«الصِّيامُ جُنَّةٌ، وحِصْنٌ حَصِينٌ مِن النَّارِ».
رواه أحمد برقم: (9225)، والبيهقي في شُعب الإيمان برقم: (3293)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
صحيح الجامع برقم: (3880)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (980).
شرح مختصر الحديث
.
غريب الحديث
«جُنَّة»:
الجُنَّة: ما استترتَ به من سلاح أو غيره. الإفصاح، لابن هبيرة (6/ 88).
قال الكرماني -رحمه الله-:
جُنَّة: بضم الجيم، وهي الترس، ومعناه: أنه مانع من النار، أو من المعاصي؛ لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة. الكواكب الدراري (9/ 78).
«حِصْنٌ»:
الحصن: المكان الذي لا يُقدَر عليه لارتفاعه، وجمعه: حصون، وحصُن بالضم حصانة فهو حصين، أي: منيع، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، فيقال: أحصنته وحصَّنته. المصباح المنير، للفيومي (1/ 139).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
الحِصن: واحد الحصون، وهي القصور والقلاع التي يتحصن فيها، وحصين: فعيل للمبالغة، أي: شديد المنع لمن فيه. المفهم (1/ 322).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-:
وسُمِّي الحصن حصنًا من الامتناع. كشف المشكل (3/ 104).
«حَصِينٌ»:
أي: منيع لا يُقدَرُ عليه. شمس العلوم، للحميري (3/ 1469).
شرح الحديث
قوله: «الصيام جُنَّة»:
قال الملا علي القاري -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» (في حديث معاذ) أي: ستر، وإنَّما جُعل الصوم جُنَّة من النار أو من الشيطان؛ لأن في الجوع سد مجاري الشيطان، فإذا سد مجاريه لم يدخل؛ فلم يكن سببًا للعصيان الذي هو سبب لدخول النار.
قيل: التقدير: صوم النفل، فاللام تدل على المضاف إليه، قال بعض المحققين من شراح الأربعين: ولعل قائله كوفي...، فإنَّ اللام ليس يدل على المضاف إليه، بل للتعريف العهدي. مرقاة المفاتيح(1/ 104).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-:
«الصوم جُنَّة» (في حديث معاذ) الصوم يريد به صوم النفل؛ لأنه قدَّم صيام رمضان، ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة». شرح الأربعين النووية (ص: 228).
وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس عند المتكلمين، واختار بعض الأفاضل أنَّ مثله استعارة، فمَن كان الصوم جُنَّته سدَّ طُرق الشياطين عن قلبه، فيكشف بعد إزالة ظلمتهم، يرى بنور الغيب خزائن لطائف حكم الصفات، فيستتر بأنوارها عن جميع المخالفات والآفات. مرقاة المفاتيح (1/ 105).
وقال ابن دقيق العيد -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» ليس فيه حصرُ الجُنَّة فيه، وإنَّما يقتضي: أنه جُنَّة فقط؛ أي: سبب الستر عن النار إذا سلم من الأمور المنهي عنها، وقد يكون غيره سببًا أيضًا وجُنَّة؛ «فمَن استطاعَ منكُمْ أنْ يتقيَ النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ فليفعلْ»، و{الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود: 114، ووصفُ أشياءَ كثيرة بالتسبب إلى النجاة، أو غيرها من ثواب الآخرة- يقتضي مصالحَ، منها: الحرصُ على جميعها، فإنَّه قد يقع الشكُّ في قَبول بعضها، أو صحته، فإذا كثُرت كان الرجاءُ في تحصيل فائدتها أكثرَ. شرح الإلمام (3/ 207).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
فإذا كان (الصوم) له جُنَّةٌ من المعاصي، كان له في الآخرة جُنَّةٌ من النار، وإنْ لم يكن له جُنَّةٌ في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جُنَّةٌ في الآخرة من النار. جامع العلوم والحكم (2/ 804).
وقال ابن بطال -رحمه الله-:
قوله: «الصيام جُنَّة» أي: ستر من النار، ومنه قيل للترس: مِجَنٌّ؛ لأن صاحبه يستتر به. شرح صحيح البخاري (4/ 8).
وقال النووي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصيام جنة» هو بضم الجيم، ومعناه: سترة ومانع من الرفث والآثام، ومانع أيضًا من النار، ومنه: المِجَن وهو التُّرس، ومنه: الجِن لاستتارهم. شرح صحيح مسلم (8/31).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وقال والدي -رحمه الله- في شرح الترمذي: وإنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، كما في الحديث الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات». طرح التثريب (4/ 91).
وقال الزبيدي -رحمه الله- مُتعقِّبًا:
وفي هذا الكلام تلازم الأمرين، وأنه إذا كفَّ نفسه عن الشهوات والآثام في الدنيا كان ذلك سترًا له من النار غدًا. إتحاف السادة المتقين (4/ 247).
وقال الكشميري -رحمه الله-:
ويتضح مراده (يعني: كون الصيام جنة) مما رواه ابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده: «أن الميت إذا قبر في حفرته، تأتيه الصلاة عن يمينه، والصيام عن شماله، والقرآن من قبل رأسه، والصدقة من رجليه...» إلخ، بالمعنى، وحينئذٍ تبين أن كونه جُنَّة ليس بمعنى المحافظ فقط...، بل بمعنى: أنه يكون وقاية له من العذاب، ويكون في شماله، كما أن الجنة تكون فيها، فكأنه يتمثل جُنَّة له. فيض الباري (3/ 324).
وقال ابن الأثير -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات، والجُنَّة: الوقاية. النهاية (1/308).
وقال ولي الله الدهلوي -رحمه الله-:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصيام جُنَّة» أقول: ذلك لأنه يقي شر الشيطان والنفس، ويباعد الإنسان من تأثيرهما، ويخالفه عليهما؛ فلذلك كان من حقه تكميل معنى الجُنَّة بتنزيه لسانه عن الأقوال والأفعال الشهوية. حجة الله البالغة (2/ 79).
وقال التوربشتي -رحمه الله-:
«والصيام جُنَّة» الجُنَّة: السترة...، وذكر أنَّه جُنَّة؛ لأن المسلم يتستر به من شكة الشيطان وشوكته، والجُنَّة إنَّما يكمُل الانتفاع بها إذا كانت محكمة ومسرودة في غير اختلال، وكذلك الصيام إنَّما يحق التستر به على حسب العناية به من التحفظ والإتقان والتنزُّه عن الخطأ والْخَطَل فيه، فإذا وجد فيه بعض الخلل نقص بحصته ثواب العمل. الميسر (2/ 459).
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-:
«جُنَّة» مادة هذه اللفظة التي هي: الجيم والنون كيف ما دارت صورها بمعنى: السترة، كالجِن والجَنَّة والجُنُون والمِجَن، فمعناه: أن الصوم سترة، فيصح أن يكون (جُنَّة) بحسب مشروعيته، أي: ينبغي للصائم أن يعريه مما يفسده، ومما ينقص ثوابه، كمناقضات الصيام، ومعاصي اللسان وإلى هذه الأمور وقعت الإشارة بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب» إلخ، ويصح أن يسمى: «جُنَّة» بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس. المفهم (3/214).
وقال المناوي -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» وأصل الجُنَّة بالضم: التُرْس؛ شبه الصوم به لأنه يحمي الصائم عن الآفات النفسانية في الدنيا، وعن العقاب في الأخرى. فيض القدير (4/ 242).
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله-:
وقوله: «جُنَّة» أي: وقاية يتقي بها العبد الذنوب في الدنيا، ويتمرَّن به على الخير، ووقاية من العذاب، فهذا من أعظم حكم الشارع من فوائد الصيام. بهجة قلوب الأبرار (ص: 95).
وقال ابن هبيرة -رحمه الله-:
واعلم أن الصائم لما أجن الإيمان، أي: ستره في قلبه، كان صومه جُنَّة له، أي: سترًا من كل سوء في ظاهره.
وقوله: «فليقل: إني صائم» مما يُستجَنُّ به أيضًا؛ لأنه اعتذار عند من عساه أن يستدعي منه أن يعينه في ملاحَّاة خصم، وهو كالعذر أيضًا لنفسه إن ترك ملاحَّاة خصمه، فيقول: إني صائم، أي: لا أترك نصرك أيها الرفيق خذلانًا لك ولا أيها الْمُمَاري (يعني: المجادل) لي عجزًا عن إيراد الحجة عليك، ولكن من أجل إني صائم. الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 88).
وقال الشيخ حمزة محمد قاسم -رحمه الله-:
معنى الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الصوم وصفًا دقيقًا يبين فيه فائدته بالنسبة للصائم، فقال: «الصوم جُنَّة» أي: وقاية للإنسان من المعاصي؛ لأنه يكسر الشهوة، ويسد مسالك الشيطان إلى النفس البشرية، فيحميها من الخسران، ويصونها من النيران. منار القاري (3/ 201).
وقال ابن رجب -رحمه الله-:
قوله: «الصوم جُنَّة» هذا الكلام ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه كثيرة، وخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخرجه الإمام أحمد بزيادة، وهي: «الصيام جنة، وحصن حصين من النار»، وخرج من حديث عثمان بن أبي العاص، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «الصوم جنة من النار، كجنة أحدكم من القتال»، ومن حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «قال ربنا -عز وجل-: الصيام جنة يُسْتَجَنُّ بها العبد من النار»، وخرج أحمد والنسائي من حديث أبي عبيدة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «الصيام جنة ما لم يخرقها»، وقوله: «ما لم يخرقها» يعني: بالكلام السيء ونحوه؛ ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ سابَّه فليقل: إني امرؤ صائم»، وقال بعض السلف: الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل، وقال ابن المنكدر: الصائم إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع...جامع العلوم والحكم (2/ 804).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
«الصوم جُنَّة» أي: وقاية وستر يقي الصائم من اللغو والرفث؛ ولذلك قال: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب»، ويقيه من النار؛ ولذلك روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنَّة يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار». مجالس شهر رمضان (ص: 16).
قوله: «وحصن حصين من النار»:
قال محمد عبد الرحمن المباركفوري -رحمه الله-:
الحِصن: بالكسر كل مكان محمي منيع لا يوصل إلى جوفه، والحصين من الأماكن المنيع، يقال: درع حصين، أي: محكمة، وحصن حصين للمبالغة. تحفة الأحوذي (8/ 131).
وقال الشيخ موسى شاهين -رحمه الله-:
الحِصن: القصر المسور بسور خاص لحماية مَنْ به من الأعداء، والوصف بحصين للتأكيد، فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي: محصن من بداخله. فتح المنعم (1/ 381).
وقال المناوي -رحمه الله-:
قال المحقق أبو زرعة: من هذا الخبر وما قبله وما بعده أخذ جمعٌ أنَّ الصوم أفضل العبادات البدنية مطلقًا، لكن ذهب الشافعي إلى أن أفضلها الصلاة. فيض القدير (4/250).
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-:
قوله: «جُنَّة» فهي الوقاية والستر عن النار، وحسبك بهذا فضلًا للصائم. الاستذكار (3/373).
وقال ابن حجر -رحمه الله-:
وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: «حسبك بكون الصيام جنة من النار فضلًا»، وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال: قلتُ: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له»، وفي رواية: «لا عدل له»، والمشهور عند الجمهور: ترجيح الصلاة. فتح الباري (4/ 104).
وقال النووي -رحمه الله-:
فالمذهب الصحيح المشهور أنَّ الصلاةَ أفضلُ من الصوم وسائرِ عباداتِ البدن....، وأما الدليل لترجيح الصلاة وهو المذهب فأحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة (منها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أَحبّ إلى الله» وفي رواية «أفضل» فقال: «الصلاة لوقتها» رواه البخاري ومسلم
ويُستدلُّ -أيضًا- لترجيح الصلاة بما ذكره المُصنِّف، من كونها تجمعُ العباداتِ وتزيدُ عليها؛ لأنه يُقتلُ بتركِها، بخلافِ الصومِ وغيره.
ولأنَّ الصلاة لا تسقطُ في حالٍ من الأحوالِ ما دامَ مُكلَّفًا، إلَّا في حقِّ الحائضِ، بخلافِ الصوم، والله أعلم.المجموع، شرح المهذب(4/٣).
وقال العراقي -رحمه الله-:
وروى النسائي عن أبي أمامة قال: «أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم، فإنه لا مثل له»، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الصوم أفضل العبادات البدنية، ولكن المشهور: تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» رواه أبو داود وغيره. طرح التثريب (4/ 92).
وقال ابن العربي -رحمه الله-:
فإن قيل: فهل يكون (يعني: الصيام) أفضل من الصلاة بهذا المعنى؟ قلنا: إن العبادة على ضربين: متعدية ولازمة، فالأفضل منها اللازمة؛ لأنه منها، فإن قيل: والصلاة لازمة، فهل هي أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصلاة، وإنما يكون فضل الصوم بعدها. المسالك في شرح موطأ مالك (4/ 241).
وقال الشيخ محمد بن علي الإتيوبي -رحمه الله-:
عندي: أن ما قاله الجمهور أرجح؛ لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيَّ العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله...» الحديث، متفق عليه؛ ولحديث أحمد وابن ماجه والدارمي بإسناد صحيح، وفيه: «واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة».»؛ فتحمل خيرية الصوم المذكورة في حديث الباب على غير الأمور المذكورة في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، ونحوها -والله تعالى أعلم-. ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/90).
وللاستفادة من الرواية الأخرى ينظر (هنا)