الجمعة 28 رمضان 1446 هـ | 28-03-2025 م

A a

«كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلَ العَشْرُ شدَّ مِئْزَرَه، وأحيا ليلَه، وأيقظَ أهلَه».


رواه البخاري برقم: (2024) واللفظ له، ومسلم برقم: (1174)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.


شرح مختصر الحديث


.


غريب الحديث


«مِئْزَرَهُ»:
أي: إزَاره، والإزار: ما ائْتَزَرَ به الرَّجُل مِن أسْفَلِه. مشارق الأنوار، لعياض (1/ 29).


شرح الحديث


قولها: «كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العَشْرُ»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «إذا دخل العشرُ» أي: العشرَ الأواخر من رمضان. المفاتيح (3/ 55).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
فاللام (في العشر) للعهد، وفي رواية لابن أبي شيبة التصريح بالأخير. مرقاة المفاتيح (4/ 1441).
قال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر» كان: تفيد الدوام والاستمرار، وإن كان خبرها غير مضارع؛ لوجود قرائن تدل على ذلك. منحة العلام (5/ 127).
وقال النووي -رحمه الله-:
المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين: أنَّ لفظة (كان) لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعلٌ ماضٍ يدل على وقوعه مرة، فإنْ دلّ دليل على التكرار عُمِلَ به، وإلا فلا تقتضيه بوضعها. شرح صحيح مسلم (6/ 21).

قولها: «شدَّ مِئْزَرَه»:
قال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «‌شدَّ ‌مِئزره» شد الإزار: عبارة عن الجدِّ والمبالغة في الأمر، وهو عبارة أيضًا عن ترك المجامعة. المفاتيح(3/ 55).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
قولها: «شَدَّ ‌مِئْزره» معناه: هجران النساء، ويحتمل أنْ تكون قد أرادت أيضًا الجدِّ والانكماش في العبادة. أعلام الحديث (2/ 981).
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
في قوله: «‌شدَّ ‌مِئزره» تأويلان:
أحدهما: الكناية عن البُعد عن النساء.
والثاني: أنه كناية عن الشِّدة في العمل والعبادة. مشارق الأنوار(1/ 29).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قلتُ: وقد وقع في رواية عاصم بن ضمرة المذكورة: «‌شَدَّ ‌مِئزره، واعتزل النساء» فعطفه بالواو؛ فيتقوى الاحتمال الأول. فتح الباري (4/ 269).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«شدّ مئزره» المئزر الإزار، كقولهم: ‌مِلْحَفٌ ‌وَلِحَافٌ ، ولَمَّا كان من شأن مَن يأخذ في العمل بجدٍّ وعزيمة أن يشدّ مئزره استُعير ذلك للتشمير والانكماش في الطاعة، والدَّأَب في العمل، ويحتمل أنَّ المراد به اعتزال النساء وترك النكاح بدواعيه وأسبابه. الميسر (2/ 482).
وقال النووي -رحمه الله-:
اختلف العلماء في معنى: «شد المئزر»، فقيل: هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته -صلى الله عليه وسلم- في غيره، ومعناه: التشمير في العبادات، يقال: شددتُ لهذا الأمر مِئْزَرِي، أي: تشمَّرتُ له وتفرغتُ، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات. شرح صحيح مسلم(8/ 70/71).
وقال الطيبي -رحمه الله- معلقًا:
أقول: قد تقرَّر عند علماء البيان أن الكناية لا تُنافي إرادة الحقيقة، كما إذا قلتَ: فلان طويل النِّجَاد، وأردتَ طول نجاده مع طول قامته؛ لذلك -صلى الله عليه وسلم- لا يستبعد أن يكون قد ‌شدَّ ‌مئزره ظاهرًا، وتفرغ للعبادة، واشتغل بها عن غيرها، وإليه يرمز قول الشاعر:
دببتُ للمجد والساعون قد بلغوا *** جَهْدَ النفوس وأَلْقَوا دونه الأُزُرَا. الكاشف عن حقائق السنن (5/ 1624).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
وشَدَّ المِئْزر أي: امتنع عن النساء، وهذا أولى مِن قول مَن قال: إنه كناية عن الجد والاجتهاد؛ لأنه قد ذكر ذلك، فحَمْل هذا على فائدة مُستجدة أَوْلَى.
وقد ‌ذهب ‌بعض ‌أئمتنا: ‌إلى ‌أنه ‌عبارة ‌عن ‌الاعتكاف، وفيه بُعْدٌ؛ لقولها: «أيقَظَ أهله» وهذا يدل على أنه كان معهم في البيت، وهو كان في حال اعتكافه في المسجد، وما كان يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، على أنه يصح أن يوقظهن من موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد، والله أعلم.
فإن حَمَلناه على الاعتكاف فُهم منه أن المعتكف لا يجوز له أن يقرب النساء بمباشرة، ولا استمتاع فما فوقهما، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187، فإن وقع منه الجماع فسد اعتكافه ليلًا كان أو نهارًا بالإجماع.
ثم: هل عليه كفارة؟ فالجمهور: على أن لا، وذهب الحسن والزهري: إلى أن عليه ما على الْمُواقِع أهله في نهار رمضان، ورأى مجاهد أن يتصدق بدينارين، وأجرى مالك والشافعي في أحد قوليه الجماع فيما دون الفرج وجميع التلذذات من القُبْلة والمباشرة مجرى الجماع في الإفساد؛ لعموم قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} البقرة: 187، ورأى أبو حنيفة وأصحابه: إفساده بالإنزال كيفما كان. المفهم (3/ 249- 250).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«وشَدَّ المئزر» أي: تأهَّب تأهُّبًا كاملًا للعمل؛ لأن ‌شدَّ المئزر معناه: أن الإنسان يتأهَّب للعمل، ويتقوَّى عليه، وقيل: معنى ‌شَدّ المئزر: أنه يتجنب النساء -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه يتفرغ للعبادة، وكلاهما صحيح. شرح رياض الصالحين (5/ 276).

قولها: «وأَحْيَا لَيْلَهُ»:
قال العيني -رحمه الله-:
قوله: «وأَحْيَا ليله» يعني: باجتهاده في العَشر الآخر من رمضان؛ لاحتمال أن يكون الشهر إما تامًّا وإما ناقصًا، فإذا أحيا ليالي العشر كلها لم يَفُتْهُ منها شفع ولا وتر، وقيل: لأن العَشر آخر العمل، فينبغي أن يحرص على تجويد الخاتمة. عمدة القاري (11/ 139).
قال النووي -رحمه الله-:
قولها: «أحيا الليل» أي: استَغْرَقَه بالسهر في الصلاة وغيرها. المنهاج (8/ 71).
وقال الدماميني -رحمه الله-:
«وأحيا ليله» هو من باب الاستعارة، شبّه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام. مصابيح الجامع (4/ 421).
وقال البرماوي -رحمه الله-:
«وأحيا» أي: ترك النوم الذي هو أخو الموت، وأحيا نفسه بقيام الليل، أو أنه لما قام ليله جعله حيًّا بالطاعة، نحو: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الحديد: 17. اللامع الصبيح (6/ 491).
وقال الكوراني -رحمه الله-:
وإحياء الليل: القيام فيها بالطاعة، كأنَّ الطاعة روح لها، وقيل: أحيا نفسه بالطاعة، وهذا مع أنه غير مفهوم من اللفظ معنى ركيك بالنسبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الكوثر الجاري (4/ 340).
وقال القسطلاني -رحمه الله-:
«وأحيا ليله» استَغْرَقَه بالسهر في الصلاة وغيرها، أو أحيا مُعظمه؛ لقولها في الصحيح: «ما علمتُه قام ليلة حتى الصباح». إرشاد الساري (3/ 438).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وأحيا ليله» أي: غالِبَه بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن. مرقاة المفاتيح (4/ 1441).

قولها: «وأيقظَ أهلَه»:
قال ابن رسلان -رحمه الله-:
قوله: «وأيقظ أهله» للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، ويدل عليه حديث أبي ذر قبله: «فلما كانت الليلة الثالثة جمع أهله ونساءه» وذلك في ليلة سبع وعشرين خاصة، وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظهم في أكثر الأوتار التي يرتجى فيها ليلة القدر. شرح سنن أبي داود (6/ 630).
قال زكريا الأنصاري -رحمه الله-:
«وأيقظ أهله» أي: المعتكِفات معه في المسجد، واللاتي في بيوتهن إذا دخلها لحاجة، أي: يوقظهن للصلاة والعبادة. منحة الباري (4/ 456).
وقال المظهري -رحمه الله-:
قولها: «وأيقظ أهله» أي: أيقظ أهله للعبادة، وطلب ليلة القدر في العشر الأواخر. المفاتيح (3/ 55).
وقال النووي -رحمه الله-:
«وأيقظ أهله» أي: أيقظهم للصلاة في الليل، وجَدَّ في العبادة زيادة على العادة. شرح صحيح مسلم(8/ 71).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
قوله: «وأيقظ أهله» أي: للصلاة، وروى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يُطيق القيام إلا أَقامه». فتح الباري(4/ 269).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
ويفهم منه تأكيد القيام في هذا العشر على غيره. المفهم (3/ 249).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
إنما خصّ بذلك -صلى الله عليه وسلم- آخر رمضان لقُرب خروج وقت العبادة فيجتهد فيه؛ لأنه خاتمة العمل والأعمال بخواتيمها. سبل السلام (1/ 593).
وقال الشيخ عبد الله الفوزان -حفظه الله-:
قوله: «وأيقظ أهله» أي: زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-؛ ليُشاركنه اغتنام الخير والذِّكر والعبادة. منحة العلام (5/ 128).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
من الفقه: أنَّ للرجل أن يَحُضَّ أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها. شرح صحيح البخاري (4/ 159).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
إنما فعل ذلك -عليه السلام-؛ لأنه أُخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمَّته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله؛ لئلا تفوت؛ إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا، وأن يكون كاملًا، فمَن أحيا ليالِ العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن في ليالي السنة كلها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالي كلها في طلبها، فذلك يسير في جَنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرَفَق تعالى بعباده، وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة في عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور في العمل مَنًّا من الله ورحمة. شرح صحيح البخاري (4/ 159).
وقال النووي -رحمه الله-:
في هذا الحديث: أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات، وأما قول أصحابنا (الشافعية): يُكره قيام الليل كله، فمعناه: الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر. شرح صحيح مسلم(8/ 71).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
من فوائد الحديث: فضل العشر الأواخر من رمضان؛ وذلك لتخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بإحياء الليل.
ومن فوائده: مشروعية إحياء الليل كله في العشر الأواخر من رمضان، وهل يُقاس على ذلك بقية الليالي، بمعنى: أن نقول للإنسان: ينبغي أن تسهر الليل كله في القيام؟
لا، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك حين بلغه عن قوم قالوا كذا وكذا، ومما قالوا قول أحدهم: إني أقوم ولا أنام، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني».
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي استقبال هذه العشر والتهيؤ له في القوة؛ لقوله: «شَدَّ مئزره».
ومنها: جواز تخلُّف الإنسان عن أهله في مثل هذه المدة، وبه يتبين ضعف قول مَن يقول: إنه يلزمه أن يبيت عند امرأته ليلة من أربع، وينفرد في الباقي إن أراد؛ لأن هذا القول ليس عليه دليل، والإنسان يعاشر أهله بالمعروف، وليس من المعروف في غير مثل هذه الأوقات الفاضلة أن ينفرد إنسان عن زوجته ثلاث ليالٍ من أربع، بل المعروف أن يبيت معها كل ليلة، إلا إذا دعت حاجة أو مصلحة كقيام رمضان كما في هذا الحديث.
ومن فوائده: مشروعية إيقاظ الأهل في الليالي الفاضلة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوقظ أهله.
ومن فوائده أيضًا: أن إيقاظ الأهل لأمر ليس بواجب في الأيام الفاضلة من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يقال مثلًا: لماذا تحرمهم النوم فهذا ليس بواجب؟ يقال: إنه ليس بواجب، لكن هذه أوقات تُعتبر مواسم للخير، فلا ينبغي للإنسان أن يضيعها.
هل يؤخذ منه: جواز تصرف الإنسان في أهله؛ بمعنى: أنه يوقظهم وإن لم يأمروه بذلك؟ نقول: نعم، أما في الواجب فواجب عليه أن يوقظهم وإن لم يأمروه بذلك، بل لو قالوا: لا تُوقِظنا وجب عليه أن يوقظهم للواجب، بل يجب أن يوقظ للواجب حتى مَن هو ليس بأهله؛ ولهذا قال العلماء: يجب إعلام النائم بدخول وقت الصلاة إذا ضاق الوقت، أما غير الواجب فهذا للإنسان أن يوقظ أهله وإن لم يأمروه بذلك؛ لئلا تفوت هذه المصلحة العظيمة. فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 293- 294).


ابلاغ عن خطا