«أَيُّما صبيٍّ حجَّ، ثمَّ بَلَغَ الحِنْثَ عليه أن يَحُجَّ حجَّةً أخرى، وأيُّما أعرابيٍّ حجَّ، ثمَّ هاجر، فعليه أنْ يحُجَّ حجَّةً أخرى، وأيُّما عبدٍ حجَّ، ثم عَتَقَ، فعليه أن يحُجَّ حَجَّةً أخرى».
رواه الطبراني في الأوسط برقم: (2731) واللفظ له، والبيهقي في الكبرى برقم: (9849)، والضياء في المختارة برقم: (537)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
صحيح الجامع برقم: (2729)، إرواء الغليل برقم: (986).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«الحِنْثَ»:
الإثم والمعصية... «لم يبلغوا الحِنْث» أي: لم يبلغوا مبلغ الرجال، ويجري عليهم القلم، فيُكتب عليهم الحنث، وهو الإثم. النهاية، لابن الأثير (1/ 449).
«عَتَقَ»:
أي: صار حُرَّا.
يُقال: عَتَقَ العبدُ فهو عتيق، أي: حرَّرتُه فصار حُرًّا. النهاية، لابن الأثير (3/ 179).
قال الفيومي -رحمه الله-:
عَتَقَ العبدُ عَتْقًا من بابِ ضَرَبَ...، ويتعدَّى بالهمزةِ فيُقالُ: أَعْتَقْتُهُ فهو مُعْتَقٌ على قياسِ البابِ، ولا يتعدَّى بنفسِهِ فلا يُقال: عَتَقْتُهُ؛ ولهذا قال في البارع (للقالي): لا يُقالُ: عُتِقَ العبدُ، وهو ثلاثيٌّ مبنيٌّ للمفعولِ، ولا أَعْتَقَ هو بالألفِ مبنيًّا للفاعِلِ، بل الثُّلاثيُّ لازمٌ والرُّباعِيُّ مُتعدٍّ، ولا يجوزُ عبدٌ مَعْتُوقٌ؛ لأنَّ مجيءَ مفعولٍ مِن أَفَعَلْتُ شاذٌّ مسموعٌ لا يُقاسُ عليه، وهو عَتِيقٌ فَعِيلٌ، بمعنى مفعولٍ. المصباح المنير (2/ 392).
شرح الحديث
قال البيهقي -رحمه الله- بعد إيراد الحديث:
كذا رواه يزيد بن زريع عن شعبة مرفوعًا، ورواه غيره عن شعبة موقوفًا، والموقوف أصح، وقد رواه الثوري عن الأعمش موقوفًا، ورواه أبو السَّفَر (سعيد بن يُحمِد) أيضًا عن ابن عباس موقوفًا. السنن الصغير (2/ 140).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات، إلا أنه اختُلف في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف. بلوغ المرام من أدلة الأحكام (ص:207).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
هذا الحديث إن جُعل مرفوعًا صار حُجَّة؛ لأنه منسوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن جُعل موقوفًا فليس بحُجَّة؛ لأن هذا مما للرأي فيه مجال، ولا يثبت له حُكم الرفع، فيبقى رأيًا لابن عباس -رضي الله عنهما-، ورأي الصحابي اختلف العلماء فيه هل هو حجة أم لا؟ والصحيح أنه حجة لا سيما الصحابة المعروفون بالعلم والفقه، لكنه يكون حجة بشرطين:
ألَّا يخالف النص، وألا يعارضه قول صحابي آخر، فإن خالف النص فالمتبع النص، وإن عارضه قول صحابي آخر يُنظر في الراجح؛ وذلك لأن الصحابة -رضي الله عنهم- أقرب إلى الفهم والفقه في كتاب الله وسُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم عاصروا نزول النصوص، وعرفوا كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ومراده، ونحن نشاهد الآن أن أعلم الناس بقول العالم هم تلامذته، إذن فأعلم الناس بشريعة النبي -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة -رضي الله عنهم-. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 344- 345).
قوله: «أَيُّما صبيٍّ حجَّ ثمَّ بَلَغَ الحِنْثَ عليه أن يَحُجَّ حَجَّةً أخرى»:
قال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
«الحِنْث» بكسر الحاء المهملة، وسكون النون، ثم ثاء مثلَّثة، هو الإثم والذَّنْب، معناه: أنه بلغ أن يُكتب عليه إثم ذنبه؛ إذ بلغ حد التكليف، «أيما» أيُّ: اسم شرط، وهي هنا معرَّبة؛ لأنها مقطوعة عن الإضافة، و(ما) زائدة، والتقدير: أيُّ صبي... إلخ. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 29).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«أيُّما صبيٍّ» أو صبيَّة «حجَّ» حال صباه «ثم بلغ الحِنْث» بسنٍّ أو احتلام «فعليه أن يحجَّ حجة أخرى» يعني: يلزمه ذلك. فيض القدير (3/ 148).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«أيما صبيٍّ حجَّ» في حال صِبَاه، وهو قبل تكليفه «ثم بلغ الحِنْثَ» أي: السنَّ التي يحنثُ فيها، أي: يأثم بأفعاله؛ لكونه مكلَّفًا «فعليه أن يحج حجَّةً أخرى» هي الفريضة؛ لأن حجَّه الأول قد قُبل، وأُجر عليه؛ ولذا سماه حجًّا مرتين إلا أن الله تعالى ناطَ التكاليف ببلوغ سنِّ الحِنْث. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 443).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
وأجمعوا أنه (أي: الطفل) لا يُجزئه الحج إذا بَلَغ من الفريضة، إلا فِرْقَة شذَّت، فقالت: إنه يجزئه، ولم يلتفت العلماء إلى قولها.
ثم اختلفوا فيمَن أًحرم وهو صبي فبلغ قبل عَمَلِ شيء من الحج، فقال مالك: لا يرفض إحرامه، ويتم حجه، ولا يجزئه عن حجة الإسلام، قال: وإن استأنف الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام، وقال: يجزئه إن نوى بإحرامه الأول حجة الإسلام، وقال أبو حنيفة: يلزمه تجديد النية للإحرام، ورفض الأول؛ إذ لا يترك فرض النافلة، وقال الشافعي: تجزئه، ولا يحتاج إلى تجديد نية؛ ولذلك اختلفوا على هذا في العبد يُحْرِمُ ثم يعتق سواء، واختلف عن مالك في الرضيع ومَن لا يفقه، هل يحج به؟ وحمل أصحابنا أن قوله بالمنع إنما هو على الاستحباب لتركه والكراهة لفعله، لا على التحريم، فقال كثير من العلماء: إن الصبي يثاب على طاعته ويُكتب له حسناته دون سيئاته، ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب. إكمال المعلم (4/ 442).
وقال البغوي -رحمه الله-:
ولو حجَّ صبي ثم بلغ لا يكون حجه محسوبًا عن فرض الإسلام، وكذلك العبد إذا حج ثم عتق، فلو بلغ أو عتق بعد الإحرام قبل الوقوف بعرفة فوقف بعرفة بعد البلوغ والحرية يحسب عن فرض الإسلام، روي عن ابن عباس أنه قال: «أيُّما مملوك حج به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجه، وإن عتق قبل أن يموت فليحج، وأيُّما غلام حج به أهله فمات قبل أن يدرك فقد قضى حجَّه، وإن بلغ فليحجج». شرح السنة (7/ 24).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على صحة حج الصبي الذي لم يبلغ، ولكن لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا بلغ الحِنْث -وهو الوقت الذي يكلَّف فيه، ويكتب عليه إثم ذنبه- فعليه أن يؤدي فريضة الحج إذا كان مستطيعًا، وتقدم ذلك، لكن لو بلغ في أثناء الحج بالاحتلام -مثلًا- فإن كان قبل الإحرام، فلا خلاف بين العلماء في وقوع حجته هذه عن حجة الإسلام.
وإن كان بعد إحرامه، فإن كان قبل الوقوف بعرفة، أجزأت حجَّته تلك عن حجّة الإسلام على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحج عرفة».
وكذا لو بلغ ليلة مزدلفة، وأَمكنه الرجوع إلى عرفة، فوقف بها بالغًا، صحَّت فريضته على الراجح من أقوال أهل العلم.
وإن كان بلوغه بعد فوات وقت الوقوف، لم يجزئه عن الفريضة. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (5/ 180).
قوله: «وأيُّما أعرابيٍّ حَجَّ ثمَّ هاجرَ فعليه أن يحُجَّ حجَّةً أخرى»:
قال ابن الصلاح -رحمه الله-:
أطلق الأعرابي وأراد به الكافر؛ إذ كان الكفر هو الغالب حينئذٍ على الأعراب، وقد جاء إطلاق الأعراب والمراد الكفار منهم في غير هذا الحديث، والله أعلم. شرح مشكل الوسيط (3/ 422).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأيما أعرابي حج» كأن المراد قبل إسلامه «ثم هاجر» بعد الإسلام «فعليه أن يحجَّ حجة أخرى» هي حجة الإسلام. التنوير شرح الجامع الصغير (4/ 443).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وأيُّما أعرابي حج» قبل أن يسلم «ثم» أسلم و«هاجر» من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام «فعليه أن يحجَّ حجة أخرى» أي: يلزمه الحج بإسلامه في استطاعته، وإن لم يهاجر. فيض القدير (3/ 148).
قوله: «وأيُّما عبدٍ حَجَّ ثم عَتَقَ فعليه أن يحُجَّ حَجَّةً أخرى»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«وأيُّما عبد» أي: قِنٍّ (أي: خالص) أو أَمَةٍ «حج» حال رِقِّه «ثم أعتق» أي: أعتقه سيده «فعليه أن يحج حجةً أخرى» أي: يلزمه الحج بعد مصيره حرًّا. فيض القدير (3/ 148).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وأيُّما عبد حجَّ ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى» أفاد الحديث: أنَّه يُشترط لوقوع الحج عن فرض الإسلام البلوغ والحرية، فلا يجزئ عنه حج الطفل والرقيق. التنوير شرح الجامع الصغير» (4/ 443).
وقال ابن حزم -رحمه الله-:
أما حج العبد والأَمَة فإنَّ أبا حنيفة ومالكًا والشافعي قالوا: لا حج عليه، فإنْ حج لم يجزه ذلك من حجة الإسلام.
وقال أحمد بن حنبل: إذا عتق بعرفة أجزأته تلك الحجة؛ وقال بعض أصحابنا: عليه الحج كالحُرِّ، وقد ذكرنا آنفًا عن جابر وابن عمر قال أحدهما: «ما من مسلم» وقال الآخر: «ما من أحد من خلق الله إلا عليه عمرة وحجة» فقطعَا وعمَّا ولم يخُصَّا إنسيًّا من جني، ولا حرًّا من عبد، ولا حرة من أَمَةٍ، ومن ادعى عليهما تخصيص الحُرِّ والحُرَّة؛ فقد كذب عليهما؛ ولا أقل حياء ممن يجعل قول ابن عمر: «بني الإسلام على خمس» حُجَّة في إسقاط فرض العمرة -وهو حُجَّة في وجوب فرضها كما ذكرنا- ولا يجعل قوله: «ما من أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعُمرة» حُجَّة في وجوب الحج على العبد.
فإن قيل: لعلهما أرادا إلا العبد؟ قيل: هذا هو الكذب بعينه أنْ يُريدا إلا العبد ثم لا يبيِّنانه؛ وأيضًا: فلعلهما أرادا إلا الْمُقْعَد وإلا الأعمى، وإلا الأعور، وإلا بني تميم، وإلا أهل إفريقية، وهذا حق لا خفاء به؛ ولا يصح مع هذه الدعوى قولة لأحد أبدًا.
ولعل كل ما أخذوا به من قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ليس على عمومه؛ ولكنهم أرادوا تخصيصًا لم يبيِّنوه، وهذه طريق السوفسطائية نفسها؛ ولا يجوز أن يقول أحد ما لم يقل إلا ببيان وارد متيقَّن، ينبئ بأنه أراد غير مقتضى قوله (ثم ردَّ على هذا الحديث). المحلى بالآثار (5/ 13-14).
وقال المغربي -رحمه الله-:
والحديث فيه دلالة على أن حج الصغير لا يسقط عنه الواجب بعد بلوغه، وهو قول الأكثر، وقد تقدم حكاية الخلاف فيه، وكذا العبد بعد عتقه فإنه يجب عليه إعادة الحج، ويصح منه في حال الرِّقِّ، وإن لم يأذن له سيده، وقال داود: لا ينعقد من غير إذن. البدر التمام شرح بلوغ المرام (5/ 196).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
الحديث دليل على صحة حج الرقيق قبل عتقه، ولكن لا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام، فإذا عتق فعليه أن يؤدِّي فريضة الحج إذا كان مستطيعًا، والله تعالى أعلم. منحة العلام في شرح بلوغ المرام (5/ 180).
وقال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله-:
ما يُؤخَذ من الحديث:
1- فيه دليل على صحة حجة مَن لم يبلغ.
2- أن حجة الصغير لا تجزئه عن حجة الإسلام، فإذا بلغ فعليه أن يؤدي فريضة الحج بعد البلوغ إذا كان مستطيعًا.
3- قال الترمذي وابن عبد البر والوزير وغيرهم: أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ فعليه الحج إذا بلغ ووجد سبيلًا إليه، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عُمرته.
4- أن الصغير قبل البلوغ لا تُكتب عليه الآثام في أعماله العدوانية، ولا توجب عليه واجبات يوصف بأنه فرط فيها، إلا أن هذا لا يسقط وجوب تأديبه، وتربيته بالحكمة.
5- أن حجة الرقيق قبل عتقه صحيحة، له وللساعي في حجه أجرها، كما يكون ذلك للصغير.
6- أن حجة الرقيق قبل العتق لا تجزئه عن حجة الإسلام، بل عليه أن يحج أخرى إذا كان مستطيعًا؛ عملًا بهذا الحديث. توضيح الأحكام من بلوغ المرام (4/ 30).