحاجة (26/ 244).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
الحديث وارد في مدح أمَّته -صلى الله عليه وسلم-، واختصاصهم من بين سائر الأمم بعناية الله تعالى، ورحمته عليهم، وأنهم إن أصيبوا بمصيبة في الدنيا حتى الشوكة يشاكها أن الله يكفِّر بها في الآخرة ذنبًا من ذنوبه، وليست هذه الخاصية لسائر الأمم، ويؤيده ذكر هذه، وتعقيبها بقوله: «مرحومة»؛ فإنه يدل على مزيد تميُّزهم بعناية الله ورحمته، كما في قول الشاعر:
هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه *** من نسل شيبان بين الضال والسَّلم
(والضال والسَّلم شجرتان من شجر البادية).
والذهاب إلى المثل المفهوم مهجور في مثل هذا المقام، وهذه الرحمة هي المشار إليها بقوله تعالى: {ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الأعراف: 156، إلى قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الأعراف: 157، أراد موسى -عليه السلام- أن يخص هذه الرحمة بأمَّته، فأجابه تعالى بأنها مختصة بأمَّة النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم-، وإن شئت فجرت ذهنك في الآيات لتقف على سر ما ذكرت. الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3399).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- متعقبًا:
لا يخفى عليك أنَّ هذا كله مما لا يدفع الإشكال، فإنَّه لا شك عند أرباب الحال أنَّ رحمة هذه الأمَّة إنَّما هي على وجه الكمال، وإنَّما الكلام في أنَّ هذا الحديث بظاهره يدل على أنَّ أحدًا منهم لا يعذَّب في الآخرة، وقد تواترت الأحاديث في أنَّ جماعة هذه الأمَّة من أهل الكبائر يعذبون في النار، ثم يخرجون إما بالشفاعة، وإما بعفو الملك الغفار، وهذا منطوق الحديث، ومعناه المأخوذ من ألفاظه ومبناه، وليس بمفهومه المتعارف المختلف في اعتباره حتى يصح قوله: إن هذا المفهوم مهجور، بل المراد بمفهومه في كلام المظهر المعلوم في العبارة. مرقاة المفاتيح (8/ 3373).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله- أيضًا:
ورواه الحاكم في الكُنى عن أنس: «أُمَّتي أمَّة مرحومة مغفور لها مُتاب عليها»، أي يتوب الله عليها، ولا يتركها مصرَّة على الذنوب، ففيه دليل على أنَّ المراد به خواص هذه الأمَّة، والله تعالى أعلم. مرقاة المفاتيح (8/ 3373).
وقال عبد الحق الدهلوي -رحمه الله-:
«أُمَّتِي هذه أمَّة مرحومة» الحديث، قد وردت الأحاديث في تخصيص الأمَّة المحمدية بفضائل ومناقب ليست للأمم السالفة، منها اختصاصهم بالرحمة الخاصة المنجية من عذاب الآخرة، وتكفير المصائب والبلايا الواقعة عليهم في الدنيا ذنوبَهم، حتى قيل: إن عذاب القبر من خصائصهم؛ حتى يمحص الله ذنوبهم في البرزخ، ويذهب بهم في الآخرة طاهرين مطهرين لا غبار عليهم، وقد قيل: تخصيصهم ببشارة {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الزمر: 53، وقد ورد في شأن أمَّة نوح {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} نوح: 4، بـ{مِنْ} التبعيضية، ونجاتهم ووصولهم بشفاعة سيد المرسلين إلى أعلى الدرجات، وقد ادخر -صلى الله عليه وسلم- دعاءه لهم يوم القيامة الذي بشَّر بإجابته، وأما ورود الأحاديث بتعذيب مرتكبي الكبيرة فلا ينافيه؛ إذ هو في مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48، عمومًا وخصوصًا، وليس واقعًا حتمًا في الناس كلهم، وبالجملة هذه الأمَّة مخصوصة بمزيد عناية الله، ورحمته تقتضي نجاتهم، ويرجى العفو عنهم، والمغفرة لهم ما لا يرجى لغيرهم، والكل في مشيئة الله تعالى لا يجب عليه شيء، لكن وقوع الوعد مرجو، وهذا هو المراد من هذا الحديث، والأحاديث كثيرة في ذلك، والله أعلم. لمعات التنقيح (8/ 575).
قوله: «ليس عليها عذاب في الآخرة»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قوله: «ليس عليها عذاب في الآخرة» هذا الحديث مشكل؛ لأن مفهومه: ألا يُعَذَّب أحدٌ من أمَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيلزم ألا يُعذب من قَتَل من المسلمين أعدادًا كثيرة، وسرق أموالهم وآذاهم، وقذفهم، وفعل الكبائر كلها، ومعلوم أنَّ هذا لم يقل به أحد، وقد جاءت أحاديث بتعذيب الزاني والقاتل بغير الحق، والقاذف وغيرهم من أصحاب الكبائر.
وتأويل هذا الحديث: أن قوله: «أُمَّتِي هذه أمَّة مرحومة» أراد بهم: من اقتداه -صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي، ويحب الله ورسوله، فأما مَن فعل كبيرة فقد استحق العذاب، ثم أمره إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه. المفاتيح (5/ 340، 341).
وقال السندي -رحمه الله-:
قيل: هذا الحديث مشكِل؛ لأن مفهومه: أنْ لا يُعذَّب أحدٌ من أمَّته -صلوات الله وسلامه عليه- سواء فيه من ارتكب الكبائر وغيره، وقد ورد الأحاديث بتعذيب مرتكبي الكبائر، إلا أنه يراد بالأمَّة من اقتدى به -صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي، أجيب بأن الحديث مسوق في بيان تخصيص هذه الأمَّة المحمدية -صلوات الله وسلامه عليه- بفضائل ومناقب ليست للأمم السابقة، منها اختصاصهم بالرحمة المنجية من عذاب الآخرة، وتكفير المصائب والبلايا الواقعة عليهم ذنوبهم، ومثله قوله تعالى: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الزمر: 53، وقد ورد في شأن أمَّة نوح -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} نوح: 4، بـ(من) التبعيضية، نعم قد علم أنَّ المغفرة مقيدة بمشيئة الله، لكن المطلوب بيان أنَّ الغالب في حق هؤلاء هو المغفرة عمومًا بسبب ما وقع عليهم من المصائب بخلاف غيرهم من الأمم، والله تعالى أعلم. فتح الودود (4/ 222).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» لا في جهنم، ولا فيما قبلها، بل كُلهم رضي الله عنهم، وغفر لهم. شرح سنن أبي داود (17/ 55).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب» أي: شديد «في الآخرة»، بل غالب عذابهم أنهم مجزيُّون بأعمالهم في الدنيا بالمحن والأمراض وأنواع البلايا، كما حقق في قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} النساء: 123، على ما تقدَّم، والله تعالى أعلم. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» بمعنى: أن من عُذِّب منهم لا يحس بألم النار. التيسير (1/ 237).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«ليس عليها عذاب في الآخرة» بل يعجّل لها ما يكفر عنها الذنوب. التنوير (3/ 239).
وقال ابن الملك -رحمه الله-:
تأويله: أنَّ المراد: مَن اقتدى به -صلى الله عليه وسلم- كما ينبغي ويحبُّه قولًا وعملًا، أو يكون المراد: عذاب دائم؛ لأن مَن فعلَ كبيرةً فقد استحق العذابَ، ثم أمرُه إلى الله؛ إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه. شرح المصابيح (5/ 476).
قوله: «عذابها في الدنيا: الفتن والزلازل والقتل»:
قال المظهري -رحمه الله-:
«الزلازل» جمع زلزلة، وهي تحريك الأرض. المفاتيح (5/ 369).
وقال ابن الملقن -رحمه الله-:
«الزلازل» هو جمع زلزلة: وهي حركة الأرض بتحرك الموضع منها حتى ربما سقط البناء، وظهورها والآيات وعيد من الرب -جل جلاله- لأهل الأرض التوضيح (8/ 284).
وقال الأردبيلي -رحمه الله-:
قال أبو بكر النقاش المفسر: والمراد بالزلازل هنا: الخوف والشدة. الأزهار مخطوط لوح (440).
وقال ابن رسلان -رحمه الله-:
«عذابها في الدنيا» كثرة «الفتن» التي كانت في زمانهم، «والزلازل» فقد وقعت في زمن الصحابة، وصَلُّوا لها، قال البيهقي: صح عن ابن عباس عن عبد الله بن الحارث عنه: أنه صلى في زلزلة بالبصرة، فأطال. شرح سنن أبي داود (17/ 55).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
يؤيد قوله: «عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل» أي: بغير حق، وقيل: الحديث خاص بجماعة لم تأتِ كبيرة، ويمكن أنْ تكون الإشارة إلى جماعة خاصة من الأمَّة، وهم المشاهدون من الصحابة، أو المشيئة مقدرة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48. مرقاة المفاتيح (8/ 3372).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«عذابها في الدنيا الفتن» الحرب والهَرْجُ بينهم «والزلازل» مجاز عن الشدائد والأهوال، «والقتل» والبلايا؛ لأن شأن الأمم السابقة جارٍ على منهاج العدل، وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمم ماشٍ على منهج الفضل وجود الألوهية. التيسير (1/ 237).
وقال المناوي -رحمه الله- أيضًا:
«إنما عذابها في الدنيا الفتن» التي منها استيفاء الحدِّ ممن يفعل موجبه، وتعجيل العقوبة على الذنب في الدنيا، أي: الحروب والهرج فيهما بينهم، «والزلازل» جمع زلزلة، وأصلها: تحرُّك الأرض واضطرابها من احتباس البخار فيها؛ لغلظه أو لتكاثف وجه الأرض، ثم استُعملت في الشدائد والأهوال. فيض القدير (2/ 185).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«عذابها في الدنيا الفتن» فيما بينها، وإذاقة بعضها بأس بعض «والزلازل» التي تفزع أهلها «والقتل». التنوير (3/ 239).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
ومن رحمة الله بهذه الأمَّة المحمدية: أنْ يُعجِّل لهم العقوبة في الدنيا. فتح الباري (10/ 193).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
واعلم أن هذه الأحاديث وأمثالها في فضل الأمَّة هي للمجموع من حيث هو، فلا ينافيه خروج أفراد منه، وهذا مثل أحاديث: عصمتها عن الضلال، فإنه للمجموع، لا للأفراد، وبهذا تجتمع الأحاديث المخوِّفة والمبشِّرة. التنوير (3/ 240).