«رَاصُّوا صُفُوفَكُم وقارِبُوا بينها، وحَاذُوا بالأعناقِ، فوَالذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، إنِّي لَأَرى الشياطينَ تَدْخُلُ مِن خَلَلِ الصفِ كأنَّها الحَذَفُ».
رواه أحمد برقم: (13735)، وأبو داود برقم: (667)، والنسائي برقم: (815)، وابن حبان برقم: (2166)، وابن خزيمة برقم: (1545).
وفي رواية عند أبي داود الطيالسي برقم: (2222): «إنِّي لأرى الشياطينَ بينَ صُفوفِكُم كأنَّها غَنَمٌ عُفْرٌ»، من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3505 - 1194)، وصحيح سنن أبي داود برقم: (667).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«رَاصُّوا»:
أي: تَلَاصَقُوا وضُمُّوا أكتافكم بعضها إلى بعض، حتى لا يكون بينكم فُرْجَة تَسَعُ واقفًا، أو يَلِجُ فيها مارٌّ. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 207).
قال الكسائي: التَّراصُّ أن يَلْصَقَ بعضُهم ببعضٍ حتى لا يكون بينهم خَلَلٌ. غريب الحديث، لأبي عبيد (3/ 205).
«حَاذُوا»:
أي: سَاوُوْا. شرح أبي داود، للعيني (3/ 217).
وأصل المحاذاة: المقابلة، ومنه: «حَاذُوْا بين المنَاكِبِ» أي: قابلوا بعضها ببعض. مطالع الأنوار على صحاح الآثار لابن قرقول (2/ 250).
«خَلَل»:
الخَلَل: الفُرْجَةُ التي تكون بين الشخصَين في الصف. المفاتيح في شرح المصابيح، للمظهري (2/ 227).
«الحَذَف»:
قيل: الحَذَفُ أولاد الغنم عامة؛ قال أبو عبيد: وتفسير الحديث بالغنم السُّود الجُرْدِ التي تكون باليَمَن أَحَبُّ التفسيرين إليّ؛ لأنها في الحديث، وقال ابْنُ الأثير: هي الْغَنَمُ الصِّغَارُ الحجازية، وقيل: هي صِغَارٌ جُرْدٌ ليس لها آذَانٌ، ولا أَذناب، يُجاء بها مِن جُرَشِ اليمن. لسان العرب، ابن منظور (9/ 40).
«غَنَمٌ عُفْرٌ»:
أي: بِيْضٌ غير ناصِعَة البياض. التيسير بشرح الجامع الصغير، المناوي (1/ 198).
والعُفْرَة: بياضٌ لَيْسَ بالنَّاصع، ولكنْ كَلَوْنِ عَفَر الْأَرْضِ، وَهُوَ وجْهُها... واحدتُها: عَفْرَاء. النهاية، لابن الأثير (3/ 261).
شرح الحديث
قوله: «رَاصُّوْا صفوفكم، وقاربوا بينها»:
قال الخطابي -رحمه الله-:
قوله: «رُصُّوا صفوفكم» معناه: ضُمُّوا بعضها إلى بعض، وقاربوا بينها، ومنه رَصُّ البناء، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} الصف: 4. معالم السنن (1/ 184).
وقال الباجي -رحمه الله-:
أمَرَ بتعديل الصفوف؛ لأن ذلك من سُنة الصلاة وإقامتها، وليس ذلك بشرط في صحة الصلاة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. المنتقى شرح الموطأ (1/ 190).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
«رُصُّوا صفوفكم» أي: صِلُوا صفوفكم بتَوَاصُلِ المناكب، وضَمِّ بعضِها إلى بعض، ولا تجْمَعُوا خلالها فُرَجًا تَسَعُ واقفًا، أو يَلِجُ فيها مارٌّ، فإن الشيطان يدخل من خلالها؛ لتشويش صلاتكم ويقطعها عليكم، و«قاربوا بينها» بحيث لا يَسَعُ بين كل صَفَّين صفًّا آخر، حتى لا يقدر الشيطان أن يمر بين أيديكم، ويصيرُ تَقَارُب أشباحكم سببًا لتَعَاضُد أرواحكم. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 338).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«وقَارِبُوا بينها» أي: بين الصفوف، بحيث لا يقع بين صفَّين صفٌّ آخر، فيصير تقارب أشباحكم سببًا لتعاضد أرواحكم، ولا يقدر الشيطان أن يمرَّ بين أيديكم، والظاهر: أنَّ محله حيث لا عذر، كحَرٍّ أو برد شديد. مرقاة المفاتيح (3/ 851-852).
وقال السندي -رحمه الله-:
«رَاصُّوا صفوفكم» بانضمام بَعْضكُم إِلَى بعض على السوَاء، «وقَارِبُوا بَينهَا» أَي: اجعلوا مَا بَين كل صفّين من الْفَصْل قَلِيلاً، بِحَيْثُ يقرب بعض الصُّفُوف إِلَى بعض. حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 92).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«رَاصُّوا صفوفكم» في نفسها؛ لئلا تقع فُرْجَةٌ بين رَجُلَيْنِ، «وقارِبُوا بينها» أي: بين الصفوف؛ بحيث لا يتسع صفَّين لصف بينهما. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 207).
وقال المغربي -رحمه الله-:
ورَصُّ الصف: مأخوذ من رَصِّ البناء، والمراد المبالغة في الازدحام حتى لا تبقى فُرْجَةٌ يدخل الشيطان منها...، والمقاربة بين الصفوف: هو ألا يَبْعُدَ الصف الثاني عن الصف الذي قبله.
والحكمة في الأمر بالمقاربة: ليشاهد كلُّ صف أفعال إِمَامِه من الانتقالات وغيرها؛ وليكونوا أقرب إلى الإمام ليسمعوا قراءته. البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 339).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «وقارِبُوا بينها» بأنْ يكون ما بين كل صفين ثلاثة أذرع تقريبًا، فإنْ بعُد صفٌّ عمّا قبله أكثر من ذلك كُرِه لهم، وفاتهم فضيلة الجماعة.
والظاهر: أنَّ محله حيث لا عذر؛ كحرٍّ، أو برد شديد، هذا في غير النساء، أما هن فيُسَنُّ لهن التأخير عن الرجال كثيرًا، وإذا بعُد الصف الأول عن الإمام بأكثر من ثلاثة أذرع كان للداخلين -من غير كراهة- أن يَصْطَفُّوا بينهم وبينه؛ لأنهم ضيعوا حقوقهم بالبُعْدِ منه. فتح الإله شرح المشكاة (4/375).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
«رَاصُّوا صفوفكم»، ولأبي داود: «رُصُّوا» بضم الراء ثلاثيًا، أي: ضُمُّوا بعضها إلى بعض، مثل ضَمِّ لَبِنَات الجدار، حتى لا يكون بينكم فُرَج، مِن رَصَّ البناء، مِن باب نَصَر: إذا ضُمَّ بعضه إلى بعض، كما تقدم، «وقارِبُوا بينها» أي: اجعلوا ما بين كل صفين من الفصل قليلًا بحيث يقرب بعض الصفوف إلى بعض، ولا يسع بين الصفين صف آخر.
قدَّر بعضُهم التقارب بين الصفوف بثلاثة أذرع، ولكن لم يَذكر مستنده، والله أعلم.
وإنما أَمَرَ -صلى الله عليه وسلم- بالتقارب بينها؛ ليكون تقارب الأشباح سببًا لتقارب الأرواح وتآلفها، فلا يقدِر الشيطانُ على أن يوسوس لهم. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/ 256).
قوله: «وحَاذُوا بالأعناق»:
قال البيضاوي -رحمه الله-:
«وحَاذُوا بالأعناق» فلا يرتفع بعضكم على بعض، بأن يقف مكانًا أرفع من مكانه، ولا عبرة بالأعناق أنفسها؛ إذ ليس للطويل أن ينخنس حتى يحاذي عنقُه عنقَ القصير الذي بجنبه. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 338).
وقال المظهري -رحمه الله-:
«حَاذُوا بالأعناق» أي: لِتَكُنْ أعناقُكم بعضُها محاذيةً لبعضٍ، ولا يتقدَّمْ بعضُها على بعضٍ. المفاتيح في شرح المصابيح (2/ 227).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
قوله: «وحَاذُوا بين الأعناق» ينبغي تفسيره بالمحاذاة للمناكِب التي سبق الأمر بها قولًا وفعلًا؛ إذ يلزم من المحاذاة بالأعناق بألا يتقدَّم أو لا يتأخر عُنُق أحدهم للمحاذاة بالمناكب، وأما تفسير البيضاوي لها بأن يستوي مكان الواقفين في صف، فلا يرتفع بعضهم على بعض، وليس المراد استواء أعناقهم نفسها، بأن يوطئ الطويلُ عُنُقَهُ ليساوي القصير، ففيه نظر؛ إذ لم أرَ لأحد من أصحابنا أنه نص على ندب ذلك.
فالظاهر: أنهم فهموا منه ما فَهِمته، وإلا لصرَّحوا بندب ذلك، على أنهم صرحوا بأن موضع الإمام والمأموم لو لم يكن متساويًا لم يُكْرَهْ، بأن الكراهة خاصة بارتفاع أحدهما في المستوى، وحينئذٍ فيؤخذ من ذلك: أن المراد من الأمر بالتحاذي على تفسيره مما ذكره البيضاوي: ألا يفعل أحدُهم تحت رجليه ما يرتفع على أهل صَفِّهِ، على ألا يقفوا في أرض غير مستوية. فتح الإله شرح المشكاة (4/375).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
وأما تفسير محاذاة الأعناق بالمحاذاة بالمناكب كما اختاره ابن حجر الهيتمي فمدفوع بأن هذا عُلِمَ من قوله: «رُصُّوا صفوفكم». مرقاة المفاتيح (3/ 852).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«وحَاذُوا بالأعناق» بأن يكون عنق كل منكم على سَمْتِ عنق الآخر، يقال: حَذَوْتُ النعل بالنعل إذا حاذيته به، وحِذاء الشيء إِزِاؤُهُ، يعني: لا يرتفع بعضكم على بعض، ولا عبرة بالأعناق أنفسها؛ إذ ليس على الطويل ولا له أن ينحني حتى يُحَاذِي عنقُه عنقَ القصير الذي بجنبه، ذكره القاضي البيضاوي. فيض القدير (4/ 5).
وقال السندي -رحمه الله-:
«وحَاذُوا بالأعناق» قيل: الظَّاهر أن الباء زائدة، والمعنى: اجعلوا بعض الأعناق في مُقابلة بعض. حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 92).
وقال الصنعاني -رحمه الله-:
«وحَاذُوا بالأعناق» بالذال المعجمة من المحاذاة المساواة، أي: يكون عُنُق كلٍّ منكم على سمت عُنُقِ الآخر. التنوير شرح الجامع الصغير (6/ 207).
قوله: «فوالذي نفس محمد بيده إني لأرى الشياطين تدخل من خَلَلِ الصف»:
قال ابن بطال -رحمه الله-:
أما قوله: «والذي نفسي بيده»، و «لا ومقلب القلوب» فهذه أيمان النبي -عليه الصلاة والسلام- فالسُّنة أن يحلف بهما وبما شابههما من أسماء الله وصفاته تعالى، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: «من كان حَالِفًا فليحلف بالله أو ليصمت». شرح صحيح البخاري (6/ 95).
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-:
نبَّهَهُم -صلى الله عليه وسلم- بهذا القَسَم الغليظ على تأكيد التَّراصّ والتقارب؛ لعظيم فائدتهما، وهي منع دخول الشيطان بينهم، المستلْزِم لتسليطه وإغوائه ووسوسته حتى يُفْسِد عليهم صلاتهم، أو خشوعهم الذي هو روح الصلاة، وعنوان كمالها. فتح الإله شرح المشكاة (4/375).
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك -حفظه الله-:
«والذي نفسي بيده» وهذا القسَم كثيرًا ما يُقْسِم به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعناه: والذي نفسي في ملْكِه يتصرف فيها بقدرته ومشيئته. هذا هو معنى الكلام مركبًا، فإذا أراد الحافظ أو غيره بقولهم: "المراد باليد هنا القدرة" المعنى المراد من جملة القَسَم كان صحيحًا، وإن أراد أنَّ يد الله المراد بها قُدْرَتُه؛ فهذا جارٍ على مذهب أهل التأويل مِن نُفَاةِ الصفات الذين ينفون عن الله -عز وجل- حقيقة اليدين، ويُؤَوِّلُون ما ورد في النصوص بالقدرة أو النعمة، وهو تأويل باطل مبني على باطل، وهو: اعتقاد نَفْيِ حقيقة اليدين عن الله -عز وجل-، وهذا التأويل صَرْفٌ للنصوص عن ظاهرها، كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ص: 75، فلو كان المراد باليدين القدرة لما كان بين آدم وإبليس فَرْقٌ؛ إذ الكل مخلوق بالقدرة، والحافظ -رحمه الله- جارٍ في صفة اليد لله تعالى على طريق النفاة. تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري (1/ 352).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
فذكَر هذا الحديثُ معنى أَمْرِه -عليه السلام- بالتَّرَاص في الصلاة. شرح صحيح البخاري (2/ 346).
وقال الشيخ محمد بن علي الإثيوبي -رحمه الله-:
«فوالذي نفسي بيده، إِني لأرى الشياطين تدخل من خَلَل الصف» بفتحتين: أي فرجته، أو كثرة تباعد بعضها عن بعض. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/ 256).
قوله: «كأنها الحَذْفُ»:
قال الزمخشري -رحمه الله-:
حَذْفٌ: كأنها سميت حَذْفًا لأنها مَحْذُوفَةٌ عن مقدار الكبار، ونظيره قولهم للقصير: حَطَائطُ، قيل: لأنه حُطَّ عن مقدار الطويل. الفائق في غريب الحديث (1/ 269).
وقال البيضاوي -رحمه الله-:
و«الحَذْفُ» بالحاء الغير المعجمة وفتح الذال المعجمة: غَنَمٌ سود صغار من غنم الحجاز، والواحدة: حَذَفَة، فإن الشيطان يَتَصَغَّر حتى يدخل في تضاعيف الصف. تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة (1/ 338).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«كأنها الحَذْفُ» بحاء مهملة وذال معجمة، وَوَهِمَ من قال: بمعجمتين. فيض القدير (4/ 5).
وقال المغربي رحمه الله-:
«كأنها الحَذْفُ» الضمير في «كأنها» راجع إلى (نفس) مضاف إلى الشيطان، أي: جَعَلَ نفسه شاة أو ماعزة، كأنها الحَذْفُ، أو أنَّثَ باعتبار الخبر. البدر التمام شرح بلوغ المرام (3/ 340).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي -رحمه الله-:
«كأنها الحَذْفُ» وهذا إخبار منه بما يَخْفَى على الناس، وتقدَّم أن هذه الفاء تفيد السببية، وجملة: «تَدْخُل مِن خَلَلِ الصف» من محل نصب على الحال؛ لأن رأى هنا بصرية.
وخلل الصف: هي الفُرَج التي تكون بين كل اثنين من المصلين، فتدخُلُ لتوسوس للإنسان وتشغله عن صلاته.
والحَذَف: بفتحتين غَنَمٌ صغار، قيل: إنها باليمن، وقيل: إنها تكون بالحجاز. شروق أنوار المنن الكبرى الإلهية بكشف أسرار السنن الصغرى النسائية (5/ 1677).
وقال الشيخ محمد بن علي الإثيوبي -رحمه الله-:
«كأنها الحَذْفُ» بحاء مهملة، وذال معجمة مفتوحتين: الغنم الصغار الحجازية، واحدها: حذَفَة بالتاء، كقَصَب وقَصَبة، وقيل: هي غنم صغار سُود جُرْدٌ، ليس لها آذان، ولا أذناب، يُجاء بها من اليمن.
وفي رواية للحاكم، وصححه على شرط الشيخين، عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تراصّوا في الصفّ، لا يتَخَلَّلُكم أولاد الحَذَف»، قال: قلتُ: يا رسول الله، وما أولاد الحَذَفِ؟ قال: «ضأن جُرْدٌ تكون بأرض اليمن» انتهى. المستدرك 1/ 217. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (10/ 256).
قوله: «كأنها غَنَمٌ عُفْرٌ»:
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وقوله: «كأنها غَنَمٌ عُفْرٌ» أي: تشبهها في الصورة بأنْ تشكَّلت كذلك، والشياطين لها قوة التَّشَكُّل، ويحتمل في الكثرة، والعفرة غالبة في أنواع غنم الحجاز. التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 198).
وللاستفادة من الروايات الأخرى ينظر (هنا) و (هنا) و (هنا)