«الصَّومُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بها العبدُ مِن النَّارِ».
رواه الطبراني في الكبير برقم: (8386) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (1639)، والنسائي برقم: (2230)، من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-.
ورواه أحمد برقم: (14669)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم: (3292)، من حديث جابر -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3867)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (981).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جُنَّة»:
الجُنَّة: ما استَتَرْتَ به من سلاح أو غيره. الإفصاح، لابن هبيرة (6/ 88).
قال الكرماني -رحمه الله-:
جُنَّة: بضم الجيم، وهي التُّرس، ومعناه: أنه مانع من النار، أو من المعاصي؛ لأنه يكسر الشَّهوة، ويُضعف القوة. الكواكب الدراري (9/ 78).
«يستجنُّ»:
أي: يجتني ويستتر ويتقي. التنوير، للصنعاني (7/ 580).
يقال: اسْتَجَنَّ يَسْتَجِنُّ اسْتِجْنَانًا: استتر. المعجم المحيط (ص: 223).
شرح الحديث
قوله: «الصوم جُنَّة».
قال القاضي عياض -رحمه الله-:
قوله: «الصوم جُنَّة» قيل: من النار...، ساتر عنها مانع منها. مشارق الأنوار (1/ 156).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«الصيام» فرضه ونفله «جُنَّة» ترس حقيقة، بأنْ يجعل تعالى يوم القيامة المعاني أعيانًا. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 580).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
لفظ (الجُنَّة) دالٌّ على الاستتار، وأنَّه حقيقة في الأجسام، فهو إذًا مجاز في الصوم. شرح الإلمام (3/ 197).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله: «جُنَّة» فهي الوقاية والستر عن النار، وحسبك بهذا فضلًا للصائم. الاستذكار (3/373).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
ويتضح مراده (يعني: من كون الصيام جُنَّة) مما رواه ابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده: «أنَّ الميت إذا قُبِرَ في حفرته، تأتيه الصلاة عن يمينه، والصيام عن شماله، والقرآن من قبل رأسه، والصدقة من رجليه...» إلخ، بالمعنى، وحينئذٍ تبين أنَّ كونه جُنَّة ليس بمعنى المحافظ فقط...، بل بمعنى: أنه يكون وقاية له من العذاب، ويكون في شماله، كما أن الجُنَّة تكون فيها، فكأنه يتمثُلُ جُنَّة له. فيض الباري (3/ 324).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
ومَن قال: إنه جُنَّة من النار، فإنَّ آخر هذا الحديث (يعني حديث: «الصيام جُنَّة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل) ينقض هذا التأويل. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 236).
وقال الخطابي -رحمه الله-:
«جُنَّة» يحتمل: أن يكون أراد به جُنَّة من النار، ووقاية للصائم دونها. أعلام الحديث (2/939).
وقال القاضي عياض -رحمه الله-:
أو مانع من النار وساتر منها ...، ومنه: المِجَن للترس الذي يستتر به، ومنه: سميت الملائكة والشياطين جِنًّا لاستتارهم عن أعين الناس ورؤيتهم. إكمال المعلم (3/110).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات، والجُنَّة: الوقاية. النهاية (1/308).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«جُنَّة» مادة هذه اللفظة التي هي: الجيم والنون كيف ما دارت صورها بمعنى: السترة، كالجِن والجَنَّة والجُنُون والمِجَن، فمعناه: أن الصوم سترة، فيصح أن يكون (جُنَّة) بحسب مشروعيته، أي: ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده، ومما ينقص ثوابه، كمناقضات الصيام، ومعاصي اللسان. المفهم (3/214).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» وأصل الجُنَّة بالضم: التُرْس؛ شبه الصوم به لأنه يَحمي الصائم عن الآفات النفسانية في الدّنيا وعن العقاب في الأخرى. فيض القدير (4/ 242).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«الصيام جُنَّة» الجُنَّة: السترة، يقال: استجن بجُنَّة، أي: تستر بسترة، ويقال لما يُستَجَنُّ به في الحرب من درع وترس: جُنَّة، وذكر أنَّه جُنَّة لأن المسلم يتستر به من شكة الشيطان وشوكته، والجُنَّة إنَّما يكمل الانتفاع بها إذا كانت مُحْكَمة ومسرودة في غير اختلال، وكذلك الصيام إنَّما يحق التستر به على حسب العناية به من التحفظ والإتقان والتنزه عن الخطأ والخطل فيه، فإذا وُجِد فيه بعض الخلل نقص بحصته ثواب العمل. الميسر (2/ 459).
وقال الطيبي -رحمه الله-:
وإنَّما جُعل الصوم جُنَّة عن النار؛ لأنَّ في الجوع سد مجاري الشيطان، كما في الحديث: «إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ألا فضيقوا مجاريه بالجوع»، أو كما قال، فإذا سُدَّ مجاريه لم يدخل فيه، فلم يكن مُسبِّبًا للعصيان الذي هو سبب لدخول النار. الكاشف عن حقائق السنن (2/ 485).
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-:
فهذا من أعظم حِكَم الشارع من فوائد الصيام؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة:183، فكون الصوم جُنَّة، وسبب لحصول التقوى: هو مجموع الحِكَم التي فصلت في حِكمة الصيام وفوائده، فإنه يمنع من المحرمات أو يخففها، ويحث على كثير من الطاعات. بهجة قلوب الأبرار (ص: 95)
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
واعلم أن الصائم لما أجن الإيمان، أي: ستره في قلبه، كان صومه جُنَّة له، أي: سترًا من كل سوء في ظاهره. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 88).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «الصوم جُنَّة» هذا الكلام ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه كثيرة، وخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخرجه الإمام أحمد بزيادة، وهي: «الصيام جُنَّة وحصن حصين من النار».
وخرج من حديث عثمان بن أبي العاص، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «الصوم جُنَّة من النار، كجُنَّة أحدكم من القتال»، ومن حديث جابر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «قال ربنا -عز وجل-: الصيام جُنَّة يستجن بها العبد من النار»، وخرج أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «الصيام جُنَّة ما لم يخرقها»، وقوله: «ما لم يخرقها» يعني: بالكلام السيء ونحوه؛ ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ سابه فليقل: إني امرؤ صائم»، وقال بعض السلف: الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل.
وقال ابن المنكدر: الصائم إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع، وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصيام جُنَّة ما لم يخرقها، قيل: بم يخرقه؟ قال: بكذب أو غيبة».
فالجنة: هي ما يستجن بها العبد، كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب، فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا، كما قال -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183، فإذا كان له جُنَّة من المعاصي كان له في الآخرة جُنَّة من النار، وإن لم يكن له جُنَّة في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جُنَّة في الآخرة من النار.
وخرج ابن مردويه من حديث علي مرفوعًا، قال: «بعث الله يحيى بن زكريا إلى بني إسرائيل بخمس كلمات» فذكر الحديث بطوله، وفيه: «وإن الله يأمركم أن تصوموا، ومثل ذلك كمثل رجل مشى إلى عدوه، وقد أخذ للقتال جُنَّة، فلا يخاف من حيث ما أتي»، وخرجه من وجه آخر عن علي موقوفًا، وفيه قال: «والصيام مثله كمثل رجل استنصره الناسُ، فاستحدَّ في السلاح، حتى ظن أنه لن يصل إليه سلاح العدو، فكذلك الصيام جُنَّة». جامع العلوم والحكم (2/ 804).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: وإنما كان الصوم جُنَّة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، كما في الحديث الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات». طرح التثريب (4/ 91).
قوله: «يستجن بها العبد من النار»:
قال المناوي -رحمه الله-:
«يستجن بها العبد» الصائم «من النار» لردعه للشهوة التي هي أعظم أسلحة الشيطان. التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 106).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«يستجن» يجتني ويستتر ويتقي «بها العبد من النار» فلا تصيبه وإن جاورها ووردها. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 580).
وقال الصنعاني -رحمه الله- أيضًا:
«يستجن بها العبد من النار» أي: يطلب الستر بها منها، وفيه: أن النار كالطالب للعبد يحتاج إلى توقِّيه. التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 75).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
لما كان (الصوم) إمساكًا عن الشهوات، وقد حُفَّتِ النار بالشهوات، كان الإمساك عنها جُنَّة كما حُفت به. عارضة الأحوذي 3/232).
وقال ابن حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا:
فالحاصل: أنَّه إذا كَفَّ نفسه عن الشهوات في الدنيا، كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة. فتح الباري (4/ 104).
وقال السندي -رحمه الله-:
قوله: «جُنَّة» بضم الجيم، وتشديد النون، أي: وقاية وستر من النار، أو مما يُؤدي العبد إليها من الشهوات. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه (1/ 502).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
إذا حملناه على أنَّه جُنَّة من النار، ففيه وجهان:
أحدهما: أنْ يكون المراد به: يَمنع من دخول النار، ويُبعد عنها، وتَجَوَّز عن معنى المنع والإبعاد بالستر، ويقوِّي هذا الحديثُ الصحيح: «منْ صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ باعدَ اللهُ وجهَهُ عن النارِ سبعينَ خريفًا».
وثانيهما: أنْ يكون كونُه جُنَّة من النار من باب ذبح الموت في الآخرة، ومن باب: «تجيءُ البقرةُ وآلُ عمرانَ كأنَّهما غمامَتان، أو غيايَتان، أو فرقان من طير صواف»؛ فيكون المعنى: أنَّ اللهَ تعالى يُبرزُ للأبصار ساترًا بين صاحب الصوم والنار؛ إظهارًا للمعاني في الأمثلة الحسية. شرح الإلمام (3/ 198-199).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله- أيضًا:
إذا جعلناه من باب ذبح الموت، فيجوز أنْ يكونَ إطلاق لفظ (الجُنَّة) عليه حقيقة؛ بأن يكون اللفظ لما يبدو للحسِّ ساترًا بين الشيئين، ولا يدخل في الحقيقة خصوصُ الجسمية في الخارج؛ ولهذا إن من رأى ذلك الساتر، ولم يكن ممن يفهم هذا المعنى، أو ممن لم يثبته، أطلقَ عليه اللفظَ لا على جهة المجاز؛ لأنه لم يفهمه، فكيف يطلقه عليه ويريده؟!
وهذا يسوق إلى المسألة الأصولية، وهي: أن اللفظ موضوع للمعنى الذهني، أو الخارج؟ وهذا الوجهُ يكون هاهنا مجاز حذفٍ.
وإن جعلناه مجازًا عن المباعدة، وعدمِ دخول النار، فهذا من مجاز الملازمة؛ لأن الساتر بين الشيئين مانعٌ من المخالطة والملابسة فأطلقَ لفظ الستر على المنع من المخالطة والملابسة فهو من باب إطلاق الاسم الملازم على الملزوم؛ لأن المنعَ من المخالطة والملابسة لا يلزمُ منه الستر. شرح الإلمام (3/ 199-200).
وقال المناوي -رحمه الله- بعد ذكر أحاديث عن الصيام:
قال المحقق أبو زرعة: من هذا الخبر وما قبله وما بعده أخذ جمع: أن الصوم أفضل العبادات البدنية مطلقًا، لكن ذهب الشافعي إلى أن أفضلها الصلاة. فيض القدير (4/250).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وروى النسائي عن أبي أمامة قال: «أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: مرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له»، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الصوم أفضل العبادات البدنية، ولكن المشهور: تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» رواه أبو داود وغيره. طرح التثريب (4/ 92).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فإن قيل: فهل يكون (يعني: الصيام) أفضل من الصلاة بهذا المعنى؟
قلنا: إن العبادة على ضربين: متعدية، ولازمة، فالأفضل منها اللازمة؛ لأنه منها.
فإن قيل: والصلاة لازمة، فهل هي أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصلاة، وإنما يكون فضل الصوم بعدها. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 241).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي: أن ما قاله الجمهور أرجح؛ لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيّ: العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله...» الحديث، متفق عليه؛ ولحديث أحمد وابن ماجه والدارمي بإسناد صحيح: وفيه: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»؛ فتحمل خيرية الصوم المذكورة في حديث الباب على غير الأمور المذكورة في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، ونحوها -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/90).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)